العقار34.. اختفى ''الجرنالجي'' وبقيت سيرته
كتبت- دعاء الفولي وإشراق أحمد:
كل شيء تغير في شارع ''إسماعيل سري'' بقصر العيني؛ محال جديدة فتحت أبوابها، زحام الطلاب أمام معهد الدراسات التعاونية والإدارية عقب أداء الاختبار لتصوير أوراق لمذاكرة المادة التالية، المقهى الذي زاد رواده، المكتبة التي تحولت لمحل ملابس، نفوس لم يعد بها متسع للحديث متعذرة بالموجة الحارة، وأخرى تتحدث على مضض.
تغيرت الملامح وبقيت المبان؛ ''دار الحكمة'' والعقارات القديمة التي يعود بعضها لعام 1928، وذكرى ممحاة تفاصيلها إلا من اسم وسيرة ''رضا هلال'' في موطن سكنه الذي ما برحه لسنوات، ليختفي عنه في دقائق لمدة بلغت 11 عامًا.
''ده من فترة كبيرة'' كلمات دائمًا ما لحقت تعبير القلق على وجه من تعاملوا مع ''هلال'' ولو بشق كلمة؛ التحقيقات التي شهدها الشارع عقب واقعة اختفائه كفيلة بترك أثرها النفسي رغم مرور السنين، وكذلك نطق بها مَن كانت الواقعة وشخصية ''هلال'' مجرد حديث ''سمع عنه''.
الطابق الخامس في عقار رقم 34، حيث عاش ''هلال'' وحيدًا، رفيقه الوحيد كتب تضمها يداه مجيئًا من عمله قبل انقضاء النهار مستقلاً سيارة تحمل لوحتها كلمة ''الأهرام''؛ تلك الصورة ظلت بذاكرة ''على عبد الخالق'' كهربائي السيارات المجاور عمله للعقار الذي قطنه نائب رئيس التحرير، كان ''عبد الخالق'' يعلم هوية ''هلال'' رغم عدم تبادل الحديث بينهما ''لو كان عنده عربية كان زماني عارف عنه حاجة'' غير أن ''العربية اللي بتجيبه كان مكتوب عليها الأهرام'' وهى ما أكدت له شخص ''هلال''.
ملامح صامتة وخلق رفيع شهده الكثير لـ''هلال'' عبر عنه ''أشرف أبو الحسن'' حارس العقار في كلمات ''كان في حاله'' لا علاقة معه مع الجيران، ولا صوت له إلا لطلب شيء يقصد به ''أبو الحسن'' ليقضيه، وحتى ذلك لم يكن كثيرًا بحكم معرفة الرجل الأربعيني وزوجته لاحتياجات الصحفي؛ الجرائد وسجائر ''مارلبورو'' ومياه معدنية وعصير توضع جميعها في حقيبة بلاستيكية تعلق بتمام السابعة صباحًا على حلقة الحديد المتواجدة بالباب، فإن ما فتح أخذها.
''كان بيدينا العشرين جنيه نجيب له حاجة ويدينا الباقي وده وقتها كان كتير'' هذا ما تتذكره ''أم دينا'' زوجة حارس العقار 34 عن ''هلال''، فالرجل طيلة مدة سكنه لم ينطق ببنت شفة وأكثر الحديث مع زوجها ''ماكنش له صوت ولما يدخل العمارة ويلاقيني قاعدة مكنش بيكلمني'' ومع ذلك ''الواحد زعل عليه أوي وعيطت عليه وقعدت أقول لنفسي راح فين ده''.
بكاء السيدة لم يكن فقط على رحيل ساكن للعقار في صمت دون سابق إنذار بل ''المعاملة الوحشة'' التي تلقتها وزوجها أثناء التحقيقات اللاحقة لواقعة اختفاء ''هلال'' والضرر النفسي الذي أصابهما كان دافع رئيس للدموع التي ذرفتها طيلة قرابة شهرين بعد الحادث، حينها ''لسه مكنش محمد موجود ودنيا كانت يادوب بتزحف'' قالتها ''أم دينا''، فسنوات غياب ''هلال'' دون معرفة مؤكدة لكونه على قيد الحياة أم فارقها وسبب ذلك شهدت تغيير في حياة حارس العقار وزوجته، فابنتهما الكبرى تزوجت وأصبح الابن الأصغر مساعدًا لوالده بعد عودته من المدرسة، وسيظل مشهد دخول سيارات الأمن يلقي في نفسها الرعب.
بعد أسبوع من الواقعة أراد ''أبو الحسن'' ترك العمل لكن الأمن منعه من ذلك حتى انتهاء التحقيقات التي مرت أيامها ثقيلة على حارس العقار، الأرقام باتت مهمة صعبة على ذاكرة الرجل الأربعيني، لكن مازالت بعض التفاصيل تكمن في النفس وتخرج بغصة عن الرجل الذي لم ير منه إلا كل خير على حد تعبيره، ''أفتقدناه وتعبنا من بعده'' تخرج كلمات ''أبو الحسن'' عن ''هلال'' حاملة بعض المرارة التي رغم مرور السنوات يتمنى نساينها.
''هلال'' كان ساكن مميز بالعقار 34، ليس لصمته بل لعطره ''كان تقريبا بيجيبه من بلاد بره'' والذي كان يملأ المصعد ويبقى أثره لفترة من الوقت؛ منه يعرف ''أبو الحسن'' خروج أو دخول الأستاذ، وكذلك كان يوم اختفائه الذي تصادف عدم وجود حارس العقار في تلك الساعات لقضائه بعض الاحتياجات لكن بالصباح عرف أنه خرج.
هول التعامل مع قيادات أمنية ذات رتب مختلفة ''القسم كله كان هنا'' كان رفيق الأسبوع الأول من التحقيقات مع حارس العقار ''وبعدين أتعودت''، لا يعتقد الرجل عن اختفاء ''هلال'' سوى أن شخص في تلك المهنة ''ممكن يكون له أعداء الله أعلم أحنا سمعنا كتير لكن مانعرفش حاجة''.
يمضى ''أبو الحسن'' في حراسة العقار وتلبية احتياجات سكانه الجدد، فجميع جيران ''هلال'' ما بين المنتقلين إلى منطقة أخرى أو المتوفين حتى جارته المقابلة لشقته والتي يصفها الحارس بـ''الخوجاية'' عادت إلى بلادها، ولا يبقى سوى كلمات الرجل الأربعيني ''إن كان عايش ربنا يبنجيه من اللي هو فيه، ولو مات الله يرحمه''.
مرتديًا جلباب صعيدي وطاقية، قابعًا بغرفة مظلمة أسفل دَرج العقار رقم 30، كان ''مسعود حبيب'' حارس العمارة الذي ما أن ذكر له اسم ''رضا هلال'' حتى قال ''الله يرحمه''، لم يتأكد للرجل تلك المعلومة لكن السنوات العديدة التي مرت دون سماع كلمة عن الصحفي عبرت له عن ذلك، وكذلك الحال لدى أغلب من تواجدوا بالمحال المجاورة، كانوا بين الجاهلين بشخص ''هلال'' من الأساس، أو المتذكرين على استحياء والتي انصبت كلماتهم حول سماع واقعة الاختفاء حال ''خالد الباهي''.
جالسًا على مائدة خشبية خلف جهاز كمبيوتر صادرًا لأنغام موسيقية التبس على ''الباهي'' السنوات التي مرت على واقعة اختفاء ''هلال'': ''دي كانت من سبع سنين''، التعجب ملأ تعبيره حينما عرف أنه لا توجد معلومة مؤكدة عنه رغم مرور تلك السنوات حتى بجثمان يخبر عن رحيله ''الله يرحمه إن كان مات''.
''أبو شقرة'' –محل الكباب والكفتة الشهير- اسم اقترن تردد ''هلال'' عليه هاتفيًا حتى آخر يوم له، كثيرًا ما كان يحضر غدائه منه وكذلك فعل يوم الاثنين 11 أغسطس 2003-حسب أكثر الروايات-، على بعد مسافة لا تزيد عن مائة متر كان المحل، واجهة زجاجية لا تعبر عن كونه محل لبيع ''الكباب والكفتة'' إلا للعارفين بالمكان أو بعد دفع الباب للدخول، المتواجدون يعرفون اسم ''رضا هلال'' لكن كحال الجميع لا تفاصيل أكثر من ''راجل أخلاق وذوق''؛ عرفه ''محمد أحمد'' أحد العاملين بتوصيل الطلبات للمنازل والذي أكد أن ''هلال'' كان زبون دائم للمحل لكنه لم يكن يتحدث سوى بكلمات شكر وإعطاء مقابل الطعام الذي كان يتبادل العاملون إيصاله ''حسب اللي في الشيفت''، فلا ميعاد ثابت كان يطلب فيه ''هلال''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: