راديو ''انتيكة '' معبود الجماهير.. ''قصة للأطفال''
بقلم: محمود جمال
اطفئ عم ماركو النور ثم خرج وأغلق باب محل الانتيكة متجها إلى بيته.. وأول ما اطمئنت الساعة العتيقة أنه لايوجد احد فى محل الانتيكات حركت بندولها يمينا ويسارا ودقت جرسها لتوقظ بقية التحف الانتيكة، فاستيقظ تمثال الولد الأسود الذى يحمل شعلة فى يده وبشعلته أشعل شموع الشمعدان الفضي المزخرف فأضاء المكان.. فنظرت الفتاة الجميلة المرسومة بألوان الزيت إلى المرآة الملكية لترى جمالها الساحر المحاط ببرواز ذهبى مزخرف فوجدت المرآة حزينة. سألتها بعينيها لماذا الحزن؟.. فأشارت لها المرآة بأن الراديو فيلبس يبكى.. نظر الجميع الى الراديو فيلبس، سأله الجرامافون لماذا تبكى يا صديقي.. أخبرهم فيلبس -الإيطالي النشأة والمصنع- أنه اليوم أكمل عامه الثمانون.
هنا صرخ الجرامافون في سعادة مهنئًا صديقه الراديو
ــ إذن اليوم هو عيد ميلادك.. كل سنة وانت طيب.. علينا أن نحتفل
أدار الجرامافون إحدى اسطواناته والتى تغنت بأغنية ''عصر الهوى'' للمطرب صالح عبد الحي، وراحوا يحتفلون بالمناسبة السعيدة.. واستعادت التحف والانتيكات ذكرياتها القديمة أيام ما كانت تسكن القصور والسرايات.. وأخذوا جميعهم يهنئون فيلبس على عيد ميلاده، ثم تجمعوا حوله ليحكى لهم عن رحلة أيام شبابه ولحظات السعادة التى عاشها.. فابتسم الراديو وأزاح التراب من على جسده الخشبى اللامع واستعاد قوة صوته القديمة وبدأ يحكى لهم قصته.
ــ لن أنسى أبدًا كيف تجمعت الأسرة حولى حين خرج صوتى لأول مرة ونطق (هنا القاهرة)، بصوت المذيع احمد سالم عام 1934 فى افتتاح الإذاعة المصرية.. صفقت الأسرة ونظروا بعضهم إلى بعض فى سعادة شديدة. كانوا مندهشين كيف يتحدث هذا الصندوق الخشبي؟.. كيف ينطق؟ ... لن أنسى أبدا كيف جرت تلك السيدة خوفا لتختبئ من هذا العفريت الموجود فى قلب هذا الصندوق، كنت أضحك حينها فى نفسى، أحببت تلك الاسرة حبا شديدا، كانوا يلتفون حولي حين يغني عبد الوهاب أو أم كلثوم أو منيرة المهدية. تقاسمت معهم أخبار مصر السعيدة والحزينة. رأيت كيف فرحوا وشعروا بالأمل حين أعلن المذيع من خلالي تولى الملك الشاب فاروق حكم مصر عام 1936 وكيف حزنوا بعد ذلك حينما أخبرتهم بخبر عزل مصطفى باشا النحاس عن رئاسة الوزراء عام 1937. هم أيضا كانوا يحبونني؛ كنت بالنسبة إليهم صندوق المعرفة، كانوا يمسحون خشبي اللامع كل يوم، وكانت طفلتهم الصغيرة تعبث برقة فى بكرتي الصغيرتين لتقلب محطاتي، الى أن تغير الحال وافتقرت العائلة السعيدة، فباعني صاحب البيت إلى عمدة أحد القرى.. وهناك كنت سعيدًا حينما كنت أرى كيف يتجمع فلاحون القرية عند بيت العمدة فى ليل كل خميس ليستمعوا إلىّ. حلمت الفتايات بمحمد عبد الوهاب فارس أحلام، أما بقية الفلاحين فكانوا يرقصون ويغنون على أغنيته وهم يحصدون القمح ''القمح الليلة ليلة عيده''. كانوا يرون العالم من خلال صوتي، حلموا بالقاهرة وبجمالها بل وحلموا بالثورة لما كانوا يستمعون إلى أخبار مظاهرات الطلبة فى الجامعة، وحلم شباب القرية بالتعليم فى الجامعة، أخلبهم صوت محمد رفعت وهو يتلو القرآن، وأسموني ''الصندوق العجيب''. اتذكر كيف تسللت فتاة فى أحد الايام وحاولت تكسيري لترى هؤلاء الذين يتحدثون إلى الناس من خلال قلبي. واتذكر كيف بكى الفلاحون فى عام 1948 حين عرفوا أن اسرائيل قد احتلت فلسطين.
هنا لمعت بكرتي الراديو فيلبس بالدموع فدعته الفتاة التى فى اللوحة أن يكمل.. فيبتسم فيلبس ثم يسرح ببكرتيه بعيدا ليتذكر ويكمل حديثه
ـــ ثم اعجب بمظهري ووسامتي المخرج أنور وجدي وعملت معه في فيلم ''الحبيب المجهول''، كانت تحتضنني ليلى مراد الجميلة وهى تغني ''الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها''.. ثم قمت بدور البطولة المطلقة فى فيلم ''حياة او موت''، الذى شاركني في بطولته عماد حمدى ومديحة يسرى ومن إخراج كمال الشيخ، كنت أنادي طوال الوقت ''السيد أحمد إبراهيم القاطن فى دير النحاس.. لا تشرب الدواء.. الدواء فيه سم قاتل''، وأدركت الناس من هذا الفيلم مدى تأثيري على الإنسانية، كيف يمكن أن يكون دوري أكبر من كوني مجرد ألة تعرض على الناس أخبارها، ولكن يمكنني أيضا أن أنقذ حياة إنسان من الموت.. ثم قامت ثورة 23 يوليو 1952 والتف الناس من كل مكان فى مصر حولي ليستمعوا الى بيان الضباط الأحرار، الذي أعلن بصوت السادات بأن عصرا جديدا من المساواة والحرية قد جاء.
هنا تذكر تمثال الولد الأسود ذلك اليوم الذى جاء فيه أحد الضباط ليحجز على مقتنيات السرايا ويبيعيني في المزاد.
ويكمل فيلبس، أصبحت معشوق المصريين الأول، أعمل عملا متواصلًا من العاشرة صباحًا إلى الثامنة مساءً عبد الحيلم يغني وعبد الناصر يخطب ومعلقين الكرة يعلقون والفنانون يمثلون وفرقة ساعة لقلبك تضحك الناس من القلوب وأم كلثوم وعبد الوهاب يحافظون على عراقة الطرب الاصيل. الناس ترقص معي. وتغنى وتنفعل معي. وتبكي وتضحك وتغضب وتثور معي. أتذكر كيف هزني صاحب القهوة بحماس وهو يحتضننى حين سمع قرار التأميم.. ( يصمت فيلبس لحظة ثم يكمل بصوت متهدج ).. ثم ظهر التليفزيون ولم أنسى أبدا تلك النظرة التى نظرني بها وكأنه يخبرني بأن عصر الصوت قد مضى وجاء عصر جديد فيه الصوت تصاحبه الصورة..
هنا اهتز نور الشمعدان الفضي لأنه أدرك أن مأساة صديقه قد بدأت، ويكمل فيلبس حديثه في حزن.
ــ وأخذت الناس تنصرف عني رويدا رويدا.. إلى أن سمعوا من خلالي خبر النكسة ثم التنحى فى 1967، أتذكر جيدا كيف تبدل عشق الناس لي إلى كراهية.. وأتذكر كيف ألقى صاحب القهوة حذاؤه فى وجهي، وأخرست تماما، وباعوني إلى أسرة فقيرة، كنت حينها قد صرت عجوزا أعمل بنصف طاقتي، كانوا يضربونني بالأحذية لأعمل، كنت اتألم في صمت، كان يخرج صوت عبد الحليم فرحا بينما كنت أبكى أنا حزينًا.. وفي السبعينات استبدلني الناس بأجهزة حديثة صغيرة وهزيلة رغم إذاعتي نبأ انتصار أكتوبر في 1973.. ثم ركلوني تماما لألاقي المصير.. وأخذ حجم الراديو يتضاءل ويتناقص إلى أن أصبح محمولا تتجول الناس به. فضاعت الأيام الجميلة ولم أعد عزيزا مثلما كنت، رخص ثمني أنا ورفاقي، ثم ألصقونا في الكاسيت وبعدها في السيارة ثم في الموبايل، وصرنا مع كل الناس ورغم ذلك لا يشعر بنا الناس.. الآن يا رفاقي اتذكر كيف كنت أؤنس الوحيد فى وحدته، وأجالس العاجز في جلسته.. دخلت بيوت الفقراء والأغنياء والفلاحين والعمال، عُلقت على أغصان شجر القرى ووضعت على رخام القصور، ونمت على تراب الارض.. الآن أتذكر أيامى الخوالي وأبكي، صدقونى يا أصدقائي كنت يوما معبود الجماهير ونجم مصر الأول.
كان صباح اليوم التالي قد جاء، ففتح ماركو محله فوجد كل الانتيكات فى ثباتها، ولكنه تعجب.. إذ أن الدموع كانت تبللها جميعا.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: