''كروب''.. الثورة بـ''عدسة'' مصور
كتبت- دعاء الفولي:
شاشة سوداء، مشهد رأسي يظهر ازدحام القاهرة ''قضيت 18 يوم الثورة في المستشفى''، قالها الراوي الذي بدأ الفيلم بوصف انطباعه عما يحدث بالتحرير، بينما كانت الثورة مشتعلة في الميدان رآها من غرفته ''كنت سعيد إني مش هضطر أكون هناك وأصور أحداث سياسية''، لا يرى من الشباك سوى دخان القنابل المتصاعد، يسمع أصوات الرصاص تتعانق مع هتاف ''عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية''، تنتهي الثورة وهو في الغرفة، تأتيه بعض من نفحاتها، عن طريق مُصاب بطلقات خرطوش في وجهه، على السرير الآخر بجانبه، يحكي له واقع الميدان، يريه الصور والفيديوهات على الهاتف الصغير، عدم احترافية اللقطات التي أخذها المصاب لم تمنعه الاستمتاع بها، لكونه مصور صحفي، فقد اغتبط لأن المصريون ما عادوا يخافون من الكاميرا كما كانوا قبل الثورة.
هو ليس واحدًا، حكايته غُزلت من روايات المصورين الآخرين، تبدو كأنها قصة متكاملة عن شخص، لكنها تُمثل تسعة عشر مصورًا، نقلوا ما عايشوه بأعينهم أثناء الثورة المصرية وقبلها من خلال لقاءات أصحاب الفيلم معهم، كلٌ له تفصيلة تعامل من خلالها مع ضغوط الأحداث بمصر، هم يصورون الواقع، ولا يهتم الواقع أن يحكي عنهم كثيرًا، ربما لتمسكهم بالبقاء خلف العدسة، خارج الكادر، لكن زاويتهم عما مرت به الدولة نقلها أحدهم في فيلم تسجيلي، اسمه ''crop''، أخرجه ''مروان عمارة'' و''يوهانا دوميك''، انصبت الفكرة في البداية على تسجيل لمشاهدات المصورين الصحفيين، ثم تحولت ليصبح مكان التصوير جريدة الأهرام، لكونها نموذج واضح على المؤسسات الحكومية الصحفية بمصر.
''الفيلم بيتكلم عن التغيير اللي حصل في البلد وأثره على الصحفيين''، قال ''عمارة'' الذي يرى أن الثورة والاحتجاجات من قبلها إذا كانت قد أثرت على العامة، فقد أثرت أكثر على الذين يرتبط عملهم بتلك الأحداث، ثمانية أشهر هي الفترة التي استغرقتها فكرة الفيلم للنضوج ''عملنا حوارات مع تسعة عشر مصور صحفي محترفين''، ومع الوقت كان سؤال يتداول في تلك الحوارات، عن الرقيب الذي له حق منع الصور أو تمريرها ''وكان كل حد فيهم ليه إجابة مختلفة.. بعضهم قال رئيس القسم وفيه حد قال زكريا عزمي''، ومن هنا جاءت فكرة اختيار جريدة الأهرام للتصوير بها ''الأهرام مؤسسة قديمة لها سيطرة وهي أشبه بماكينة بيمر عليها الصور كلها وبتقرر إيه من الصور يطلع شكله إزاي''.
طرُقة طويلة، في الجانب الأيمن من الشاشة، موظفون يجلسون على المكاتب، الهواتف القديمة أمامهم، بينما يمر السعاة يحملون أقداح من القهوة والشاي، مصعد يُفتح بابه ويُغلق كل حين، ليظهر منه رجل الأمن الجالس على مكتب، أصوات في الخلفية للدالفين للمؤسسة والذين يهمون بركوب المصعد للرحيل.
يحكي راوي الفيلم افتتان رؤساء مصر بالصور، والده عَمِل بالأهرام أيضًا، كان مصور الرئيس ''جمال عبد الناصر''، يسرد عن لقطات ساداتية أخذت له بينما يحلق ذقنه، أو يجلس بأريحية في المنزل، بينما لم يكن الشعب المصري مُعتادًا على تلك الدرجة من اختراق الخصوصية، خاصة الرؤساء، تعلم ''محمد حسني مبارك'' الدرس، عندما اغتيل السادات، قرر إبعاد الناس عنه، يقبع في قصر خاص به، والصور على قدر ارتفاع منصبه، فلا يظهر إلا ضاحكًا، متباهيًا، يذكر الراوي عندما سُمح له في التسعينات دخول القصر الرئاسي، وحضوره جلسات ''مبارك'' مع الزائرين الأجانب ''كنا بنصور الناس من غير ما يشوفونا ومكنش ينفع نصور حد حاطط رجل على رجل قدام الرئيس''، كان الامتهان هو الوصف الأمثل لمعاملة المصورين داخل القصر الرئاسي في عهد ''مبارك''.
لم تكن عملية تصوير فيلم داخل الأهرام يسيرة، استغرق الحصول على تصريح حوالي أربعة أشهر، بين تردد المؤسسة بين رفض وقبول ''قدمنا خطاب رسمي فيه بيانات عني وعن يوهانا وخطاب دعم من معهد جوتة الألماني''، جاء الرد بالرفض في البداية، ثم الموافقة بشرط دفع مبلغ مالي نظير التصوير ''يوم التصوير كان ب5000 جنيه ووافقنا لأن مكنش فيه بديل آخر''، استمر التصوير ثلاثة أيام فقط، لم يعانِ فيها فريق العمل من تعنت المؤسسة ''كانت الناس بيساعدونا جدًا لأنهم عرفوا إننا أخدنا تصريح، الموظفين كانوا بيتجاهلونا ويكملوا شغلهم كأننا مش موجودين''.
شريط من وقائع مصرية يعرضه الراوي بصوته، بينما تظل المشاهد كلها داخل المؤسسة العريقة، يتحدث عن بداية اشتعال الاحتجاجات والإضرابات المصرية منذ 2006، ومدى تجاهلها في وسائل الإعلام الرئيسية ''بس لما الحكومة عرفت إنها مينفعش تتجاهل الناس اللي بتعترض خلونا نصورهم على إنهم قلة مندسة''، حتى جاءت احتجاجات المحلة 2008 ''روحنا نصور الوضع والشرطة كانت بتساعدنا عشان نبين إن الحياة طبيعية''، بدأت المناوشات بين الشرطة والعمال، أطلقت الشرطة قنابل الغاز، فوقف المصورون في صف الناس وتحطمت كاميراتهم تحت أقدام الضباط. لم يجد المصور وسيلة للحفاظ على عمله سوى تجميل الصور لتبدو جيدة رغم فداحة التفاصيل، لم يكن المواطن قبل الثورة على استعداد أن يظهر في الصور على حالته المتردية، كانت لقطات طوابير الخبز أو العشوائيات كأنها تفضح مصر أمام العالم الخارجي. لكنه لم يستطع الابتعاد عن الناس رغم ذلك، لفظ منصب رئيس قسم التصوير ليبقى قريبًا منهم.
التفاصيل المنسوجة في الفيلم من مصورين في صحف وتجارب متفاوتة، فالراوي عندما قال أنه لا يريد تصوير الأحداث السياسية مرة أخرى، كان ذلك إسقاطًا على المصور ''أحمد المصري''، صاحب لقطة سحل أحد البنات بالتحرير بأحداث مجلس الوزراء من قبل جنود في القوات المسلحة، أما الذي كان والده مصورًا خاصًا ل''عبد الناصر'' ورئيسًا لقسم التصوير بالأهرام، ف''حسام دياب'' ''واللي كان تعبان وقت الثورة هو الأستاذ شريف سنبل رئيس الأهرام إبدو''، كان من المقرر أن يتم تركيب أصوات المصورين بعد إجراء المقابلات معهم على لقطات الفيلم، وبعد تفكير قرر فريق العمل مزج حواراتهم في حبكة درامية يقصّها راوي.
لقطات الفيلم الأولى لشاشة حاسب آلي، يظهر فيها بعض ممتلكات الموظفين الذين يعبرون البوابات لبدء يومهم، فيما تظهر اللقطات التالية مشاهد من يوم عمل عادي لموظفي الأهرام، في نواحي مختلفة، قسم التصوير، الحسابات، وحتى مسئولين المطبخ، ينتهي الفيلم بانتهاء اليوم، نسخ من جرائد متنوعة، متراصة بعناية، يربطها الموظفون بالمطابع سويًا في مجموعات، يجلس أحدهم على عربة الأهرام الصفراء، بينما يملأ الآخر العربة بالنُسخ التي يتم توزيعها ليلًا على البائعين، سائق موتوسيكل بجانبه صندوق مملوء بها يخرج ليبدأ في التوزيع ككل يوم.
''الفيلم دخل أكثرمن 20 مهرجان دولي''، قال ''عمارة''، بين دول عديدة، كندا، اليابان، ألمانيا، وقد شارك في مهرجان روتردام الدولي، لم يتوقع صاحبا الفيلم أن يُرى بشكل كبير خاصة خارج مصر، سيما أن تلك المرة الأولى للمخرجين للعمل بفيلم تسجيلي طويل، اختصاص كل منهما ليس بقريب من مجال الأفلام الوثائقية، ف''عمارة'' أستاذ للسينما في الجامعة الألمانية، و''يوهانا'' تعمل بالمجال الفني، ولكن الفكرة فرضت نفسها عليهما، بالنسبة لعرض الفيلم في مصر فلم يحدث منذ خروجه للنور في اواخر 2012، إلا أنه سُيعرض في مصر ببضع مراكز ثقافية بين الشهر الحالي ومارس وإبريل، حيث سيتم عرضه في ''أرت اللوا'' 28 فبراير الجاري، وبمسرح الروابط 4 مارس، وفي التاسع من مارس بالمركز الثقافي الهولندي.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: