إعلان

مصراوي داخل سجن وادي النطرون: الانتظار ساعات والزيارة 3 دقائق ''صور)

05:24 م الخميس 26 يونيو 2014

معايشة- أحمد الليثي وأماني بهجت:

مشاعر متضاربة، انتظار وشوق يتبعه ألم وحسرة، أيام انتظار أسبوعية، تزيدها ساعات ما قبل اللقاء ترقبًا ووجعًا.

على أبواب سجن وادي النطرون –ليمان 430- حان موعد الزيارة، عيون تدمع وقلوب تناجي ربها بفك الكرب، شباب يقطعون المسافات الطوال مؤازرة لرفاق الرحلة، طفلة تساند والدها بجبهتها الصغيرة؛ الممهورة بعبارة ''الحرية لبابا''، مؤن يتمنون السماح بعبورها أسوار السجن. أحاديث عن ثورية القابعين خلف الأسوار وبُعدهم عن تهم قلب نظام الحكم والانتماء لجماعة محظورة، أب يؤكد أن الدولة لا تعرف عن وليده شيئا، وإن علمت سيكون بعدها حرا طليقا، أم تعيد ترتيب أفكارها علّ الزيارة تسنح لسرد تفاصيل انقطعت عن فلذة كبدها، قبل قرارها بالرحيل عنه إلى بلد أخر، تاركة صغيرها ليد الله عسى أن ترفق به، أخت يعلو محياها ابتسامة مختلجة بحزن عميق وهي تتردد في إعلان خطبتها وأخاها سجين، وحراس يتشدقون بأوامر تحيل الزيارة إلى لقاء عابر لا يتخطى ثوانٍ معدودات.

في تمام العاشرة صباحا، على إحدى نقاط طريق مصر إسكندرية الصحراوي، تحديداً في الكيلو 92، كان الجمع يقف تحت وهج الشمس الحارقة على أبواب ليمان ''430''، حاملين كميات كبيرة من الأغذية والملابس لذويهم، ينظر أحدهم في ساعة يده معلنا أن موعد تسجيل الأسماء يبقى له ساعة، يُفتح باب صغير عبر مجند طبعت الشمس حرارتها على وجهه، يدلف الحضور في صمت، دعاء بالفرج ''يا مسهل''.. داخل استراحة كبيرة ذات سقف عالي بدأ الأهالي في الانتشار، بحكم العادة يقول أحدهم لمن يحضر للمرة الأولى إن الزيارة تحين بعد ثلاث ساعات على الأقل فلا داعي للتململ، قسّم الأهالي أنفسهم بين زوار السجناء الجنائيون والشق الثاني من ''المعتقلين السياسيين'' - حسب وصف أحدهم.

''بابا انتخب السيسي مع إن أخويا جوه من 16 يناير'' تقولها ''فرح جمال'' مستغربة وضع شقيقها ''محمد'' الطالب بكلية تجارة والمحبوس احتياطياً، في كل زيارة تمني الصغيرة -لم تكمل عامها السادس عشر بعد- النفس أن يعود شقيقها للمنزل، غير أن الحسرة تعاود أدراجها مع نهاية اللقاء ''يا رب يطلع قبل رمضان''.

وحيدةً جلست تنتظر اللقاء الأخير الذي ربما يجمعها بولدها قبل سفرها إلى وطنها، ''ابني مراد، استودعته عند الله'' تحكي الأم الأردنية عن ابنها حامل الجنسية المصرية وأبٍ ملاحق منذ التسعينيات، ليصبح ''مراد'' أردنياً يعيش وسط مصريين ووالده مصرياً يعيش وسط أردنيين.

''مراد بيحب مصر، بعد دراسته بالأردن قال إن بده يجي يكمل بجامعة القاهرة، عشان أكبر وأعرق'' تحكي الأم بأن ولدها تم القبض عليه أثناء خروجه من امتحانه، قبل أن تستطرد بأسى ''بس خلاص قال بدي اخرج وامشي'' موضحة الرغبة المُلحة لصغيرها بالخروج من السجن وعدم رغبته حتى في اتمام امتحاناته المكملة لهذا العام.

لا تزال والدة مراد السيد الطالب بكلية الهندسة، على المغادرة عائدةً إلى الأردن لعدم قدرتها على احتمال الظلم أكثر من ذلك ''مراد تركته لربه، هو أكبر من كل شئ وقادر على كل شئ'' بعيون تملأها الدموع أكملت الحديث وهي على بعد 30 ساعة من ترك الأرض التي قُيدت بها حرية ابنها.

يخصص لكل سجين عدد 3 أشخاص –على الأكثر- من أقرباء الدرجة الأولى، غير أن عددا لا يُستهان به من الأصدقاء قد حضر خصيصا لدعم رفاقهم خلف الأسوار ''أصحابنا كلهم ثوريين وملهمش علاقة بالإخوان بس هي شوطة والسلام'' يقولها ''محمود عمر''، طبيب، بوجه باسم مشيرا إلى ملابسات القبض على أصدقائه بجامعة القاهرة، لم يكترث ''محمود'' بشئ خارج الأسوار، جل ما كان يشغله هو التحضير لزيارة صديقيه المحبوسين احتياطياً منذ ستة أشهر، تلتقط ''ياسمين'' طرف الحديث لتخبر عن تفاصيل أكثر ''يوم 16 يناير الشرطة قررت تقتحم الجامعة للمرة الأولى وكانت بتاخد اللي في سكتها وخلاص'' تقول الطالبة بكلية السياسة، موضحة أن زملاء الدراسة من كليات عدة ''تجارة وسياسة وهندسة''، وهو ما يتضح من الزوار الداعمين المنتمين لكليات مختلفة، فيما جمعتهم الزيارة بوادي النطرون.

''أنا ملحقتش الثورة في التليفزيون.. عشان معنديش وقت للفرجة'' تبدأ بها ''أم يوسف'' حديثها، تعبيرا عن عدم إحساسها بتغييرات تُذكر قد طرأت على حياتها. يوميا تحضر المرأة الثلاثينية إلى رواق السجن، حاملة عبوات من المسليات والترمس، ومجموعة من الخضروات والفواكه لبيعها في أوقات الزيارة، ''أم يوسف'' هو اسم شهرتها المتداول في المكان، رغم أنها لم يُكتب لها الإنجاب، تعتبر البائعة ذات الوجه البشوش إن ما يُقال عن وجود ثورة في البلاد تعرفه من خلال التلفاز لكنه لا ينطبق على أرض الواقع، فمنذ مجيئها إلى المكان قبل أربعة أعوام، وحياتها كما هي؛ تنصب على قيامها عقب الفجر لشراء بضاعتها ثم حضور للسجن للرزق، يتبعه اطمئنان على زوجها المريض، وبضع ساعات للراحة ثم يوم جديد، تتكرر فيه الأجواء بالرتابة ذاتها.

كان ملصق ''هل صليت على النبي اليوم؟'' صانعا لأزمة داخل استراحة الزوار كما الحال خارج أروقة السجن، يرفع أب صغيره الذي طلب أن ينزع الملصق الذي انتشر بغزارة داخل استراحة الزوار، فيما ينهره آخر ذو لحية كثة ''عيب ده الرسول له قدسيته''، يبدأ الحوار في الاحتدام مع جملة تلفظ بها أحدهم ''ليهم حق الداخلية يحاربونا طول ما بنعمل كده في الدين''، ليأتي الرد من الأب بحزم ''أنا بعلمه إن النبي أكبر من ورقة''، قبل أن تعاود الأجواء الهدوء مع إعلان أذان الظهر.

على بعد أمتار تقبع ''أم محمد'' بملابس رثة على باب دورة مياه للسيدات، لا يختلف أمرها عن قرينتها –أم يوسف- في شئ، تقتصر مهمتها على نظافة المكان، والاحتفاظ بمتعلقات الزوار، من تليفونات محمولة أو ما شابه، فيما يقع تحت بند الممنوعات داخل أروقة السجن، المرأة الأربعينية أقدم من في المكان، عايشت الأجواء قبل وبعد الثورة دون تغيير يُذكر، اللهم إلا غلاء في المعيشة أجبر زوجها المريض بالنقرس على ترك عمله كمزارع والوقوف معها. 400 جنيها تدفعها شهريا أم محمد لجامع القمامة بالسجن ''هو اللي مسئول عن وجودنا ومش بنتعامل مع الإدارة''، لا تتدخل البتة في شئون السياسة، غير أنها لا تنسى الساعات الأولى من صبيحة يوم 29 يناير 2011 حين طفقت تسمع أن السجناء في طريقهم للهروب من وادي النطرون، اتصلت بأحد الحراس فجاءها الرد ''إحنا مشينا خلاص.. جت لنا أوامر وسبنا المكان''، قبل أن يسد السجناء الطريق الصحراوي مع طلوع الشمس.

الصغار يلهون غير مباليين لا بالمكان ولا الزمان ولا الحدث، هنا عرفوا بعضهم حق المعرفة. كتاباتٌ عدة على الحوائط تناقض واقع المكان التي خُطت به، تخفف على الحضور ساعات الانتظار الطويلة، من ترك أثره ولم يترك اسمه ومن ترك الاسم والتاريخ فقط للتذكرة بلسان حال يقول: ''مررت من هنا''. ''قلت لكم مراراً إن المدافع التي تضوي على الحدود في الصحاري لا تطلق النيران إلا حين تستدير للوراء'' قالها أم دنقل في السبعينيات وأعاد إحياؤه مجهول بتاريخ 29 ابريل 2014 ليتناوب أخرون على قراءة البيت ويضعون اسمهم وتاريخ مرورهم كتعليق على ما حدث.

يؤم المصلون والد السجين ''محمود محسن''، يوحد الصفوف، دقائق وتنتهي الصلاة، يحكي الأب عن استغرابه من التصاق تهمة الأخونة بولده، قبل أن يقول بملأ فيه إن ثقته في الدولة لا حدود لها ''والله لو المستشار عدلي منصور يعرف بأمره.. هيخرج فورا''.

في تمام الثالثة عصرا حضر الشاويش معلنا عن بدء الزيارة، قسّم الحضور على مرحلتين، بدأ الجمع في الاصطفاف، نادى على الأهالي، بدأت الأسارير في الابتهاج، حضر ''الطف طف'' –قطار صغير يجره جراراً زراعياً- لنقل الأهالي، الشمس تحرق الجلود، غير أن حُمى اللقاء المرتقب تُهون كل شئ، يبدأ الأصدقاء في ترتيب أنفسهم مع عائلات لم يصل عددها إلى الرقم المحدد 3 ''أنا هعمل ابن أخوك يا حج'' يقولها أحدهم لوالد سجين، فيربت الرجل على كتفه في حنو ''ربنا يخليكوا يا ابني متقلقش كلنا هنخش''.

لوحتان ضخمتان هي ما يستقبلك داخل السور العالي المؤدي إلى الزنازين، الأولى تعلوها عبارة ''السجن قديما'' لرجل قبيح الوجه يقبض بيديه على كرباج يجلد به ظهور السجناء، بينما تحتل اللوحة الأخرى مظاهر مبهجة لنزلاء يتعلمون على سبورة صغيرة، وزملاء لهم يركلون الكرة في سعادة بالغة، تعبيرا عن حال ''السجون حديثا''. ممر ضيق يصل بك إلى الداخل، حوائط مزركشة بألوان فاقع لونها، يبدو أن نقاشا قد خطها بيد تعبث، تشكل زهور وحدائق غير أنها لا تُسر الناظرين.

خمسة أشهر من السجن كانت كافية لتعميق الأحزان، وفقدان الأمل، وتزايد الإحباط، غير أن بصيصا من نور طغى على ملامح الزنزانة الكئيبة ففي الوقت الذي كان الجميع يتحرّق شوقاً للقاء، كان ''أحمد'' و''سارة'' ينتظران انتظارًا من نوعٍ خاص، انتظار لرؤية أخويهما المحبوسين على ذمة نفس القضية. يستعدان لإعلان خطبتهما من المكان الأكثر غرابةً، مشاعر لم يختبرها كليهما من قبل، ما بين أخ قُيدت حريته وما بين انطلاقتهم لحياة جديدة، لم تتصور ''ساره حمادة أبو الفتوح'' يوماً أن تُعقد خطبتها بـ''ليمان 430'' لكن هكذا شاءت الأقدار.

الغريب أن ''المعازيم'' كانوا كثر، والأغرب أنهم لا يعرفون بعضهم البعض، فقط وحدّهم المكان، واصطفوا تحت أمر أم ''العريس'' –لوضع الخطة قبل بدء الزيارة- معلنة بصوت مبتهج رج أرجاء المكان، أن اليوم هو خطبة ابنها، لتكمل حديثها ''عايزين نفرح العيال''.

باب كبير يزمجر، وقع أقدام للجنود، يعقبها رؤية السجناء لذويهم، حالة فرحة عارمة، دموع تنسال دون إرادة، ملابس بيضاء مذيلة بعبارة ''تحقيق''، تهليل، أحضان، كلمات لا يُعرف مصدرها خرجت من أفواه عدة ''بإذن الله خير.. المحامي طمني.. أخواتي عاملين أية.. أنا كويس متقلقوش.. أنا تعبت ومش قادر..''، يضحك ''صلاح'' في تفاؤل يشيع في أصدقائه روح مرح افتقدوها، يتعالى أصوات زملاء المدرج، يبكي شاب على كتف أمه، تُكون دموعه كرات كبيرة من الماء، تثبته الأم في حزم ''عيب ده أنت عمرك ما عيطت''، قبل أن تنخرط هي في نوبة بكاء.

رفض لاستلام الزيارات إلا من أطعمة ''مطعم السجن أو ملابس منزوعة الكلمات''، حسرة تنتاب الأهل، تقول سيدة لأحد الحراس ذو الوجه الجامد ''يا أخي اعتبره ابنك''، فلا يهتز الرجل لرجائها، ''الحمد لله الزيارة المرة دي مش من ورا السلك، كان نفسي أخد الواد في حضني أوي'' تقولها عجوز وهي تهم باحتضانه.

يدخل شاب في مشاحنة ''هو ذل وخلاص''، يشرع الجميع –حسب الاتفاق- في قراءة الفاتحة لخطبة ''سارة وأحمد''، دوت الزغاريد في الأجواء، قبل أن يعقبها صفارة معلنة نهاية الخطبة ومعها الزيارة في آنٍ واحد، تتعالى الصافرات لانقضاء الزيارة، صوت كصافرة مباريات كرة القدم لتعلن نهاية اللقاء، ولكنه لقاء لا فائز فيه ولا خاسر، فقط الكل يطيل النظر.. 180 ثانية توجت الحنين، بعد انتظار دام لأكثر من 5 ساعات، يتهدج صوت ''الأردنية'' وهي تجهش بالبكاء ''معرفتش اتملى من وش مراد''، ويهنئ ''شراع'' أخته بالخطوبة، ويودع والد ''بوشكاش'' وليده ويربت على كتف رفاقه كأنهم ابنائه، تحتضن طفلة أباها بعنف بعد غياب طال، وزوجة ظلت ساعات تحاول حكي ما تكتمه لأيام فيما كانت الثواني غير كافية إلا لهمهمات الاطمئنان على الصحة ونجاح الأطفال، بينما كان ''العريس'' يوزع الشيكولاتة في ِأيدي المساجين قبل أن يذوبوا في غياهب السجن.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: