تُراثنا المُهمل- متحف ''محمد ناجي'': عُزلة في الحياة و''زيارة كل فين وفين''
كتبت - يسرا سلامة:
وسط مساحة واسعة من الصحراء الممزوجة ببعض الخضرة، وعلى مقربة منش قمة أهرامات الجيزة في كفر غطاطي، يقبع مرسم الفنان "محمد ناجي"، والذي استقى منه الإلهام لمعظم لوحاته الزيتية، والذى تحول بعد رحيله إلى متحف يضم معظم أعماله الفنية، متروكة في متحفه لا تستقبل سوي بعض الطلاب أو الأجانب أو من أصحاب الفضول لمشاهدة لوح الفنان.
حالة الهدوء والسكينة التي تحيط بالمرسم كانت أساس اختيار "ناجي" للمكان، والذى تشابه مع كثير من الرسام والفنانين من أجل هدوء يعطي للإبداع مساحة على لوحاته، لكن حالة الهدوء تحولت إلى عُزلة تفرض نفسها على المتحف، والذى لا يعرفه الكثير من أبناء المنطقة حوله، لولا لوحة كبيرة كُتب عليها أسم المتحف، وفندق شهير بجانب متحفه، لما عرف أحد الطريق إلي المرسم.
وكأنها قدره المحتوم، عزلة لاختارها الفنان في جُل وقته لمزيد من الإبداع وترك العنان لريشته، وعزلة على كنوزه من اللوحات الزيتية، فهنا في مرسمه ظلت مقتنيات "ناجي" تخبرك عن حياته، أثاث بسيط، كرسي هزاز، وصندوق خشبي يحوي بضع من بدله الأنيقة، و"شيفونيرة" عتيقة ترك الزمن عليها مجموعة من الأتربة، وبعضاً من عوامل التعرية.
وعلي يد "فاروق حسني" وزير الثقافة الأسبق، تحديداً في عام 1991، تم افتتاح المتحف في ثوبه الجديد، بعد أن تحول المرسم إلى مباني بيضاء، تحوي صالتين أساسيتين لعرض أعمال الفنان، الأولي هي بالأساس كانت المرسم الخاص به، والثانية مستجدة من قبل وزارة الثقافة لعرض لوحاته، بجانب مكتبة ومخزن تحوي بعض الأعمال والمقتنيات.
"ناجي". نشأة فنية بروح القانون
ألواح زيتية وبعض من مقتنياته، بقيت للفنان التشكيلي السكندري هنا في محافظة الجيزة، تري في أعماله ومقتنياته بعض من روحه، بقيت حتي بعد رحيله، "ناجي" من مواليد 17 يناير عام 1888 ابن الإسكندرية من قرية "أبو حمص" على ترعة المحمودية، لأبوين من عائلة عريقة وميسورة، كانت تهوي الفن، وتنفق كل مليماً علي الشعر والرسم والموسيقي لـ"ناجي" وشقيقته "عفت"، حيث شب الطفل في جو مشبع بالثقافة والفن، وتلقي دروس الرسم والموسيقى كالكمان والعود.
بدأ "ناجي" حياته شاعراً حيث كتب مجموعة من الأشعار المصرية والفرنسية، ثم عرف الطريق إلى الفن من القانون، بعد حصوله على درجة الليسانس من جامعة ليون بفرنسا في 1910، سافر بعدها إلى فلورنسا بإيطاليا، لتكون المدينة الاوروبية منشأ "ناجي" الفني، وملهمته الأولى لأن يمسك بفرشاته وألوانه يعبر عن جمالها، متأثراً بأستاذه الفنان الإيطالي "بياتولى"، وبالجو الفني هناك.
وتنقسم لوحات "ناجي" كما انقسمت حياته إلى ثلاث مراحل، في إيطاليا ثم الحبشة، حين حصل علي بعثة قضي فيها سنة كاملة هناك، ليختتم رحلته في مصر، تركت عروس البحر في نفس الفنان أثراً كبيراً ظهر في لوحاته،
ويحوي متحف "ناجي" مجموعة أعماله تخبرك عن أثره، فهنا في صالة 2 توجد لوحات آثار بومبي الإيطالية وبرج فلورنسا بإيطاليا، وأيضاً لوحة لحديقة أنطونيوس بالإسكندرية، تأثر فيها بما قدمه من لوحات ايطالية، لتجد بجانبها صورة للريف المصري في نهاية الثمانينيات، وتتعرف عليه من لوحات ناجي، مثل لوحة "الرحايا" التي التقط فيها النساء يطحن الحبوب بجلابيبهن السوداء.
لوحات "الريف"..تنقل العادات قبل الصورة
لم تلتقط فرشة الفنان التشكيلي فقط مظاهر الريف من الخارج، لكنه كان يبرز في لوحاته العادات المنتشرة في الريف، مثل ما رصده في لوحة "الطب في الريف" الذى التقط فيها العادات الطبية أثناء علاج الاطفال، أو العلاج بالقرآن برسمه للمقرئ المتواجد أثناء العلاج.
كما رسم "ناجي" مجموعة من اللوحات من خياله عن الفن المصري الفرعوني، كما ترك مجموعة من اللوحات عن العادات المصرية في الأقصر، أثناء زيارته إلى قرية "القرنة" هناك، رسم فيها عادات النساء في الأفراح، ورسم الندابات اللاتي يتواجدن بعد الوفاة، كما رسم عادات المصريين أثناء صيد الحيوانات، كما رسم الشيخ "عبد الرسول" صاحب الفندق الذى كان يقيم فيه هناك.
كما تأثرت لوحات "ناجي" بمناخ الاستقلال والنهضة الذى صاحب الحركة الوطنية المصرية، ويترك في أثره الزعيم الوطني "مصطفي كامل" أثراً كبيراً، خاصةً بعد حادثة دنشواي، ليهديه "كامل" صورة فوتوغرافية تبقى في ممتلكات "ناجي" حتي الآن، ليبحث بعد ذلك الفنان على الأم الروحية لمصطفى كامل وراعية دعوته الوطنية "جوليت آدم" ويرسمها في لوحة كبيرة تزين متحفه حتى الآن.
وفى الصالة الأخرى لعرض لوحاته، زُين سقف غرفتها بلوحة بيضاوية ضخمة للفنان أسمها "جني البلح"، والتي صور فيها عادات المصريين في الريف في قطف ثمار البلح، كما تأثر الفنان الشهير بالقرآن الكريم، ورسم لوحة يجسد فيها قصة سيدنا "موسي"، رسم فيها رجل من عبي فرعون يلتقط طفل من الماء، وخلفه سيدة تراه، تجسيداً لوالدة "موسي"، في لوحة رسمها في عام 1939.
ألواح "الحبشة"..ثمار بعثة "ناجي" هناك
تأتي بعثته إلى الحبشة في عام 1932 مثمرة بمجموعة من اللوحات الزيتية، التي صور فيها "ناجي" مظاهر الحياة في أثيوبيا، مثل الأمير النجاشي الذى يخرج للناس على حصان، والأمير ابنه الذى يخرج خلفه، ويرسم "ناجي" العبيد هناك، ويهديه ملك الحبشة "وحيد القرن" ليبقي في ممتلكاته هو الآخر.
كما نقلت فرشاة "ناجي" النيل الأزرق والأحمر في الحبشة، وصور سعادة أبناء الجنوب بحلول الفيضان، وغناء النساء وفرح الاطفال بموسم مائي جديد، وصور رائد الفنان عادات صيد الغزال، ولوحة "محاكمة في الهواء الطلق" الذى نقل فيها صور لمحاكمة بعض الجُناة هناك، ونقل عادات العزف عندهم في لوحة "موسيقي بريتون" الذى رسم فيها الأداة الموسيقية الشهيرة، ولم يترك صورة الطبيعة الحبشية الخلابة بالخضرة وسمرة أبنائها دون أن ينقلها أثناء بعثته.
كما عرفت فرشة "ناجي" الطريق إلى نفسه، حيث رسم نفسه بألوانه الزيتية، وكذلك رسم بوتريات لعائلته مع الخدم في لوحة زيتية تتوسط معرضه، ورسم نفسه فيها أيضاً، كما ترك بوتريه لشقيقته "عفت ناجي"، مصورها وهى تحمل قطتها، والتي رسمته هي الأخرى في لوحة أخري، ورسم أيضاً بوتريات لفنانين من معلميه.
وهنا في مكان عرض لوحاته، رسم "ناجي" بريشته لوحة فنية يقلد فيها اللوحة الفرنسية الشهيرة "المولود الجديد"، والموجودة في متحف اللوفر، ونسخ منها الفنان لوحة متواجدة في متحفه، كما رسم "ناجي" لوحة كبيرة لمبايعة "محمد علي" والياً على مصر، صور فيها مبايعة رجال الدين للوالي العثماني، بعلم كُتب عليه "محمد علي الوالي المصلح".
ودفعت لوحات "ناجي" ليكون رائد الفنون الجميلة، رسم في حياته بألوان عديدة وعلى مواد مختلفة مثل ألوان الباستيل والزيت وغيرها، على الورق والقماش والخشب والأبلكاش وغيرها، وتبقى في متحفه لوحة تكريم من الرئيس الفرنسي حصل عليها "ناجي" في حياته، وشهادة واحدة من محافظ الإسكندرية "نعيم أبو طالب" تذكر فيها المسؤولون في مصر قيمة الفنا بعد وفاته بربع قرن.
متحف "ناجي".. "زيارة كل فين وفين"
تأثر "ناجي" بالإسكندرية جعله يترك لوحة كبيرة تضم كل من تأثر بهم من الإسكندرية، ويرسم فيها بعض من العظماء في ذلك الوقت من الأدباء والشعراء وزعماء السياسة، فرسم هدي شعراوي وتوفيق الحكيم وطه حسين وأحمد شوقي، متأثراً فيها بالفن الإيطالي، ولم تقتصر لوحات الفنان علي متحفه، فقد ترك لوحة جدارية كبيرة على جدار مستشفى المواساة بالإسكندرية.
"زيارة كل فين وفين" هكذا عبرت "مها" موظفة المتحف عن الزيارات التي تأتي إليه، كل عام يتذكر "ناجي" مجموعة من أفراد لجنة الجرد من وزارة الثقافة، كما تقول "مها"، من أجل الاطلاع على صوره ولوحاته، والتدقيق في عدد لوحاته ومقتنياته المتروكة في مخزن متحفه، والتي لا تجد مكاناً لعرضها حتي بقيت في المخزن، والتأكد من أن العته لم تأكل بدله الأنيقة.
ثماني وستون عاماً عشها "ناجي" وسط مرسمه، حتي وافته المنية وسط لوحاته كما عاش بينها، كانت لوحاته هي الكنز الوحيد الذي تركه لمحبي الفن، دون أن يوجد له وريث، فهو تزوج مرة واحدة من امرأة ايطالية لها ولدان من زوج آخر، لتبقي مقتنياته كنزاً لمحبي الفن.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: