''أمهات الميدان''.. الرعاة الرسميون لثورة الشباب
كتبت- إشراق أحمد:
كسرت بقرارها حاجز خوف وضعه غيرها، هتفت واكتفت بالصمت، بكت وفرِحت، احتدت وهدأت، عارضت وأيدت، التحمت مع حشد احتضنه ميدان تكون في رحمه ''ثورة'' كان لها من سمة أهلها لقب ''شعبية''، تطبع بها في وحدة صفها وتطبعت به في انقسامه، ذابت مع مناداة أبنائها ''ماما...''، كثير ما عبر سمعها تلك الكلمة لكن هنا أعادتها سيرتها الأولى مع وليدي رحمها الذين تركتهم وتركوها لأجل 18 يوم وما بعدها اكتسبت بهم من القلوب الصغيرة ما يثبتها على البقاء.
''أمهات الميدان'' الأكبر عمرًا في ثورة انتسبت إلى الشباب بهدر دم أغلب من في تلك المرحلة العمرية ممن شاركوا بها، لهن من المشاهد ما لغيرهم على مدار أعوام ثلاثة، لكن أنفسهن كانوا كالرحم ينجب المختلف من الأبناء ويجمعهم وينقسم كحالهن.
''أم محمد''، ''ماما نور'' لهما من العمر ما بعد الأربعين بأعوام، وحيدة نزلت كل منهما يوم 25 يناير 2011، لكل منهما سبب مغاير دفع للمشاركة لأول مرة مع جمع يهتف بإسقاط نظام، معًا تواجدا بالميدان شهدا كل أحداثه، لم تتركاه طوال الأعوام الثلاثة، كانت لهما منذ البداية الاختلاف في الرؤى حملوها بالميدان طوال 18 يوم لكن ما لبث أن تجلى الاختلاف والانقسام مع الذكرى الثالثة.
''ماما سعاد..''
حاملة صورة الفريق أول ''عبد الفتاح السيسي'' بين جمع قرر النزول في الذكرى الثالثة للثورة للاحتفال وتأييد ''الفريق''. لم تبرح ''سعاد'' أو ''أم محمد'' كما يطلق عليها ''صينية '' ميدان التحرير، تغادره ليلًا إلى منزلها ببولاق الدكرور، لتعود إليه نهارًا، هكذا اعتادت منذ 11 فبراير 2011 .
مر يومان، دخل اليقين إلى قلب ''أم محمد'' بأن ما يحدث حقًا ثورة، ومع اليوم الثالث 28 يناير ''جمعة الغضب''، توجهت السيدة إلى ميدان التحرير .
من ميدان عبد المنعم رياض استطاعت ''سعاد'' الدلوف إلى الميدان، لتشهد قنابل الغاز، وتسمع دوي طلقات الرصاص، ورشق الحجارة، احتمت بإحدى الأعمدة حتى جاءها عدد من الشباب يخرجونها لمكان أمن.
انسحبت قوات الأمن وبقيت ذات الجلباب الأسود وغطاء الرأس ''الفستقي'' –الذي ارتدته ذاك اليوم- مع جموع الشعب، ورغم أنها لم تترك الميدان يومًا حسبما قالت غير أنها لم تعتصم ''مابعرفش أنام غير في بيتي''، الكثير ظل يلقبونها بـ''ماما''، تتبادل الحديث مع الكثير من مختلف الاتجاهات، ما كان يضايقها غير وجود الإخوان بالميدان، فتعاملها بالسابق مع عدد ممن ينتمون ''للجماعة'' سبب لها ذلك الكره، بل إنها ترى ''99 في المئة من اللي ماتوا من الثورة لغاية النهاردة بسبب الإخوان''.
لم تخش ''أم محمد'' المشاركة وحيدة في تلك الأجواء الدموية، فزوجها سائق التاكسي ليس له في ''السياسة''، وليس لها من الأبناء ما يصاحبها، وما لقبها إلا رغبة في أن يكون لها ولد تسميه ''محمد''، فقررت أن تكرس عشقها للبلاد الذي قالت عنه ''إذا قالوا لي أعيش في قصر بباريس هافضل أعيش تحت السلم في مصر''.
الهتاف هو ما تجيده ''أم محمد'' رغم أنها لا تجيد القراءة والكتابة، فعرفت في الميدان بذلك، رغم أن أول هتاف لها ''يا جمال قول لأبوك الشعب المصري بيحبوك''، فالسيدة الأربعينية تأثرت بخطاب ''مبارك'' السابق للتنحي، فقررت الذهاب باليوم التالي تجاه ماسبيرو ورفعت لافتة بذلك الهتاف، حتى أنها يوم تخليه عن السلطة أخذت تبكي على عكس الجميع لكنها توضح ''لما عرفت عن المليارات اللي خدها حسيت أنه ظلمنا وجه علينا''، كما أنها لم تقبل يومًا الهتاف بـ''يسقط يسقط حكم العسكر'' قناعةً منها ''احنا معندناش عسكر، العسكر دول المرتزقة لكنا جيشنا خير أجناد الأرض''، بينما هتفت بقلب مستريح ''يسقط حكم المرشد''.
''سيبيني استرزق ياما'' كلمات لا تنساها ''سعاد'' ومعها صورة ''عمرو'' بائع البطاطا الذي سقط قتيلًا العام الماضي أثناء الاشتباكات مع قوات الأمن، فهو أكثر ما ترك بها أثر خاصة أنها شاهدت سقوطه بعد إخباره أن يبتعد بعربته، فما كان الجزاء إلا رصاصة أودت بحياته وترك بعدها ''جنب الحيط'' حتى اليوم التالي.
''دياب، كريم، أحمد'' أقرب شباب الميدان إلى قلب ''أم محمد'' على كثرة محبيها به، فهم مَن كانوا يحمونها وقت ''الضرب''، على مدار ثلاثة أعوام على الثورة كان لها شعور مختلف في 2011 ''مضايقة افتكرت الناس اللي ماتت'' و2013 ''كانت أصعب سنة عشتها عشان مرسي'' أما الذكرى الثالثة تأتي وتريد معها أن تكتمل الفرحة بمجيء حق الشهداء منذ مقتل خالد سعيد ''لما السيسي يمسك البلد'' فهي تراه المنقذ الذي استطاع بكلمة ''شال كل ده عننا.. كنا هنبقى زي سوريا''.
''ماما نور''..
بمنزلها تستعد للنزول في الذكرى الثالثة للثورة وتدعو لذلك فحتى الآن ''لم تتحقق مطالب الثورة في نظرها''، والحزن أصبح رفيق مرورها على الميدان الذي اتخذت من مدخله بقصر النيل مكان تلقى به ذكرياتها عندما كانت تقف أغلب الوقت في لجان التأمين.
طفولتها الرافضة للظلم، كان حصادها في يناير 2011، ربما اتخذت من ميلادها في اليوم السادس من ذلك الشهر قبل 47 عامًا شيئًا من صفاته، فحينما سمعت بشارعها الذي تقطن فيه بمنطقة إمبابة، عن دعوة للاحتشاد بميدان التحرير، وتأكد الخبر في الإعلام، ما لبثت أن قالت ''ياريت الناس تتعدل''.
فمن طابور ''العيش'' إلى نهر الجيران عن رمي القمامة وغيرها من التصرفات التي تبدو بسيطة أمنت ''نور'' بالتغيير، فانعكس عليها بالميدان، لم تقبل أن يسب أحد أو يحمل شخص بين يديه حجر يقذفه رغم طلقات النار وقنابل الغاز التي تتوالى على المعتصمين وهي من بينهم، لكنها آمنت بالسلمية.
توجت ''نور'' هي الأخر للميدان وحيدة فمرض زوجها يمنعها من مصاحبتها وكذلك أبنائها، فالابن الكبير هو من يرعى مصالح الأسرة بعد مرض الأب، و''محمد'' لازال في المرحلة الإعدادية، والابنة ترعى الأب في غياب والدتها التي قررت أن تكون صوتهم بالميدان غير عابئة بضحكات البعض وقتها عندما تقول ''نازلة عشان الكوسة بقت ب7 جنيه''.
أيام طوال مرت على السيدة، اعتصمت بها 18 يوم نظرًا لحظر التجوال المفروض، لا تنسى أول مرة مُنحت لقب ''ماما نور'' وعرفها مَن بالميدان بذلك، حينما كتبها شاب لم تعرف عنه شوى أنه ''استشهد في محمد محمود''، على ظهر الكرسي الخشب الذي كانت تصطحبه معها ''ومن ساعتها وكل اللي في الميدان بينادوني بماما''.
لم تنكر السيدة الأربعينية تواجد أصحاب المصالح بالميدان، لكنها كذلك لا تستطيع نسيان الكلمة الواحدة التي جمعت الحشود، التي انقسمت على مدار عامين وأصبح كل طرف في جهة بعد 30 يونيو حسبما قالت ''ناس عايزة السيسي يبقى رئيس في ناحية، والثوريين في ناحية، وناس مش مع حد زيي''.
''كلنا بنحب بلدنا المعترض والمؤيد بس كل واحد بيحبها بطريقته''، لكنها في الوقت ذاته طالما تمنت أن يتواجد ''ناس عاقلة''، فهي على يقين أن ما تمر به البلاد ''فتنة كبيرة'' يؤلمها فيها دماء الشباب التي تراق .
تتذكر ''ماما نور'' قلقها يوم تنحي ''مبارك'' فهي لم تفرط في فرحتها خوفًا من أن يحكم الإخوان ليس كرهًا من منطلق أنهم قتلة وإرهابين على حد قولها لكنهم ''أنانيين عايزين مصلحتهم''، فكانت على يقين أنه ليس الوقت المناسب لقيادة تلك المرحلة، لكنها استبشرت بالخير لعل في المحاولة يكون التغيير، فهكذا تؤمن وكذلك فعلت عندما رشحت نفسها بانتخابات مجلس الشعب 2011 كمستقلة عن دائرة إمبابة أملة في عمل شيء لمنطقة سكنها موقنة أن ''يكفيني شرف المحاولة''.
''اللهم ولي مَن يصلح'' كلمات يختلج لها قلب السيدة الأربعينية وتناجي بها في دعواتها وصلاتها، متألمة لمشهد الدماء و''الظلم'' الذي تراه في حبس العديد من الشباب والانقسام الذي يجوب البلاد متشبثة بحق النزول ليس للاحتفال هذا العام لكن للمطالبة بما نادت به الثورة وإن لم تهتف هي به واكتفت بتبادل الحديث ''عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: