طاهر الزهراني.. غراب وعالمان من البؤس
بيروت (رويترز) - يكتب الروائي السعودي طاهر الزهراني في عمله "اطفال السبيل" بمزيج من الواقعية والرمزية عن عالم يختلط فيه الفقر والتعاسة ويقيم مفارقة بين غراب يسعى الى التعالي وبين هذا العالم الذي يغوص في بؤسه.
وقد كتب الناشر عن هذا العالم وهو منطقة (السبيل) فقال "كيف يبدو (لسبيل) من فوق؟ ينظر الغراب اولا وهو يفتش عن جيفة ما فيرى (لسبيل) بدقائقه وتفاصيله ويصفه لنا. ثم في رحلة السقوط (الموت) كذلك. وما بين صعود الغراب وسقوطه يروي لنا المؤلف قصة حياته في السبيل منذ طفولته الى بلوغه وقصة حيه الفاشل وآماله وخيباته.
"الرابط بين رؤية الغراب وصعوده وسقوطه و(السبيل) وقصة حياة الراوي يفصح عنه المؤلف في نهاية روايته فيقول: "اما السبيل فهو مكان للخردة.. الخردة التي تجتاح كل مكان.. بواطن الدور وظواهرها. الخردة تمثل حقيقة حالنا.. خيباتنا وآمالنا الصدئة."
يضيف في استرجاع الى افكار وآراء في الانسان وتطوره منذ صغره "يولد الطفل بريئا (ملاكا) ثم يكبر فلا يعود للبياض معنى.. فالطهر والجمال والحب والبراءة كلمات كنا نعيها عندما كنا ملائكة ويصعب ان نتحلى بالطهر ونحن على الارض. انا بشر مشوه بالكبر والشهوة يرجو العروج ويتخبط في الطين."
جاءت الرواية في 156 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت.
ولتقديم صورة جلية صارخة عن السبيل يقول الكاتب "بعض اطفال السبيل ايتام ولقطاء ومنبوذون لا آباء لهم ولا مأوى. بعضهم نتاج رجال يمارسون الجنس في الازقة والطرقات في اواخر الليل يجدون قوارير يسكبون نزواتهم فيها بثمن بخس... دقائق سريعة ثم تتحمل المرأة التي لا شجرة لها او الهاربة من بيت ملعون عقوبة التسعة اشهر اذا لم تجهض مبكرا.
"في السبيل تجد في كل حين مولودا في بؤرة او برميل زبالة او عند عتبة بيت او امام مسجد او عند ثلاجات مياه السبيل الموزعة في الشوارع ثم يجدون صدورا حانية ولبن امهات لا ينقطع.
"السبيل يعج بالاطفال بيض وسمر وسود.. اطفال عراة غرل يزرعون المكان شقاء وضحكات لا يركضون الا في نحر الظهيرة يشربون من مياه السبل ويتبولون في الطرقات.. ينسبون الى الامهات ولعنات تلحق بالاب الآبق."
يتحدث الكاتب عن المعاناة والفقر واليتم ونمو الاطفال في ظل كل ذلك وبلوغهم المراهقة حيث تتلقف بعضهم ايدي نساء يردن افتراسهن.
تبدأ الرواية بفصل عنوانه (تحليق) وفيه تصوير للاجواء والظروف. يقول الزهراني "الغراب الاعصم الذي ألقيت في رأسه الرعونة بعد الطوفان ينفض جناحيه النتنين في كوة يعلوها الغبار في قصر خزام المهجور.. يطوف فوق سماء جدة كعادته كل صباح.. تأسره التفاصيل.. تفاصيل المدينة الموبوءة.. الشوارع القذرة.. مياه المجاري الطافحة.. الاحياء الشعبية المهملة.
"ورغم بؤس المدينة الا انها تؤوي النازحين من القرى والباحثين عن الرزق والكثير من القادمين الذين خلعوا ارديتهم البيضاء بعد زيارة الاماكن المقدسة وقرروا المكوث في المدينة التي تكتنف الجميع.. اعراب من الصحراء.. هنود سمر.. افارقة سود.. فطس من جاوة.. لحى من بخارة."
وتحت عنوان (لهاث) قال طاهر "بيوتنا المتحاشرة تعج بالخطايا ونحن نمارس التلون في الطرقات. ندعي الطهر ونردد مع المآذن ونقف في الصفوف لنفكر في اقرب الطرق للرذيلة. كل يوم يمر علي اكره البشر وعفونتهم وفي نفس الوقت اغرق في الخطايا والعهر. تغتالني الصور وتسيطر علي الشهوة."
ويكتب المؤلف برمزية تبدو غامضة احيانا على رغم وضوح الفكرة العامة التي يريد ايصالها. يختتم روايته بفصل حمل عنوان (سقوط) تحدث فيه عن رحلة الطيران الاخيرة للغراب. وقد بدا ان هناك سقوطا مزدوجا.. سقوط الغراب الذي حاول التعالي ورفع نفسه وسقوط اخر تحته هو سقوط ذلك المجتمع الذي وصفه الكاتب. انه صراع بين عالمين يكاد الانسان يعجز عن ان يقول ايهما اشد نتانة. انه صراع بين عالمين بائسين.. هذا العالم وعالم الغربان.
قال "يسري الطاعون في المدينة الموبوءة ينخر ادمغة الناس واجسادهم فينزفون فوق الاردية البيضاء حتى الموت. الغربان الواجمة بسبب الشمس الملتهبة لا تدري ان البشر يكيدون لها كيدا. الغراب الاعصم كان يتربص بصندوقة ناجي عله ان ينال فرخا وهو على يقين انه لن يؤتى الا من طرف ناجي لذا اكتفى بالتربص من بعد لينعم بالامان ولكن الرصاصة التي نفذت منه ونتفت بعض الريش قررت امرا آخر.
"طار عاليا! اتجه نحو القصر المهجور قاصدا الكوة القديمة. بدأ يشعر بأن هناك ألما يخترقه. كان الدم يلوث المكان. لقد اصيب. لم يصدق انه سيموت. انه سيموت في مقتبل العمر والسواد. اراد ان يستقر في اعلى مكان في المنطقة ولكنه لم يجد الا البيوت المتحاشرة والخردة التي تملأ الاسطح. الاسطح التي تعج بكل شيء.. خردة.. حبال غسيل.. حنفيات صدئة تقطر.. هوائيات عتيقة.
"يعبر فوق حارة المظلوم حيث القذارة والانقاض والعفن حيث التاريخ المهمل والبشر المشردون والغرف المستباحة. يطير يطير يخترق العنان.. يصبح نقطة صغيرة سوداء في سماء الله... ثم تتوقف المضغة السوداء في داخل النبض ويتوقف كل شيء. يصبح كومة من الريش الاسود يتقلب بين السماء والارض. عين واحدة مفتوحة. عين واحدة بدأت تلتقط المشهد الاخير."
ويمضي بما يجعلنا نتساءل.. هل هو موت عالم واحد أم موت عالمين اثنين. يقول "يرى البر والمستنقعات الاسنة وركام النفايات الذي يملأ ظاهر المدينة. يرى البحر والشواطىء القذرة والجرذان التي استحلت المدينة. وفي بحيرة الطين سقط. لقد مات ونزع منه الموت ريشته العصماء. فارقته دون ان يسجل علامة فارقة في سجل الموت. لقد مات غرابا مثل الاف الغربان التعيسة. مات بغير ميزة ريشته المنزوعة من السواد تعلو وتهبط مع الموج. ستبقى في هذه البحيرة الراكدة الملوثة بقذارة البشر."
من جورج جحا
(إعداد جورج جحا للنشرة العربية - تحرير أمل أبو السعود)
فيديو قد يعجبك: