صراع الأجيال في النوبة بين حق العودة.. وحلم امتلاك ''ثلاجة وتكييف''
كتبت - نيرة الشريف:
كان المشهد قاسيا لأبعد مدي، 42 قرية تقطنها نحو 17 ألف أسرة مقيمة إقامة تامة بالنوبة، وهم ما يقربوا من 100 ألف نسمة، تغرق بعد بناء السد العالي، مما اضطر سكانها إلي أن يُهجروا قسرا من أراضيهم، ويذهبون لأماكن أخري.
لازالوا حتى الآن، رغم مرور عقود طويلة، يعبرون بمراكبهم إلي الضفة الأخرى للنهر ليقرئوا الفاتحة علي أرواح أقاربهم الذين غرقوا هنا..
انتقلوا للحياة في قري أخري لكنها هذه المرة ليست بجوار النيل كما كان الحال في قراهم السابقة، قري في قلب الصحراء، وٍصمموا أن يطلقوا عليها نفس أسماء قراهم القديمة، و ليبدئوا معاناة جديدة مع شكل حياة لم يعتادوا عليها..
أغلب الذين عاصروا مأساة التهجير أصبحوا الآن في الستينيات من أعمارهم، لكنهم أورثوا جذوة قضيتهم لأبنائهم وأحفادهم، الذين ورثوا نفس العداء من السد العالي الذي أغرق وطنهم، وليصبح أحد أناشيدهم ''ليت هذا السد يقع ويُغرق كل القرى في الشمال، ليعرف أصحابها ما معني غرق الوطن.''.. في الوقت الذي يحنّ فيه آلاف النوبيين لأن يعودوا إلي وطنهم الذي يعرفونه، هناك بعض الشباب لا يرغبون أن يخوضوا مغامرة العودة، كل ما يريدونه هو حياة مادية كريمة بيت به مكيف وثلاجة ومستشفي ومدرسة لعلاج وتعليم أبنائهم وهذا كل شئ.
الآن بعد مرور نحو الخمسين عاما علي التهجير أصبح المائة ألف نوبي يزيد تعدادهم عن 250 ألف مواطن يتكدسون فوق بعضهم على المساحة نفسها، ولكن المعاناة أكبر، صحراء وازدحام ومنازل آيلة للسقوط فوق رؤوس أصحابها، في الوقت الذي تُعلن فيه الحكومة طوال الوقت أن بنيتها تعويض المتضررين النوبيين عن أراضيهم ومنازلهم.
كانت سنوات عمره الثلاثة وثمانون ترسم بخطوطها علي وجهه، لازال يحتفظ بحلمه القديم، الذي ما بقي منه سوي مجموعة من الأوراق التي يثبت بها ملكيته وملكية مجموعة من النوبيين لقطع أراضي في القرى التي غرقت بالنوبة بعد بناء السد العالي وتم تهجير أهلها منها قسرا، أصبحت تلك الأوراق بدورها مهترئة بفعل مرور السنين، لكنه احتفظ بها في مكتبة زجاجية وضعها أمام ناظريه دوما، بقي من حلمه أيضا كثير من الوعود التي تملأ الصحف بتعويضات مالية وقطع أراضي ستعطيها الدولة للنوبيين المُهجرين، يحتفظ بقصاصات منها أيضا، كأنه يعد ما قيل وما لم يُنفذ، هذا كل ما تبقي لعم ''أمين حفني عيسوي''، مدير مدرسة سابق وأحد قيادات النوبة، من حلم العودة إلي النوبة، عم ''أمين'' هو القيادة التي بقت للنوبيين أيضا، هو الذي يوجه ويقود، ويدلي بالرأي إذا ما أزمت أزمة، فهو الذي يعرف تاريخ النوبة والنوبيين كاملا، وهو الذي يعرف ما هو التعويض المناسب لحقوقهم، لازالت عيني عم ''أمين'' تدمع حينما يتحدث عن أيام النوبة، تستكين نبرة صوته ويسيطر عليها الحزن وهو يقول ''أنا لا عندي بلد ولا عندي وطن، بقيت بعيش في أي مكان وخلاص، أنا عشت 36 سنة في النوبة قبل التهجير، وهو ده عمري الحقيقي، حيث البيت والأهل والوطن، اللي اتحرمت بعدها منهم لغاية دلوقتي، أنا إنسان نيلي، اتعود يعيش حياته جنب النيل وربط أبجديات وجوده وحضارته وعاداته وتقاليده به، إزاي توديني الظهير الصحراوي وتطلب مني أعيش.''
في الوقت الذي لم يستطع فيه الكبار أن يتخلوا عن حلم العودة وإعادة التوطين في أراضي تشبه أراضيهم ،علي أقل تقدير، تضاربت مواقف الأجيال التالية ما بين من أخذ إرث الحلم كاملا، وأصبح يدافع عنه بالاعتصام والتظاهر وهي الأبجديات التي يجيدها جيله، وآخرون لا يعرفون عن القضية شيئا، وجانب ثالث معارض لفكرة العودة ويراها مغامرة لا يحبذ خوضها.
سعد حفني أمين، 42 عاما، مهندس زراعي اختلف كثيرا عن والده، فلم تكن الحضارة ولا العادات والتقاليد ولا حلم العودة هو ما يسيطر عليه، كل ما يتمناه هو عيش حياة كريمة فقط ''أبي أفني عمره يحلم بالعودة، وأنا متعاطف معه ومع من مثله، لكنها ليست قضيتي، ولن تكون، ولست مع فكرة المغامرة بالعودة، ماعشتش أزمة التهجير ومعرفش عنها حاجة غير من حكاياتهم عنها وأنا مش متبرئ من حضارتي ولا تراثي، بالعكس أنا مرتبط جدا بالأغاني والشجون النوبية، وبعرف اتكلم لغة نوبية كويس، لكني اتربيت علي إني اتعلم واتوظف، وارجع بيت ألاقي فيه ثلاجة وتليفزيون ومكيف، زمان كان أبويا وجيله بيقعدوا تحت ظل شجرة ويبقوا مبسوطين، أنا دلوقتي مقدرش أعمل ده.''
في جانب آخر أتي الشباب الذي ثار مطالبا بحق العودة في 2011 حيث قام المئات من شباب النوبة الذين قدموا إلي مدينة أسوان من القاهرة والإسكندرية بأتوبيسات حاملين معهم الخيام والعروق الخشبية للدخول في اعتصام أمام ديوان عام المحافظة للمطالبة بتحقيق مطالب أبناء النوبة في العودة إلي موطنهم الأصلي حول شواطيء بحيرة السد العالي وإقالة المحافظ، وقاموا بنصب الخيام ولم يتعرض لهم أحد إلا أن بعضهم قام بالتصعيد وترديد الهتافات العدائية وقاموا بإلقاء الطوب والحجارة علي ديوان المحافظة.
ومثلت الجانب الثالث فاطمة محمود حسين،23 سنة، بكالوريوس خدمة اجتماعية، معبرة عن اتجاه ثالث قائلة ''أنا معرفش حاجة عن القضية دي لأني مكنتش موجوده أيامها، بس أنا سمعت عن بلدنا من حكايات الكبار، مش عارفه أدافع عن القضية بنفس القدر من الحماسة زيهم، لكن أنا نفسي أعيش في بلدنا، اللي بس بيتحكي لي عنها، نفسي ترجع لنا عاداتنا وتقاليدنا اللي أهالينا مبقوش يقدروا يعملوها''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: