إعلان

الإعلامي الكبير حمدي الكنيسي.. الأديب الذي سرقه الإعلام.. ''حوار)

03:47 م السبت 31 مايو 2014

الإعلامي الكبير حمدي الكنيسي.. الأديب الذي سرقه ال

حاوره- أحمد الشمسي وأحمد الليثي:

مكانه ثابت لا يتغير، يتوسط حديقة غنّاء، تُظلله الأشجار، كرسي من الخيزران، يجلس عليه شخص واحد فقط، هو رب الأسرة وعائلها، معروف بين أهل قريته ''شبرا النملة'' بالحاج ''على''، علىُ هو على الجميع، هيبته لا تنكسر، وساعة خلوته لا يتجرأ أن يقاطعه فيها أحدا، دقت ساعة العصاري، ومعها يذهب ''على'' صوب صومعته، متدثرا برداء العلم، حاملا في يُمناه كتابا للمنفلوطي يقرأ فيه، وفي يسراه عويناته الطبية، لا أحد يتجرأ من أولاده ولا حتى زوجته الاقتراب من محرابه، فيما كان هو في الخلفية، يراقب من خلف ستار، طفل لم يتخط الثانية عشر بعد، يداوم على متابعة قدوته، حتى جاء ذلك اليوم الذي تنفس فيه ''حمدي'' الصعداء، ذهب الصبي وهو يقبض بيديه على مجموعة من الأوراق المتناثرة، ليخبر أباه بموهبته المتفجرة، التي صار على هديها أديبا يتنبأ له الجميع بالنبوغ، غير أنه بات مشهورا في أوساط العامة بـ''الإعلامي الكبير.. حمدي الكنيسي''.. فيما يظل حلمه قابعا، تحركه الأيام كلما تذكر شوقه القديم للأدب والكتابة، ليقول في حنين المُحِب ''أنا من ضيع في الإعلام عُمره''.

كانت البداية مع قصة كتبها، أراد فقط أن يُريها لوالده، ساق تجر الأخرى، هكذا كان المشهد، خرج أصغر الأبناء من البيت الريفي، صوب الحديقة الملاصقة له، الخوف يتملكه، مرتعدا من رد فعل غير متوقع من أبيه، بينما كانت الإشادة سيدة الموقف، ليربت الأب على كتف صغيره بحنو ''عفارم عليك.. شكلك هتبقى كاتب كبير'' قالها الأب، قبل أن يستتبعها بهدايا مصونة ''جابلي الأعداد الكاملة لمجلة الرواية.. وكتب العقاد والرافعي وقالي ده مستقبلك''.

أصغر كاتب مقال

في صباح يوم مشرق كان ساعي البريد يمر كعادته ملقيا عددا من الجرائد الصباحية من تحت عُقب الباب، فيما خطف ''حمدي'' بيديه جريدة ''الجمهورية''، قلب صفحاتها، حتى وقعت عيناه على مقال ممهورا باسمه، جنّ جنونه، قبل أن يركض مُسرعًا في جنبات المنزل، ليوقظ أفراد أسرته المكونة من 4 بنات وأخ أكبر يدرس فى كلية دار العلوم، وأم ريفية، وأب كان قبل أيام ينصحه بالقراءة فصار صغيره كاتبا للمقالات ''كنت كاتب عن علاقة مصر بأمريكا بعد ثورة يوليو بسنة واحدة''.. تفحص الأب نتاج ولده؛ فأثنى عليه قبل أن يُزيده من الدروس واحدا ''قرالى مقاله كاتبها صادق الرافعي بعنوان العقاد على السافود'' بادرته سؤالا ''إيه السافود ده يابا''، أجابنى ''السيخ اللى بيتشوى عليه الكباب''، في إشارة لانتقاد الرافعي لـ ''العقاد''، من هنا تعمقت قراءات ''الكنيسى'' الصغير.

''بدأت أقرأ للمازني، مصطفى صادق الرافعي ومحمد رشاد رشدي...''، لم تمر سوى سنوات قليلة، حتى شب الطفل فصار شابا يافعًا، مرّ عبر بوابة الجامعة، فكان نصيبه داخل قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب، فيما كانت الصدفة تجمعه بالدكتور ''رشاد رشدي'' أستاذًا له فى الكلية ذاتها.. بعد أيام من بداية الدراسة، أعلنت الجامعة عن مسابقة للقصة القصيرة خلال فعاليات أسبوع شباب الجامعات، تقدم ''الكنيسى'' بثلاث قصص قصيرة، وكان ''رشاد رشدي'' رئيس لجنة التحكيم، لتُعلن النتيجة عن المراكز الثلاثة الأولى من نصيب ''الكنيسي''، ليسطر الطالب الجامعي أولى إبداعاته القصصية وهو لم يزل فى الخامسة عشر من عمره ''الدكتور رشدي اعتبر مكسبي انتصار لقسم اللغة الانجليزية ومن هنا توطدت العلاقة بينا''.

نادي القصة ولقاء لكبار

اعتاد ابن قرية ''شبرا النملة'' الكائنة بمركز طنطا بالغربية على أجواء القاهرة، وراح يبحث عمن يتبنى موهبته، أخذ يُبحر في جنبات المحروسة، حتى ساقته قدماه إلى نادي القصة، عاملا بنصيحة الروائي الكبير ''محمد عبد الحليم عبد الله''، عندما أخبره أن أسلوبه في السرد هو طريقه لعالم الكبار من دون أن يكون ذا واسطة، وتعددت اللقاءات داخل نادي القصة، وبات ''الكنيسي'' عضوا دائما يُلقي على الجمع جديد كتاباته وينتظر النقد من كبار الأدباء ''كان الجمهور يوسف إدريس ويوسف السباعي وصلاح عبد الصبور..''، وهناك قابل أستاذه رشاد رشدي، غير أن اللقاء لم يكن على ما يرام.

''كانت مناظرة ما بين الأستاذ رشاد والدكتور محمد مندور وأيدت موقف الدكتور مندور بقوة'' يقولها ''حمدي'' بضحكة خفيفة، تُنبأ عما خبأته له تلك الفعلة خلال شهور دراسته الباقية ''كان الدكتور رشدي بينشر قصصي في مجلة صباح الخير فوقفها.. وقالولي ذاكر مادته كويس بدل ما تسقط''، اجتاز الطالب الجامعي دراسته بتقدير جيد، واستحال مصير الكنيسي من معيد قادم داخل رواق كلية الأداب إلى مجرد طالب يتمنى فقط عدم الرسوب.

وبدأ حلمه الخافت يشب بين ضلوعه، يتوهج جليا أمام عينيه، مسترجعا حبه القديم لذلك الصندوق الصغير الذي يشع بهجة مع كل نشرة للأخبار، أو صوت مقرئ يتلو آيات الذكر الحكيم، أو برنامج ثقافي يعيد مقطعا لحديث عميد الأدب العربي، فقرر وقتها أن يضحي إذاعيا لا غير، خاصة حين دخل فعليًا إلى مبنى الإذاعة –وهو لم يزل طالب جامعي- كأحد أعضاء فريق الكورال يُردد الكلمات خلف الفنان سمير صبري فى إحدى حلقات البرنامج الأوربي.

الأيام التي تلت تخرجه لم تكن يسيره كما ظن، فتأخر اختبار الإذاعة عامين كاملين. كان الكنيسي مجبرا خلال تلك الفترة ألا يجلس عاطلا عن العمل، فاستلم تعيينه كمدرس للغة الإنجليزية بمدرسة ''بسيون الثانوية'' بالغربية، ولأن عمره لم يجاوز العشرين ظن الطلاب أنه صديقهم فهتف أحدهم ''ألحقوا دول جايبين مدرس أصغر مننا يدينا إنجليزي''، ومرت أيام ''الكنيسي داخل مدرسة ''بسيون''، لكن الحلم لم يخفت داخله، والإصرار لم يغب عن خاطره.

مسابقة الإذاعة

يوم دراسي آخر، مللُ آخر، إلا أن ''الكنيسي'' لم يقوى على الذهاب مُدرسا، أقعده المرض فى البيت، درجه حراراته بلغت 39 درجة، عطسُ مستمر، أتته البشرى بأن الإذاعة بدأت مسابقة لاختيار مُذيعين جُدد، نفض من على جسده غطاؤه، حذره صديقه الطبيب من الحركة، رفض النصيحة، ركنها جانبًا، لا يرى أمامه سوى صوته الرنان، يخرج من ذلك الصندوق الصغير، قطع المسافة، أكثر من 150 كم، كانت لجنة الاختبار عبارة عن سُرادق كبير مُقام فى منطقة العباسية، يجلس فيه المُمتحنون، دخل على عجل من أمره، كان متأخرا نصف ساعة، استوقفه أحد الموظفين ''ممنوع الدخول يا ابنى.. انت جاي متأخر''، صب ''الكنيسى'' الصغير جام غضبه عليه ''أنا جاى مسافر المسافة دى كلها وانت تقولى مينفعشى''، جاء على إثر المشادة الكلامية رئيس اللجنة، قرر مراعاة ظروفه، سمح له بأن يؤدي الامتحان، بل جلب له أيضا كوبا من الليمون المُثلج، أنهي ''الكنيسي'' الامتحان، أعلنوا النتيجة، نظر الشاب بعينيه الثاقبتين صوب تلك الورقة المُعلقة، وجد اسمه وبجواره ''الأول مُكرر''، تهللت أساريره ''كان ساعتها اللى طلع الأول الإذاعى الكبير ''فايق فهيم''.

الطريق إلى الإذاعة لا يكفيه اختبار واحد، امتحان تحريري، تلاه امتحان شفوي، تحدد ميعاده، ارتدى ''الكنيسى'' أفضل ما لديه، تحسس خطواته، اقتحم مبنى الإذاعة، دخل فجلس أمام لجنة الاختبار المكونة من الدكتور مهدي علام أستاذ اللغة العربية، الدكتور عبد الحميد الحديدي رئيس الإذاعة والتليفزيون، أعطاه أحد الموظفين القابعين فى خلفية المشهد ورقة، الجميع يتفحصونه بنظراتهم الصارمة، قال أحدهم ''اقرأ هذه الورقة أمام المايك''، فيما استطرد آخر ''عاوزين نشوف صوتك ومخارج ألفاظك عاملة ايه''، قرأ ''الكنيسى'' الورقة سريعا، ثم بدأ فى القول قولا واحدا ''استوغل الهواء الأسود أنحاء القرية.....''، انتهى الممُتحن من امتحانه، سأله رئيس اللجنة ''هو فيه هواء أسود''، فرد ''الكنيسى'' بأن الجملة ربما تكون لها علاقة بمسرحية الهواء الأسود التى عكف على كتابتها الكاتب الساخر أحمد رجب في انتقاده اللاذع لكتاب الوسط المسرحي خلال إشادتهم فى تلك الفترة بما يسمى بمسرح العبث ''اللى خلى اللجنة تنبسط أكتر إن أنا كنت عارف تفاصيل القصة وكأنى رئيس تحرير.. حتى قولتلهم ساعتها إن الكاتب اللى أحمد رجب استند إليه كان المؤلف المسرحي فريدريش دورنمات''.

ظنّ ''الكنيسي'' أنه سيتلو نشرة الأخبار عقب دقائق، وأنه أخيرا سيقول ''هنا القاهرة''، إلا أن ذلك لم يحدث، فيما مرت الدقائق تخلفها الساعات تتبعها الأيام، وعام كامل مرّ، ظل خلاله ''الكنيسي'' مجرد اسم مدون على قائمة البرامج، غير ان 365 يوم، كانت مجرد تدريب فقط، تخللها وجوده على الهواء دون أن ينبس بكلمة.

دقت ساعة الحسم، اسم ''الكنيسي'' أخيرا تم إدراجه على قوائم مُذيعي الهواء، اقتحمت صدره نشوة الفرح، حان الموعد، كانت الإذاعة وقتها تتبع منهجا بأن كل مذيع مُخضرم يشاركه مُذيع من الجُدد، ليشارك ''الكُنيسي'' الإذاعي ''أحمد فراج''، دلف الاثنان الاستديو، كاد ''فراج'' الاستحواذ على معظم الحلقة، مما زاد القلق في نفس ''الكُنيسي''، جاء الفاصل، أخبره ''فراج'': ''أنا هخليك يا كُنيسي تبدأ أولى كلماتك على الهواء بكلمة ''الله أكبر''، فكانت أولى إطلالات الإذاعي الشاب ''معنا ومعكم أغنية- الله أكبر فوق كيد المعتدي''.

عاشق ناصر ينتقده

بعدها ذاع صيته في جنبات ماسبيرو، يقدم برنامجه ''أقلام جديدة'' لتقديم المواهب الشابة في الأدب، لا يتنازل عن قوميته وعشقه لعبد الناصر، غير أن المبدأ يحكمه، دون النظر إلى نتائج، يكتب -عقب النكسة- قصة قصيرة تحت اسم ''الدقات الوامضة''، ينتقد فيها ''ناصر''، ويصف منافقوه بالرجال الذين يطوفون القرى يقرعون على الطبول في الفرح والحزن، ويؤرخ لحال الشباب وصدمتهم بقصة أخرى حملت عنوان ''حينما يتوقف اللعب''، لكنه كان على ثقة بأن النصر آتٍ لا محالة، يأخذ المُسجل ويذهب على الجبهة خلال حرب الاستنزاف لينقل كفاح الجنود، تدق حرب أكتوبر طبولها فيقرر أن يكون على الجبهة بصوته ''قلت لبابا شارو وكان رئيس الإذاعة أنا رايح وسط العساكر لو مش موافق هقدم نفسي للتجنيد''.

اعترضت الزوجة على القرار، فطالبها وبنتيه بالذهاب إلى بلدته حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، فكان صوت ''الكنيسي'' مدافع تدق حصون العدو، تقول عنه الصحف العبرية إن تأثيره تخطى كل الحدود؛ فعندما شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة ''جرانيت'' لبحث أسباب الهزيمة كان من لجانها الفرعية بحث أسباب انتشار البرنامج المصري '' صوت المعركة '' بين الإسرائيليين الذين يجيدون اللغة العربية.

''أنا مش اسطوانة بوشين''

صوت يُخاطبه عبر الهاتف، رئاسة الجمهورية تتصل به ''أستاذ حمدي.. الرئيس السادات عاوز يقابلك فى اسكندرية''، رد عليه ''الكنيسى'' بتلقائية ''أنا لسه جاي من اسكندرية.. هاروح تانى''، فضحك مُخاطبه ''يا أخ حمدي بقولك رئيس الجمهورية.. وعلى العموم هانبعتلك العربية''، وكان اللقاء فى المعمورة، لأكثر من ساعتين، ظلّ فيهما السادات يمدح فى ''الكنيسي''، يؤكد له أنه عدل من ميعاد غذاؤه حتى يتسنى له الاستماع لبرنامجه ''صوت المعركة''، ونال ''الكنيسي'' الترقية بدرجتين كاملتين بسبب دوره فى الحرب لكنه رفض الترقية مؤثرا الإعلاميين على نفسه ''طلبت من رئيس الإذاعة وقتها يكون للإعلاميين نقابة تلم شملهم''.. ولأن ''الكنيسي'' صاحب موقف لم يدم شهر العسل بينه وبين الحاكم طويلا، خاصة بعدما قرر ''السادات'' الذهاب إلى القدس وهو ما كان يعارضه بشدة ''نادتني صفية المهندس وقالتلى عاوزين نغير اسم البرنامج من صوت المعركة إلى صوت السلام.. فقلتلها أنا مش اسطوانة وش معركة ووش سلام''، فخرج ''الكنيسي'' غاضبا عاقدا العزم على ألا يكمل برنامجه الأشهر حال إصرار السادات على معاهدة السلام.. وقد كان.

بعد سنوات عجاف مع الكتابة الروائية، وفى إحدى ليالي الشتاء، وبينما كان يستعد ''الكنيسي'' للخروح من مبنى ماسبيرو، قابله الكاتب ''يوسف إدريس''، أقبل عليه مُتلهفا، إلا أن الأخير عاتبه بكلمات غاضبة ''انا مش هسلم عليك عشان انت سبت الأدب.. وفرحت بالكلام اللى بيطير فى الهوا''.. فراح ''الكنيسي'' يفكر في ماضيه الذي تركه جانبا، غير أنه صبَر نفسه بما أنجزه إعلاميا.

30 مايو.. الشمس تكاد تغرب على مبنى الإذاعة، قبل الاحتفال بعيد ميلادها الثمانين، يجلس ''الكنيسي'' في مكتبه متأملا في أوراق تاريخه، يقلبها في رأسه، تخرجه من خلواته، طرقات على بابه، يدلف عدد من صغار ماسبيرو، يهنئونه بالذكرى، فيما يجذب أحدهم أطراف الحديث متسائلا ''أخبار نقابة الإعلاميين أيه يا ريس هنقدم إزاي؟''.. خلال سنوات عمره تقلد الكنيسي مناصب عدة، غير أنه لا يزال، متواضعا، كأصغر موظفي المكان، يفكر في شئون المهنة، وينصت لشكاوى الكل، فيما ينظر قبل المبنى العريق متأملا أيام لا تنسى عن جهده الذي لم يدخره قبل الإذاعة، وحلمه بالكتابة الذي سرقته الأيام.. لكنه حلم لا يموت.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان