إعلان

''سطوح'' وسط البلد.. حياة بين السماء والأرض

10:48 م الإثنين 09 ديسمبر 2013

''سطوح'' وسط البلد.. حياة بين السماء والأرض

كتبت - إشراق أحمد ودعاء الفولي ورنا الجميعي:

طوابق عمرها أكبر من عمر سكانها الحاليين؛ فسكانها الأصليين انغلقت أبواب شققهم على ما فيها من ذكريات وصور، إما لانقضاء أعمارهم أو تركها سواء لهجرة أو كرهًا، لتحويل معظم العمارات لشركات خاصة.

في الطابق الخامس بإحدى عمارات ''الشواربي''، التي تعد أقدم العمارات بوسط القاهرة، كانت تلك الأبواب لا يميزها عن بعضها سوى لافتة كُتب عليها اسم صاحبها؛ هدوء ساد الطوابق الخمس، لم يكسره سوى صدى صوت حركة أقدام وحديث ظهر من ''وراء النوافذ المفتوحة المطلة على ''المنور'' لسكان العمارة المقابلة؛ نافذتان كبيرتان تتواجدان بكل طابق، هي ما تمكن من رؤية الجيران لبعضهم البعض سواء في المصعد أو عند دخول شققهم.

لم تكن النهاية مع الأبواب المغلقة والشقق التي أشار المصعد إلى أن الطابق الخامس هو الأخير لها، بل لحظة سير طفل أسمر اللون على ممر حديدي ظهر بالجهة المقابلة لنافذة العمارة الخارجية، كانت بداية المعرفة بسكان الطابق السادس الذي لا يشير المصعد أو السلم لوجوده.

''محمد، وإبراهيم'' بعد أن انضم الأخير إليه؛ أشارا مبتسمين للعودة إلى بهو العمارة والصعود من السلم؛ الصغار الذي ينتمي الأول منهم للصف الأول الابتدائي بينما الثاني لازال في ''الحضانة''، اعتادا على رحلة الوصول لمسكنهم عبر سلم أخفاه باب جانبي بمدخل العمارة؛ سلم حديدي ضيق يمتد في الجهة الخلفية للعمارة '' المنور'' حتى السطح.

رائحة القمامة مع الحذر من الدرجات السلمية غير المستوية أو المنكسرة هي رفيق رحلة الصعود إلى سكان الطابق السادس، ذلك السلم العابر على مطابخ سكان العمارة الأصليين هو المتعارف على إنشاءه قديمًا كمخرج للطوارئ أو ما أطلق عليه ''سلم الخدم''.

وبالوصول إلى الممر الحديدي انكشف سطح عمارة '' الشواربي'' على حجرات صغيرة ذات أبواب وبعض الجوانب الخشبية، ضمت سكان ذو ملامح سمراء بشوشة فمن أقصى الصعيد حيث الأقصر وأسوان وفدوا إلى وسط القاهرة للعمل، والمهنة '' حارس عقار''.

أغلب سكان الحجرات التي لا تتعدى مساحتها أمتار قليلة إما كان حارس لذلك العقار الذي امتلكته إحدى شركات التأمين فأصبحت تكلفه بتلك المهنة لكنهم انهوا معاشهم، أو توفوا ففضل الأهل المكوث بالحجرة مقابل مكافئة نهاية الخدمة والاكتفاء بالمعاش، وأخيرًا كان حراس لذلك العقار وانتقل إلى آخر لكن ظل محتفظًا بالحجرة.

عائلة ''رجاء''..17 سنة ''سطوح''

 أسّطح وسط البلد

أمام صنبور مياه أُحيط بكتلة خرسانية وقفت ''شيماء'' تحمل شقيقتها الصغيرة ''نورا''، التي لم تتعلم الحديث بعد ''الحمد لله وحلوة''، هي كل ما تحمله شيماء ابنة السادسة عشر عن حياة السطح، بينما وجدت والدتها التي انشغلت بإعداد الغذاء أن غلاء الأسعار هم أكثر شيء يضيق صدرها منه ''الغلو هو المشكلة اللي بنعاني منها اللي جاي على قد اللي رايح''.

''أم شيماء'' لم يمر على تواجدها بالسطح سوى خمس سنوات خلاف شقيقتها ''رجاء''، التي تسكن بالحجرة المجاورة لها منذ 17 عامًا، ومع ذلك لم تتغير لكنها الأقصرية كما لم تتغير وتيرة الحمد السائدة لكلماتها ''الحمد لله على كل حال''.

7 أبناء أكبرهم تزوجت وانتقلت بعيدًا عن السطح بينما الأصغر ''محمد'' يلعب أمام الحجرات، يمنع والدته بين الحين والأخر إذا فكرت يومًا بالانتقال ''بيقولوا لي احنا اخدنا على هنا خلاص''، حسبما قالت ''رجاء'' رغم أنه لم يعي قبل 17 عامًا أيام ''الزمالك'' ؛ حيث كان الأب حارس لإحدى العقارات هناك أما السكن فكان تحت السلم ''في البدروم''، لهذا السبب لم يمكثوا كثيرًا ومع أول فرصة للانتقال كانت الوجهة لـ''سطوح وسط البلد'' مع العمل بها.

البراح الذي عاشت فيه ''رجاء'' بالأقصر جعل سطح ''وسط البلد'' أفضل مكان يمكن أن تسكنه بالقاهرة بدلًا من ''البدروم تحت الناس'' خاصة مع مهنة زوجها ''هم البوابين كده يا فوق الناس يا تحت الناس يا يدفنوكي تحت أرض واصل يا يطلعوكي في السماء''، قالتها السيدة الأربعينية التي لا تنكر ضيقها من أعظم المشاكل المواجهة لهم ''السلم والسور''.

سور طول طفل صغير هو ما يحيط بسطح العمارة القديمة ذات الطابع الإيطالي والتي رحل أغلب سكانها مما دفع زوج رجاء بعد أن ''اتوحشها'' مع أول فرصة للانتقال مرة أخرى عاد إلى إحدى عمارات الزمالك دون أن تنتقل عائلته.

ورغم الأمتار الصغيرة ومشقة السلم، وخزانات مياة العمارة التي قد يسبب أي تسريب بها في حدوث ماس كهربائي واشتعال الأسقف الخشبية كما حدث ذات مرة فانقطعت الكهرباء لأيام حتى انجلت المشكلة، غير أن ''الاختصارة'' بلهجتها الأقصرية هي أكثر ما يحيد ''رجاء'' عن فكرة الانتقال والتي تعني ''تبقى قافلة بابك عليكي كل واحد في حالة وإن كلنا زي الأخوات بنسأل على بعض لكن لو في شقة والواحد مات محدش هيسأل عليه''.

وجود شقيقات ''رجاء'' الاثنين جانبها يزيد من صبرها، ففي الحجرة المجاورة استلقى '' نشأت'' ممددًا على سرير يتسع لفرد واحد في غرفة صغيرة، قام بعملية الغضروف، ومازال في فترة النقاهة، يعمل هو الآخ حارس عقار منذ 17 عامًا، أمطار الشتاء أكثر ما يؤرق حياة الرجل الأربعيني خاصة وأن اغلب أسطح الحجرات من الخشب.

''سعادة'' ..عجوز السطح المفرحة

 أسّطح وسط البلد

برداء أهل النوبة التفحت بوشاحه المعروف المغطي للرأس والجسد، تتسارع أنفساها فقد قطعت لتوها رحلة صعود السلم الحديدي بعد أن انتهت من شراء احتياجاتها، تستقبلك بوجه لا تفارقه الضحكات حتى عند إخبارك وتأسفها إذا ما توقف حديثها لتذكر شيء ما، لما تعانيه من بدايات مرض ''الزهايمر''.

''اسمي سَعادة بلهجتنا لكن هنا يعرفوه سعاد''، تحدثت السيدة الستينية عن نطق اسمها الذي تفضله بلكنة الصعيد الأسمر عن أهل القاهرة، داخل حجرة لا تتعدى مساحتها عشرة خطوات تعيش ''سعادة''، منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، عندما ارتحلت مع زوجها عن أسوان ليعمل حارس عقار بوسط القاهرة.

سقف خشبي هو ما تحتمي به ''سعادة'' ومسند فراش تركن له ظهرها بعد وفاة زوجها الذي كان يشاركها تلك الأمتار الصغيرة التي شاء القدر ألا تحتضن أبناء، فلم يعد لها سوى تلفاز يسلي أوقاتها، وإطار يحمل صور قديمة لعائلتها قرب الباب الخشبي الذي ينغلق عليها لتجلس على أريكة خشبية أيضًا ناظرة أغلب الوقت لتلك الصور فتشعر '' بحزن عليهم''.

ومع ذلك لا تجد ''سعادة'' غير ابتسامة عريضة سمحة تقدمها لزائريها النادرين، فرغم السنوات المارة على السيدة حرصت ألا تختلط بأحد إلا إذا همَّ أحدهم بذلك '' أنا مختصرة ، بقفل بابي ما ليش دعوة بحد'' قالتها بلهجة أهل أسوان.

سقف مبني يحميها من مطر الشتاء وموجات البرد القارسة هو كل ما تتمناه ''سعادة'' إذا لم تتحقق بعد كل تلك السنوات أمنية سكن إحدى الشقق للتخفيف من عبء صعود السلم.

''رياض''.. طفل السطح و''الطيارة الورق''

 أسّطح وسط البلد

على بقايا فراش وُضع خارج الحجرة اتكأ ''رياض'' على مسنده هائمًا رغم صغر عمره الذي لا يعلمه، مرتديًا قميص وبنطال في انتظار والدته التي لم تعد بعد من عملها.

أحلامه يشكلها فوق أرض السطح بينما تتساقط أسانه تستبدل بعدها البعض '' نفسي أطلع ظابط'' هكذا تشكلت إحدى أحلامه أثناء عودته من المدرسة ورؤيته لمدرعات الجيش أمام مبنى دار القضاء العالي '' بعد ما شوفت الدبابة لما تيجي المظاهرات بيقفلوا الطريق ومابتخليش حد يعدي''.

ملامحه السمراء الباسمة بترحاب وأريحية في الحديث لمن لا يعرفه لم تزد من كلماته القليلة الخجولة عن حياته على السطح ''بحب السطح عشان بلعب مع القطط''، قالها ''رياض''، مشيرًا إلى إحدى القطط العابرة التي لا يمنع حبه لها أن يكون تبولها أسوأ ما يضيق له صدره فوق السطح خلاف السلم الحديدي الذي لا مفر منه يوميًا بالصعود والنزول، فأصاب وجهه عبوس سرعان ما انجلي وعادت له ابتسامته مع تذكر الطائرات الورقية التي يطلقها من أعلى السطح.

''رمضان'' خال الصبي الصغير ذي الست سنوات كما أكد لا يضيره من الحياة فوق سطح وسط البلد سوى السلم والقمامة وزاد على تلك المشاكل البائعين المتجولين المفترشين للطريق.

''عم صابر''.. عامل نظافة السطوح

 أسّطح وسط البلد

ظهر مُنحني، يدان تمسك بـ''جوال'' كبير يمتد بطول الظهر، وجه صبوح، كلمات طيبة رغم ''الشقا''؛ فالجهد الذي يبذله ''صابر'' لم يؤثر على روحه، كذلك الحياة لم تأخذ شيئًا من قناعته بالحال مهما بلغ ضيقه.

25 عامًا لم يبرح ''صابر'' مهنته كعامل نظافة بعمارة الشواربي، يحمل شواله ثلاث مرات أسبوعيًا، يمر على الشقق جميعها من مستخدمي المصعد الكهربائي ''الاسانسير'' ليحصل على رزقه، إلى صعود سطح العمارة، الذي يحتاج الوصول إليه كثير من الجهد؛ الثمانية طوابق ليست المشكلة الوحيدة، فهناك السلك الحديدي القديم الذي تتحرك جوانبه وهو الطريق الوحيد للسطح.

انتقل ''صابر'' من موطن ولادته ''الوادي الجديد'' لبولاق الدكرور بالقاهرة، ليصبح قريبًا من محل عمله، ورغم عمره الذي قارب على السابعة والخمسين، إلا أن ''صابر'' لم يفكر بالعمل بأي مهنة أخرى، فذلك على حد قوله ''أكل عيشي.. اسيبه ليه''.

الأربع عمارات التي سميت بعمارات ''الشواربي'' تم توزيع الاهتمام بنظافتها على أربع أشخاص منهم ''صابر''، ورغم أنه يعمل بشكل حر، لا يتبع أي مؤسسة حكومية أو خاصة، إلا أن السكان عرفوه، ولكن الحال ''زمان'' كان أفضل في كل شيء من وجهة نظره.

الأموال التي يتقاضاها ''صابر'' مقابل خدماته ''ده رزق''، على حد قوله، ولا يحب التكلم عن قدرها، إلا بأن ثمن تحصيل القمامة من شقق العمارة مختلف عن ثمن قمامة السطح ف''صوابع الإيد مش زي بعضها''.

''لما بلاقي قلق مبنزلش''، قال ''صابر'' عن العمل في منطقة مليئة بالأحداث لحد كبير كوسط البلد، ''الستر'' و''الصحة''، هما ما يريده ''صابر''، لا سكنًا أفضل، أو أموال إضافية، فقط القدرة على العمل وعدم الاحتياج لأحد.

''مديحة'' و''ياسر''.. الركن الأخضر بالسطح

 أسّطح وسط البلد

في الجهة الجانبية لتصميم الواجهة المعروفة بها '' الشواربي'' ويطلق عليها سكان السطح '' البلكونة''، كانت حجرة أخرى انتشر حولها الكثير من اللون الأخضر الذي جعلها مميزة عن غيرها؛ فالسيدة ''مديحة'' قاطنة الحجرة تحب الزراعة وقررت أن تعوض عن تركها لقريتها بالأقصر وهي عروس بالزراعة حول حجرتها الصغيرة التي ضمت أبنائها الأثنين وزوجها الذي وافته المنية.

لم تختلط '' مديحة'' منذ 30 عامًا إلا بجيرانها على السطح أما سكان الشقق لم تر أي منهم إلا صدفة ولا تعبأ بذلك فهم '' الناس الهاي اللي فوق'' حسب تعبيرها.

جلست '' مديحة'' على أريكة خشبية أمام الحجرة أحيط بها الزرع الأخضر متحدثة عن العمارة التي كل ما تعرفه عنها إنها كانت ملك '' الشواربي باشا'' ثم انتقلت إلى الدولة بعد تأميمها لذلك '' الباشا مات غلب لما أخدوها منه''، وكذلك عن أمنيتها التي ترغب فيها من هذه الحياة وهي شقة ووظيفة حكومية ثابتة لابنها '' ياسر'' الذي استند إلى باب الحجرة مبتسمًا.

''ياسر'' ابن الـ28 عامًا يعمل محاسبًا بإحدى المكاتب التجارية بمدينة العبور ورغم المسافة غير أن ذلك بالنسبة له أفضل من لا شيء '' هو حد لاقي شغل اليومين دول الحمد لله''.

''المشكلة الوحيدة اللي بنعاني منها مافيش اسانسير يوصل لغاية هنا لولا كده المكان ده بالنسبة لي جنة'' تحدث ''ياسر'' عن المشاكل التي يعاني سكان ذلك السطح والبالغ عدد 6 عائلات منها متشعبة الفرع '' اللي معاه أخوه أو أخته ومتجوز''، هذا إلى جانب الحمامات المشتركة البالغ عددها ثلاثة.

السطح في حياة '' ياسر'' بمثابة ساحة عرض للأحداث التي لا يشاهدها إلا مَن سكن سطح وسط البلد، متذكرًا اللحظات التي تنغلق فيها جميع الشوارع ويصبح السطح المنتشر عليه قوات الأمن لتأمين موكب رئيس الجمهورية وقتها '' محمد حسني مبارك'' المكان المتاح للمشاهدة، كما كان الوضع أيام '' محمد أنور السادات'' لكن تلك الفترة شهدتها والدته التي تحتفظ بصورة لها '' بحب السادات عشان كل الناس كانت لاقية تاكل وعايشة''.

سنوات لم يختفِ فيها الأمن الذي كان يشارك السكان مشاهدة الموكب '' كنا بتفرج مع رجال الأمن جنبا إلى جنب '' حسبما قال الشاب العشريني لكن اختلف طريقة العبور من تحت العمارة إلى طائرة هليكوبتر تحلق فوق الرؤوس، بينما الأن تقبع المدرعات أمام مبنى دار القضاء العالي والبائعين الجائلين في محيط الشوارع.

الأحداث منذ ثورة يناير شهد عليها '' ياسر'' من فوق سطح العمارة إما برؤى العين أو تسجيلها بالتصوير ''هو أنا كان ورايا حاجة غير التصوير''؛ شغف أصاب الشاب العشريني تجاه الأحداث تحول إلى فتور بعد عامين لتكرار المشاهد من اشتباك وملاحقات.

مشاهد أخرى كان لمعاناة السلم سبب رئيس في ضياعها على ''ياسر''، كذلك اليوم الذي تذكره مبتسمًا؛ حيث منعه السلم من رؤية تصوير أحد مشاهد فيلم ''مافيا'' الذي تم تصويره فوق السطح وكان يتطلب نزول وصعود السلم فما كان إلا أن قال'' على ايه ما كده كده هنشوفه في التليفزيون''.

التعايش مع البراح المفضل لهم هو أساس تعامل سكان سطح عمارة ''الشواربي'' مع كل ما يضيق صدرهم له، على حد تعبير، الشاب العشريني، فأصبحت لكل مشكلة حل حتى في الحالات الحرجة كمرض أحدهم ''لو حد تعب بنحاول نسنده وينزل ولو الحال صعب بنستأذن الشقة اللي تحتنا في الدور الأخير وننزل في الأسانسير''.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان