بالصور- منزل آل دويدار المنهار.. حسرة فقدان الأهل وانتظار الموت
كتبت: دعاء الفولي
ضيقة هي رغم الاتساع، يتقاسم سكانها الفرْح والحزن، لكن الأخير ينتشر كالحمى، في شوارع منيل شيحة الواقعة قريبا من منطقة أبو النمرس بالجيزة، تعيش العائلات الكبيرة سويا، أب وأم وأولاد وأزواجهم وأحفاد، في بيت واحد، لا يكاد يتحمل العدد، بجانب ماشية وطيور، يربونها للأكل أو التجارة، وفي كل الأحوال لا ينفصل أحدهم عن منزل العائلة، سواء بسبب قلة الأموال، أو التعود، حتى إذا ألمّ بالمنزل نازلة، تشاركوها جميعا بالتساوي.
بدأت الليلة بفرح أحد الأقارب، ذهب آل دويدار جميعا إلى العُرْس، ولما عادوا دخل كل منهم لحجرته التي تؤيه وزوجته وأبناءه، خلف أبواب الغرف المغلقة كان كل منهم يحلم بشيء أفضل ربما، بيت أوسع، معاش أكبر، وحياة آدمية. لم تتوقف الأحلام إلا مع سقوط أول حجر من المنزل الكبير الذي يعيشون فيه منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، لم يُمهلهم الانهيار، ولم يبق بعد السقوط سوى أجساد صعدت أرواحها إلى الخالق، وحطام نفسي لن يُشفى لمن عاش بعدهم.
الجارات: ''جاتلهم بلوة.. ربنا يصبرهم''
على مصطبة كبيرة تقع في بداية الشارع الذي يوجد به منزل آل دويدار المنكوب، جلست نساء من المنطقة، إذا ما رآهم أحد حسبهم من أهالي الضحايا، لكنهن مجرد جارات، ووسطهم كانت فايدة، السيدة الستينية التي تلفحت بالأسود، لا يظهر منها سوى وجه ممتليء بالدموع، زادتها الحسرة عمرا فوق العمر، تنظر إلى المنزل بين الفينة والأخرى، لكن لا تستطيع الدخول إلى هناك، أو الجلوس مع النساء أمامه ''كنت جوة البيت بتاعي وسمعت صويت الساعة 11 بليل، خرجت اشوف في ايه لقيت الناس ماتت''، رغم أنها لا تسكن في نفس المنزل إلا أنها ابنة خالة الفقيد سامي دويدار وهو صاحب المنزل.
''البيت من طين''، قالت السيدة المكلومة، فمثله كباقي بيوت المنطقة، لم يستطع أهله التجديد بسبب ضيق اليد، لكنهم رغم ذلك ''كانو بيفكروا يبنوا''، لحظات همهمة تواسي فيها فايدة نفسها، يعقبها بكاء حاد وكلمات ''آه يا سامي.. أنت فين''، كان سامي وزوجته وابنه ''عبد الله'' يعيشون في الحجرة التي تهدمت، وهي في الدور الثاني من المنزل، وأسفلها حظيرة للحيوانات التي ماتت أسفل الأنقاض، ولم يعش من الأسرة الصغيرة إلا حسام ومحمد، الأول يبلغ ست وعشرين عاما، والثاني في السادسة عشر. بجوار فايدة جلست سيدتان من الجيران، لا يجدان الكلمات المناسبة للتعزية، سوى ''جاتلهم بلوة والله.. ربنا يصبرهم''.
للداخل قليلا، بدا الشارع صامتا، ليس به رجال، إذ ذهبوا جميعا للصلاة على الجثث بمسجد عاشور أيوب، بعد خروجها من مستشفى أبو النمرس العام، ولم يمتليء الشارع إلا بجلابيب سوداء نسائية، وصوت القرآن يعلوا من المكان، وفوق الطريق المتحجر الضيق وأمام المنزل المنكوب جلست النساء في صفين على الأرض، تنادي بعضهن على الموتى، وتهدئها الأخرى عنوة أحيانا، والأطفال يلهون حولهن، يمسك أحدهم بطعام يلوكه ناظرا للمنزل، لا يفهم جيدا ما يحدث، سوى أنه لن يرى عم سامي مرة أخرى.
منال: ''المواشي بتاعتنا ماتت''
منال، سيدة ثلاثينية وقفت داخل المنزل، ترفع قدمها بحركة سريعة لتقفز فوق الحمار النائم أرضا، لا يستطيع الوقوف بعد سقوط جزء من المنزل فوقه، تدلف لغرفة واسعة بالمنزل، تطمئن على صغيرتها النائمة على حصيرة، وحولها نشحت المياه على حيطان الغرفة فزادتها برودة، ''احنا اتصدمنا بليل''، قالت منال، فرغم بُعدها النسبي عن الجزء المنهار، إلا أنها شعرت ''كأن البيت كله بيتهد''. وبعد الهرج، خرجت السيدة وأطفالها ليروا الانهيار وجثث حماها وحماتها وابنهما تحت الأنقاض فالمنزل ''كان عايش هنا 6 رجالة بستاتهم وعيالهم''، ورغم أن أرواح البهائم لا تساوي شيئا بالنسبة للبشر، لكن المواشي كانت أحد مصادر رزق السكان، فعلى حد قولها ''احنا مات ليا انا وجوزي معزة وفرسة ونعجة وبنتها''. معظم رجال المنزل من أبناء سامي يعملون باليومية، ومع عدد الأطفال الكثير لكل شخص منهم، فالوضع أصبح مأساوي.
جدران المنزل تحكي عنه، ألوان باهتة، والأرضية مشبعة ببقايا مياه الصرف، رغم تواجد آلة لنزح المياه، لكنها لا تعمل. سلالم البيت المكون من ثلاثة طوابق متهالكة، ورغم أن حالة الطابقين الثاني والثالث أفضل، إلا أن السمت العام للمنزل فقر، وبعد تهدم جزء منه، أصبح الدم ضيفا ثقيلا عليه.
الموت على الباب
حجرة صغيرة بها كل شيء، سرير، جهاز تليفزيون وملابس كثيرة، وعلى بابها جلست سيدة وجهها مكسو بالألم، تمسك طرف الشال الملفوف حول كتفها وتمسح به العبرات، ثم تعاود وضع يدها فوق رأسها، تنظر للسماء، تارّة تمتم بكلمة الحمد، وتارّة تتسائل لماذ يحدث ذلك، صوتها لم يكن موجودا من كثرة النحيب، خرجت الحروف متقطعة كقلبها، ''احنا كتير في البيت، كل واحد فينا عنده سبع وثمانية عيال، نروح بيهم فين؟''، لا تعبأ رضا بجلوسها قُرْب الحطام، رغم معرفتها التامة أن ''باقي البيت هيقع، الشقوق ظهرت في البيت كله''.
عقب سقوط الجزء المنهار، طلب رجال الحماية المدنية من باقي السكان الخروج منه، لكن ''قولنالهم مش خارجين، هنروح فين، هو حد بيستحمل حد دلوقتي''، حتى أن ''رضا'' لا تبالي إذا سقط المنزل فوق رأسها وأولادها ''أهو أموت مع اللي ماتوا''، لا يعرف السكان مصيرهم، فعلى حد تعبيرها ''لما جم بليل قالولنا اتصرفوا واطلعوا من البيت''، لكن ذلك لن يحدث على الأقل الآن.
المنزل من الأساس به عيوب، مجاري غير موجودة، جعلت الحوائط تتشبع بمياه الصرف، فـ''البيت قريب من البحر، كل ما يعلى، المياه بتبهدلنا''، بالإضافة لموسم المطر الذي يجعل الوضع أصعب، فيدفعون المال بشكل دوري لنزح المياه عن الأرض، ومع ذلك فتلك مشكلة بسيطة، فبجانب الأطفال الذين سيصبحون بلا مأوى ''فيه بنات على وش جواز في البيت، 18 سنة و15 سنة، نروح بيهم فين دول، مفيش حد يآمن على بناته عند الناس''. رغم الوجع والغضب ''الحكومة معملتش حاجة.. لا رئيس جمهورية ولا غيره هينفعنا خلاص''، فـ''رضا'' لا تريد سوى بيت جديد للعائلة قبل أن تترك القديم.
كان سامي دويدار –صاحب المنزل وأحد الضحايا- يعمل بالمجلس المحلي، عمره خمسة وخمسين عاما، وابنه عبد الله كان في الثالثة والعشرين، خرج دويدار على المعاش قبيل الوفاة بحوالي شهرين، فهو ممن خدموا الحكومة كما قالت رضا، لكن رغم ذلك ''عمره ما دخلّ البيت قرش حرام، لو كان حرامي كنا عيشنا في بيت أحسن من ده''.
أحمد ذو الثمانية أعوام جلس بجانب والدته، يحاول منع أخويه الأصغر، ملك وأشرف، من الدخول للمنطقة المحرّمة حيث الحطام، ينهر الصغيرة أو يجرها من يدها بعدما تتسلل لهناك، جلس في المنزل مع النساء ليساعدهن، فحظه الجيد أبعده عن حضور لحظات موت جده وجدته، ''كنت في الشغل وقالولي الناس عندكوا ماتوا''، يعمل الصغير ككهربائي في إجازة منتصف العام ليساعد والده، وكأمه لا يتمنى إلا ''بيت نسكن فيه''.
دلوقتي تقدر تعبر عن رأيك في مواد الدستور الجديد من خلال استفتاء مصراوي..شارك برأيك الآن
فيديو قد يعجبك: