مصراوي في قرية العائدين من ليبيا.. ''برج مغيزل'' خطفتها ندّاهة'' البحر
كتبت - إشراق أحمد ودعاء الفولي:
قرابة 20 يوما ظل 200 صياد من قرية برج مغيزل يصارعون الموت، من القذائف تارة وأمواج عاتية بلغ ارتفاعها أكثر من 5 أمتار مرات أخرى، عادوا قبل أيام لتعود معهم الأنظار إلى قرية الصيادين كما يلقبونها، فيما يقبع آخرون في سجن ''الدافنية'' الليبي، ويقاوم نظراؤهم الفرار من الشبح ذاته – الموت والسجن، لا يعرف أصحاب اللهجة الساحلية -ذو حرف القاف الفصيح- مهنة أخرى غير الصيد. من الأجداد ميراث لا يفنى مداد المياه المحيطة بهم، هم كالأسماك في حياتهم بالبحر، لكن لا يواجهون الموت بالخروج من المياه، ففي البحر وبسببه يلاقونه طوعا وجبرا، حتى تأقلمت النفوس على الحديث عن هذا الذي عاد غريقا، وذلك السجين جراء رحلة صيد للسمك، وهؤلاء المصابون حد العجز. فهنا في القرية التابعة لمحافظة كفر الشيخ لا فرار من البحر إلا إليه.
على مدخل القرية التي يحتاج الوصول لضفافها إلى شق المياه بمركب، جلس مصطفى فراج على مقهى، أمسك بمبسم الشيشة. تراوده النفس بالقلق؛ أحمد، الأخ الأصغر، غائب في ليبيا منذ شهر، كانت تلك المرة الأولى في السفر، لم يعد منها بعد أن تم احتجازه ومجموعة أخرى من الصيادين المصريين في سجن ''الدافنية''، بمدينة مصراتة، في أحلام ''مصطفى'' كان أسوأ ما قد يحدث لأخيه هو الموت، وليس السجن تحت الأرض، على حد تعبيره.
''احنا محجوزين هنا وعايزين حد يلحقنا'' هذه الكلمات هي ما استطاع أحمد قوله للأخ الأكبر بعد القبض عليه بأيام، عن طريق هاتف ليبي يخبره بمكان احتجازهم، قبل أن يعرف بقية التفاصيل؛ ابن القرية الذي أتم عامة الثلاثين كان ضمن مركب يصطاد في ليبيا، فقبضت عليهم السلطات الليبية لعدم وجود ترخيص للمركب.
مصطفى صابر شقيق أحد المحتجزين بسجن الداافينة بليبيا
على النقيض انقذت العناية الإلهية الأشقاء الثلاثة لعائلة ''عرفة'' ليعودوا إلى منازلهم سالمين. 40 عام في البحر، سبق الريس ''عبادة'' أشقاءه إلى المياه، فكان له كل الخبرة لمعرفة أن تلك الأيام هي الأسوأ على الإطلاق، فمع كل موجة تعصف بمعيشة الصيادين، أعطوا لها جانبهم ليعبروها، حينما اشتدت الأحوال من عدم الاهتمام، وغلو أسعار وقود المراكب، لجأ الرجل الخمسيني إلى وجهة أخرى خارج البلاد، إلى ليبيا أصبح المقصد منذ 9 أعوام، ''الجاز والزيت رخيص.. روحنا عشان الأمان'' يفسر الأخ الأكبر لعائلة ''عرفة'' أسباب الذهاب إلى الدولة المجاورة دون غيرها، ذلك الأمان ما كان سوى وسائل تمكن من مواصلة الصيد، تلك المهنة المعتمدة في الأساس على التوكل والرزق المعلوم في الغيب.
متلحفا بوشاح أبيض جلس سعيد الأخ الأصغر لآل ''عرفة''، تحرك مركبهم من الميناء 4 يناير، خمس أيام مرت عليهم في البحر ''لا معانا أي وسيلة اتصال ولا غيره.. حتى اللاسلكي مشتغلش.. النوة كانت تموت.. احنا نجينا برحمة ربنا''، الثلاثة إخوة هم أصحاب مركب واحد، لا يرغبون بالعودة إلى ليبيا، ليس لسوء الأحوال ألأمنية والجوية فقط، وإنما ''للبهدلة''.
مصراوي مع آل عرفة.. ثلاثة أشقاء لاقوا الموت في رحلة العودة من ليبيا
رجع الأخوة الثلاثة من دون أموال، يحكي سعيد عن التعامل السيء معه لكونه مصريا ''الناس في مصراته فيه منهم قالي إن الرئيس بتاعك بيساعد حفتر عشان يضربنا بالطيران''، بدأت القسوة تظهر منذ عام لا أكثر، إلا أن رحى الشقاء في مصر لا تقف. أسعار البنزين بالقرية أغلى من ليبيا ''البرميل في مصر بـ365 جنيه والمركب تحتاج كل أربعة وعشرين ساعة خمس براميل، زائد إن جركن زيت الموتور بـ450 جنيه.. في ليبيا لتر البنزين بـ17 قرش والبرميل بـ340 جنيه''، وعلى مستوى الترخيص فالإجراءات عسيرة، كان الحال أفضل في مصر حتى منتصف الألفينات، فرخصة الجر لم تتعدَ الثلاثين ألف جنيها، ومع الارتفاع الجنوني الذي وصل به إلى 300 ألف جنيه للرخصة اضطر كثيرون للجوء إلى ليبيا، على حد قول ''سعيد''.
لارتفاع أسعار الترخيص، يلجأ معظم أصحاب المراكب للسفر عن طريق سماسرة بليبيا، غير أن بعضهم لا يرخص من الأصل، فيصبح مصير من بالمركب رهينا بالحظ السعيد ألا يتم اكتشافهم من قبل السلطات الليبية.
27 فبراير 2011 يوم لا ينساه آل ''عرفة''، فما أشبه اليوم بالبارحة؛ إطلاق قذائف، ودوي رصاص يسمع في الأرجاء، ينتظر الصيادون، حتى لا يجدوا بد من الفرار بحياتهم، أبحروا بالمراكب خلال خمسة أيام عائدين إلى مصر، في المكان ذاته، عند نقطة خفر السواحل سلموا أنفسهم، ''مش أقل من 10 مراكب رجعنا برضه'' يقولها الريس ''عبادة'' ويتحمس ''علي'' -شقيقه الأوسط- لذكرى الواقعة، التي نجوا منها أيضا من الموت، من القتال مرة ونوه البحر مرة أخرى، ولم يكن الاختلاف سوى تعامل السلطات ''أول لما شافونا وحكينا الحكاية. قالوا لنا حمد لله على السلامة روحوا'' حسب الشقيق الكبير صاحب السترة البنية والبنطال الأسود، بينما ''علي'' يكمل ''المخابرات شادة قوي الأيام دي''، معبرا عن احتجاز المراكب الـ14 دون حماية مع المطالبة بمغادرة الصيادين المتواجدين لهذا الغرض.
بلسان القاف المميزة بين أهل ''برج مغيزل''، لفظت الأسرة في نفس واحد ''ما ينقلوهاش''، مشيرين للمراكب الراسية أمام مقر خفر السواحل منذ عودة الصيادين، والتي يرغب قوات الأمن في ترحيلها بجهة أخرى غير المبنى لإتاحة المكان للمراكب الأخرى المتجولة في المياه، حسب قولهم، لكن العائدين من ليبيا يرون أن نقلها يعرضها للسرقة والضرر ''أقل مركب تكلفتها مليون جنيه وفيها حاجات يجي 500 ألف جنية مين المسؤول عنها'' يقول الريس ''عبادة''، فبقاء المراكب عرضة للرياح الشديدة والأمواج الضاربة لفترة طويلة يتلفها، وذلك لن يكلف سواهم، سواء حين مجيء الليبي ''الكفيل'' للمركب، فيطالب بتحمل الخسائر، أو في حالة موافقة السلطات على إعطاء ترخيص العمل.
المراكب العائدة من ليبيا ترسوا أمام مبنى خفر سواحل رشيد
المخاطرة لا بديل عنها في حياة صيادين ''برج مغيزل''، العودة من المياه أو الموت مصير يوقنون في كل رحلة أنه ليس بأيديهم، لكن الحياة هي خيارهم، لذلك وجد آل ''عرفة'' المعادلة متساوية، في البحر داخل البلاد استسلام للأوضاع من قلة اهتمام، وتغاضي عن احتياجاتهم، وهذا يعني الدفع للتوقف عن العمل بالصيد، وفي خارج الحدود بتلك الفترة هم ما بين الاحتجاز، أو الموت غرقا، لذلك لم يكن هناك مفر من معاودة الذهاب إلى ليبيا، حرصهم في ذلك كحرص الشقيق الأوسط على مقولته ''الصياد لو رجله نشفت يموت من الجوع''.
ليس التوقف عن العمل وحده ما يعرض صيادي القرية للموت؛ فأخطار البحر كفيلة بذلك كما يعلم عبد الله سعيد، الذي توقف عن الذهاب إلى ليبيا منذ عام 2000، غير أنه يمتلك مركب صيد تخرج إلى البحر داخل حدود مصر، فيلزم هو البقاء بالقرية، ''الأرامل هنا أكتر من اللي رجالتها شغالين في الصيد''، قالها باندفاع عن القرية التي يعمل أغلبها بالصيد وكل ما يتعلق به.
قرابة 50 ألف نسمة هو تعداد برج مغيزل وفقا للجهاز المصري للإحصاء عام 2012، المياه تحيط بها، تمتد شواطئها طول قرابة 118 كيلو متر على البحر المتوسط، مشهد المراكب الراسية ومن خلفها المنازل هو المعبر عنها، فالخروج والوصول إليها لا يكون إلا عبر المياه، مما يجعلها المصدر المعتمد عليه، حياتهم تتأثر به سلبا وإيجابا.
الريس عبد الله سعيد صياد سابق بليبيا
''فكرت أبيع المركب واجيب توك توك واشغله'' بابتسامة متألمة يتحدث ''سعيد'' الذي يعمل صياد منذ نعومة أظافره عما يراود تفكيره، جراء ما وصل إليه الحال بالصيد في القرية، التي يُخيل للزائر لحظة دخوله عليها بالمركب، أنها تشبه مدينة فينسيا الإيطالية، مع الاقتراب يتغير الوضع؛ البيوت فقيرة البناء، لا يوجد بها صرف صحي سوى ماكينات الكسح، الطرق غير ممهدة، الحياة لا تختلف عن أي منطقة مهمشة، ورغم أن البحر يزين مظهرها الخارجي، إلا أن عدم الاهتمام يدفع أهلها لملاقاة المخاطر، فلا يخلو بيت في القرية إلا وبه صياد ميت، مسجون أو مصاب، وقد تجتمع الثلاث في عائلة واحدة.
تناثرت الفتيات حول الأم ذو الخمار المزركش، والأعين المُلونة، التصقت الصغيرة بجلبابها القطيفة، حرف القاف يلازم ''أم ميادة''؛ تماما كباقي أفراد القرية، حتى الصغار لا يتنازلون عنه. يزداد وجه ''أم ميادة'' إشراقا عندما تأتي سيرة زوجها؛ عبده عبد الكافي الزنطاوي، كيف تتحمل صلف الحياة في كنف رجل لا يعود للمنزل إلا قليلا، وحياته على كفّ مركب؛ فيكون ردها: ''انا بخاف عليه من الهوا الطاير والله.. بس هو معندوش حل تاني''، رجع إلى القرية منذ أيام، مع إصابة في الرأس وصف أسنان سفلي متهتك، بعد أن اصطدمت رأسه بحديدة على متن القارب، في نوّة البحر الأخيرة بليبيا ''مقليش إنه اتعور.. ولما رجع قلبي انخلع عليه''، الرجوع تبعه غياب، إذ تحتم عليه المكوث ليحرس المركب الراسية عند خفر السواحل ضمن الأخريات اللاتي لم يتم الإفراج عنهم إلى الآن.
مصراوي مع زوجة أحد الصيادين العائدين من عائلة الزنطاوي
البنت سرّ والدتها. على نفس النهج تسير ''نسمة'' ابنة ''أم ميادة'' الوسطى، خُطبت لابن عمها إبراهيم الزنطاوي قبل أن يسافر على متن قارب، عُمرها الآن 18 عام، بينما لم يتجاوز هو الرابعة والعشرين، كان من المفترض أن يتزوجا، لولا أنه مسجون بإيطاليا منذ عام ونصف مع 3 آخرين من القرية، بعد أن ضربت سفينتهم رياح شديدة، فاضطر القبطان على إثرها إلى الاتجاه لساحل إيطاليا بدلا من الموت، على حد قولها، غير أنه تم القبض على صيادي المركب، اُفرج عن جزء بعد أسبوع واحد، وظل الأربعة إلى الآن.
يهفو قلب نسمة إلى سماع صوت الحبيب في المكالمة القادمة من إيطاليا -التي تمتد لمدة 10 دقائق- كل شهر، تعلم كأمها أنه لا سبيل للعيش إلا بالمال، لذا على فارسها أن يخوض البحر ليعود بما يكفي فتح منزل صغير، بين أبيها والحبيب تعيش نسمة والأم، الأيام الطوال لسفر رب البيت تمر ثقيلة ''والله ما حد بيخبط علينا الباب غيره.. من المرة للتانية بندعي ربنا تعدي على خير''، عشرون عاما مدة زواجهما. لم تطالبه خلالها بالتوقف عن الصيد ''أتمنى يبقى له شغلانة في البر.. بس للأسف مش هتأكل العيال''، أثناء هذه السنين مر بأزمات شبيهة تتعلق بتأخر رجوعه، أو اصطدامه بالمياه الإقليمية، لكن المرة الأخيرة هي الأصعب على الأم، وعلى الابنة التي تنتظر خطيبها؛ فلا يأتي، وتتطلع لقدوم الأب فيعود مُصابا بجرح.
قبل 17 عاما خرج داوود محمد في رحلته الثالثة خارج حدود البلاد، على باخرة تجارية سورية أبحر إلى إسبانيا، لكن الحال لم يسر كسابقه، غرقت السفينة، وعاد الأب إلى زوجته وأبناءه الصغار جثة هامدة، أصغرهم كان بعمر العاشرة، فيما كان الابن الثاني له ''محمد'' في الثالثة من عمره، ''مشفوش أبوهم'' هو السبب الذي منع الفتيان الأربعة لمقاطعة البحر حسب ''هنيات إبراهيم''، أخت ''أم ميادة''، والزوجة التي حملت هم تربية أولادها بالاشتغال في الخياطة.
هنيات والدة محمد محتجز في سجن إيطاليا منذ عام بسبب رحلة صيد
ظنت الزوجة أن الواقعة ستظل طيلة العمر مانعة أبناءها عن البحر، خاصة مع وقائع أخرى يتعرض لها رجال العائلة بين الحين والآخر، لكن ذلك لم يحدث؛ لم يستطع ''محمد'' الابن مقاطعة البحر أكثر من سنوات عمره التسعة عشر، مضطرا لجأ إليه دون إخوته، لأول مرة قبل عام، لكنه لم يعد، تم القبض عليه قرب مياه إيطاليا.
20 جنيه كان عائد ''محمد'' يوميا من العمل بمخبز في القرية، ما كانت تكفي ابن العشرين عاما، لذلك قرر امتهان عمل ابيه، الذي لم يدر على عائلته بعد موته سوى 52 جنيه كمعاش صياد، لتبغ 600 جنيا مع مرور السنوات، فلم تحصل أسرة ''داوود الزنطاوي'' على تعويض طيلة تلك الأعوام. عشر دقائق فقط كل شهر باتت ''هنيات'' تسمع صوت ابنها الذي فقدته بعد أن جرفته المياه وثلاثة من أصدقاءه إلى مياه إيطاليا حسب قولها، لا تعلم تهمته ولا السنوات المفترض قضاءه إياها، وكذلك لا معرفة لها من تبلغ بحال ابنها فقط كلمات تصبر بها الشاب الشاكي من صعوبة السجن ''معلش استحمل''.
طرق باب القريبة رضا محمد لم يختلف عن عائلتها، وحدها مع أبناء ثلاثة أكبرهم 12 عاما، فقد غاب عنها زوجها منذ قرابة أربعة أعوام، في إيطاليا بسجن ''تربو'' هو كل ما توصلت إليه عقب مكالمة معه بعد عام ونصف على غيابه، وإخبار بعض رفاق زوجها أنه تم القبض عليه، في البحر على مركب خشب صغير كان يعمل علي عبد الكافي الزنطاوي، حتى ''سرح'' إلى حدود مياه إيطاليا، فتم القبض عليه، دون معرفة أيضا لكم من السنوات مفترض أن يقضى زوجها، فقط أن بين جلسة المحاكمة والأخرى عام، تظل تحدث نفسها بين الحين والأخر مرددة ''مش عارفة أعمل إيه ولا أوصل لحاجة''.
علي عبد الكافي الزنطاوي أحد المسجونين في إيطاليا منذ 4 سنوات
شوارع ترابية ضيقة أو إن صح التعبير ممرات تشكل ''برج مغيزل''، تغرقها الأمطار وتحولها إلى برك طينية، لا وجود بها لسيارات إلا نادرا، فقط ما يستطيع السير بعد المترجلين هو الماشية و''التوك توك''، والأخير سبيل من لا يمتهن الصيد حال حسني أحمد، شاب عشريني لا يفقد ابتسامته حتى في الحديث عن البحر، الذي لا تخرج صورته لديه عن كونه وسيلة لفقد الحياة ''البحر موت وهو أنا يعني أبويا وأمي مش عايزيني'' يقولها ''حسني'' رغم عمل أشقائه الثلاثة في الصيد حال أبيه، غير أنه وجد في البحر سبيل آخر ''في الصيف بروح إيطاليا''، لا يخشى الشاب مع تكرار وقائع الاحتجاز من معاودة الكَرة بعد قيامه بها مرتين بالسابق.
ارتفع صوت محرك المركب الصغير، الذي يستقله محمد السيد، بينما ينقل الزبائن للجهة الأخرى من القرية؛ حيث ترسو مراكب الصيد العائدة لتوّها من ليبيا. يتحرك بطيئا لمؤخرة المركب، بيده يرفع قدمه اليسرى فوق خشبة موجودة ويمر، يأخذ بيد إحدى السيدات الصاعدات على متن القارب. ''السيد'' لم ينتو قضاء بقية حياته ينقل الركاب في مساحة صغيرة من البحر الواسع، اعتاد الخروج للصيد في دول كثيرة، ليبيا وإسبانيا كانتا إحداها، لكنّ حادث ألم به منذ 21 عاما، اُصيب على إثرها بشلل نصفي في قدميه، تحسن مع العلاج إلى عجز تام في القدم اليسرى.
محمد السيد أصابه البحر بالعجز فترك الصيد وعمل على لانش توصيل
مساعدة العم ''محمد'' في رسو المركب أو حلها بين ذهابه ومجيئه، تقع على عاتق الصغير محمد، الذي ارتدى سترة رمادية تليق بالصقيع، وحذاء بلاستيكي ذو رقبة عالية. يعاونه فيما يريد من طلبات تحتاج لحركة خفيفة من صبي في العاشرة، يعشق البحر لذلك لا يفارق الرجل الخمسيني، انهى امتحانات الصف الخامس الابتدائي وسارع إليه، هادئ الطباع ولهذا لا يستغنى عنه كذلك صاحب المركب.
لم يعهد ''السيد'' التواجد بقريته فترات طويلة قبل الإصابة ''عشان كدة لما قعدت فيها وعملت مشروع المركب كانت نفسي بتصعب عليا''، منذ مكوثه وهو يبدو كشاهد على حال الموجودين بها. ينقل الصيادين والأهالي، يعرف مشاكلهم، يشاطرهم المصائب، كم من مرة نقل فيها شخصا مُصاب قادم من بلاد الله، بسبب رياح البحر ''آخرهم كان ولد عنده 14 سنة.. نقلته من عند خفر السواحل.. مخبوط في حديدة المركب وواخد 47 غرزة''، لم يفكر أن ينصحهم بالتوقف عن الصيد، مع كل شخص يسقط يتذكر نفسه ''لما اتصبت كنت في البحر. الرياح كانت 57 عقدة والموج 6 متر.. وقعت من الدور التاني في المركب على الأرض''، ظل 3 سنوات يتنقل بين رشيد والقاهرة والإسكندرية للعلاج، أصبح لديه معاش زهيد؛ 400 جنيه شهريا، فكان مشروع القارب هو الحل.
محمد مثل كثير من صغار برج مغيزل يعشقون البحر يتمنون في الصغر أن يعملوا بالصيد
"البحر غول" كما يصفه سائق اللانش. ولكن ''برج مغيزل'' تحيا عليه، في أحضان أمواجه المتلاطمة شتاءً -حيث موسم الصيد- لا يمتلك الصيادون سوى أدوات قليلة للمساعدة؛ سترات نجاة، أطواق، جهاز لاسلكي لا فائدة منه مع الرياح العاتية، وإسعافات أولية. يتندر صاحب المركب على الوضع المُزري. ويقول ''كنا أي حاجة تحصل لنا يقولولنا خدوا مُسكن.. لو الواحد محموم وهيموت بياخد مسكن برضو عشان مبيطلعش معانا دكاترة''، يُلقي الصياد الخمسيني بأزمة الاستعداد للصيد على الدولة؛ فـ''ريس'' المركب يتكبد عناء صيانتها وتصليحها وتزويدها بالوقود، ولا يلقي بالا لأمان الصيادين.
يتمنى ''السيد'' أن تقدم الدولة للقرية ما ينبئ بالخير، بفتح ميناء تجاري في رشيد ''ويهتموا بينا كبنية تحتية وصحة وتعليم.. أحنا ممكن نبقى مدينة سياحية جميلة بس محدش واخد باله''، فيما يأمل محمد الصغير المرافق له أن يلتحق ببقية رجال القرية المنكوبة ''نفسي أبقى صياد على مركب كبير'' يقولها الصغير ذو الوجه الأشقر والوجنتين الحمراوين والشعر البني الفاتح لونه، يبتسم ملء شدقيه حينما يذكر تلك المرة التي اصطحبه بها خاله إلى إحدى المراكب الكبيرة الحجم حال الراسية أمام مبنى خفر السواحل، متمنيا لو اتيح له الأمر مرة أخرى، هكذا حال المحمدين معبرا عن ''برج مغيزل'' في عشقهم للبحر، ورغبتهم في إيجاد حياة أفضل على ضفافه.
برج مغيزل قرية يعتمد الغالبية العظمى من أهلها على الصيد
حسني امتنع عن الصيد وعمل على توك توك
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: