''شِزام''.. جندي تحدى وزير الحربية ومنح السادات قلم معاهدة السلام
معايشة - أحمد الشمسي وأحمد جمعة:
ذلك الدولاب الخشبي العتيق، يخطو نحوه صاحب الـ 83 عامًا، بخطى على مهل، قبل أن تمتد يداه إلى داخل الدولاب، يقتطف بدلته الميري، التي عاشت معه لما يقرب من نصف قرن، يتفحصها بعينيه، يقبض بيُمناه على قماشة بيضاء، يحركها بشكل دائري على أوجه أزرار البدلة، يُلمعها تلميعًا، ينفض الغُبار من عليها، يرتديها، يضع علم مصر مرفوعًا مربوطًا بخصريه، يركب دراجته القديمة، يجوب ويصول بين شوارع الإسماعيلية.
قصصه سيرٌ لا تموت، هو من صنع سيرته، تجده جالسًا على مقهى ''بونيتا''، يتركها مغُادرًا الملل، لكن روحه تبقى، ليقفز إلى مقهى ''سان باولو''، يعرف شوارع الإسماعيلية أفضل من أي شخص، في تلك الزاوية أسرّ الإنجليز، وفي هذا الشارع كان مختبئًا من الجنود الإسرائيليين، وعلى جنبات هذا الميدان أطلق ببندقيته أول رصاصة في حياته، بصرُ عينيه يمتد لأفق السماء، فيما يُصيبه الشرود، يُفكر في التقدير، الذي لم يحصل عليه قط، شهادات مُعلقة على الحائط لا قيمة لها، ونياشين يرتديها يوميًا ليُذكر العالم بأنه ساهم في تحرير ''وطن''، في عقله فُتات الذكريات من سيرة عطِرة لا يندم على يومٍ فيها، وعندما يُصيبه الإرهاق من ''اللف في الشوارع''، يسرحْ فتنزلق الكلمات من على لسانه ممزوجة بالحٌزن ''عيبنا في الدولة دي يسيبونا لحد ما ننسى ونبوظ وترجعوا تقولنا عاوزين حاجة''.. وعندما تُشرق شمس اليوم التالي يفتقده الشارع بمن فيه، يتذكرونه بأربع كلمات ''الله يرحمك يا شِزام''.
خيم الظلام على ''دنشواي''، يُلقي الحاج ''محمد خليفة'' بجسده النحيل على دِكة خشبية مُتهالكة، بعد عودته من يوم عمل شاق داخل مصنع ''التفريخ'' الوحيد في القرية، يغلُبه النُعاس، فيما يقطع نومه العميق، أصوات صُرخات زوجته، تهرع ابنتاه صوب والدتهما، فيما ما يلبث ''محمد'' أن يكون داخل حجُرتها المتواضعة، يهرع مُجددًا، ساعيًا في طلب ''داية'' القرية، تأتي، تطلب المياه الساخنة، يظل الرجل الخمسيني شريد الفكر، عرقٌ يتصبب على جبهته، ودُخان سيجارته المحلية الصُنع يُعبق أركان الغُرفة السُفلية، تطرق التساؤلات أبواب عقله ''يا تري ولد ولا بنت''، يتمناه ولدًا يتعكز عليه في حياته، ويظل صدقة جارية في مماته، لكنه يخشى من أن يلحق الرضيع بمصير أشقاؤه الـ 11، الذين وُلدوا ولم يلبثوا أن يستنشقوا عبير الحياة حتى فاضت أرواحهم، قطع تفكيره صرخات أخرى، لكنها هذه المرة ليست لزوجته، إنها لمولوده الأول، جاءته ''الداية'' بالبُشرى، ''ولد.. ولد.. ولد''، هرع صوبه، حمله بيديه، قالت زوجته بكلمات لا تخلو من ألم النِفاس ''سموه على اسم ابوه''، فأطلقوا عليه ''محمد''، ندرت والدته إلى الله بأن يحافظ على ابنها حيًا حتى لو تكلف ذلك نور عيناها، وتحققت دعوتها، عاش ''محمد خليفة'' -أو كما لُقب بعد ذلك بـ ''شِزام''- وماتت والدته بعد أن أصابها العمى.
لأن والده تزوج من أخرى، قرر ''شِزام''، أو كما تُسميه الدولة في أوراقها الرسمية ''محمد خليفة''، الهروب من المنوفية إلى الإسماعيلية، صار مُشردًا بين الشوارع، يقضم لُقيمات تسد جوعه بالكاد، تحتضنه أسرة ما، تتركه، ليذهب في أحضان أسرة أخرى، عمل بكدّ الطفل، لم تتسنى ظروفه أن يُكمل تعليمه، عمل بالعطارة، في إحدى المحلات الشهيرة هناك آنذاك، كان المدينة الساحلية مُحتلة وقتها من قِبل الإنجليز، احتكّ الطفل ''محمد'' معهم بشكل مُباشر، عندما كان طرفًا في مشاجرة معهم ''كان فيه 2 عساكر إنجليز.. ضربوا واحد كان ماشي هو ومراته.. وكانوا عاوزين ياخدوا مراته منه.. أبويا وقتها اتدخل وضربهم''، يحكي ابنه ''عبد الله'' عن أول بطولة لوالده.. لم يُصدق محمد خليفة ما فعله وقتها.. ولكن النخوة التي وُجدت بداخله حركت عضلاته قبل عقله.
انخرط بعد ذلك خليفة في المقاومة الشعبية بالإسماعيلية، صار الأمر أكثر تنظيمًا، كان يعمل وقتها سائق تاكسي، وكان الإنجليز هم زبائنه، وكانت الفرصة سانحة له لسرقة أسلحتهم، كان هو المُنفذ والممول الذي تعتمد عليه المقاومة.
أن يتسبب 59 فدائيًا في بث الرُعب بنفوس مئات الجنود الإنجليز الذين كانوا متواجدين في الإسماعيلية، كان هذا جوهر المقاومة، أنت فدائي، حياتك هي وطنٌ حُر، بريطانيا طلبت الدعم لمواجهة ما أطلقت عليهم ''الإرهابيين''، تصاعدت وتيرة الأحداث، حتى جاء يوم 25 يناير 1951، عندما حاصر الإنجليز قسم الإسماعيلية وطلبوا إخلاء المبنى وتسليم العساكر المصريين، ورفض قائد القسم -وقتها- كمال رفعت وقال لن نسلم أنفُسنا إلا جثث هامدة؛ كان ''خليفة'' هُناك، يحمل البُندقية، دافع معهم ببسالة حتى نفذت ذخيرة الجميع، ولولا قدوم تعزيزات تحوي دبابات لمساندة الإنجليز لاشتبكوا معهم بالأيدي حتى آخر قطرة من دمائهم ولكنهم وجدوا في الاستسلام ذكاء، ليُسلم المصريين بما فيهم ''خليفة'' أنفسهم حفاظًا على أرواح العساكر.
''شَزام'' تعني بالإنجليزية البطل الخارق، أطلق عليه الإنجليز هذا الاسم عندما كانوا يرونه طفلا وقت أن كانوا مُحتلين مصر، يقفز بين الأشجار يُشاكسهم ويُلقي عليهم بالطوب فأطلقوا عليه ''شِزام''
ذهب الإنجليز إلى غير رجعة، ومع نكسة 1967، كان ''خليفة'' مدنيًا، الطائرات الإسرائيلية تجوب سماء الوطن، ذهب هو وعدد من الأفراد الذين كانوا معًا في المقاومة الشعبية إلى مكتب الجيش، دخل على الضابط وجده يرتدي ''بيجامة''، سأله عما يحدث، فرد الضابط: ''متخافوش دي الطيارات المصرية تقوم بعملية هجوم ودفاع''، لكن ''شِزام'' لم يُصدق الأمر، فأمسك ''الضابط'' من ياقة بيجامته مُعنفًا إياه بقوله ''دي طيارات إسرائيلية''، وما لبث أن استولى هو ومن معه على الأسلحة التي كانت في المكتب، ليوزعها على المدنيين، واتجهوا جميعهم إلى مبنى الإرشاد بجوار قناة السويس، وهناك كانت مهمتهم التي استمرت لـ 7 سنوات، حتى اندلاع الحرب.
قام ''شِزام'' وقتها بتخريب عدد من العمليات الإسرائيلية التي من خلالها كانوا سيخترقون الجيش المصري يحكي ولده الوحيد ''عبد الله'': ''من الأعمال التي قام بها مع المقاومة الشعبية بها ما يسمى بالكلب الإليكتروني وقتها كانت الملاحة مُعطلة بالقناة.. وفي الدور الـ 11 بالقناة هناك (تليسكوب مراقبة) وتواجد في نقطة المراقبة، ووجد شيء يُشبه (الكلب) في القناة ونزل جري من مكتب الإرشاد كان معه رشاش بورسعيد يُطلق دفعات من الرصاص مرة واحدة وبسيطرة السبابة أطلق عليه دفعتين؛ خلال هبوطه مع الموج ثم خلال صعوده مرة أخرى، ثم خلع خوذته ليسبح في مياه القناة كان يظن أن هذا الشيء عبارة عن ضفدع بشري لكنه وجده عبارة عن هيكل حديد به أسلاك مفصولة موضوع بها قنبلة وجهاز إليكتروني''.
مع أواخر عام 1969؛ كانت عملية ''ورد النيل''؛ حيث انطلقت مجموعة من الضفادع البشرية الإسرائيلية لمهاجمة القوات المصرية لكن ''المقاومة الشعبية'' استطاعت اكتشافهم وفتحوا عليهم النار، وقتلوهم جميعًا.
كان الجيش يستعد لسيطرة قبضته على النصر الذي كان وشيكًا، كان يضع نُصب تركيزه على خطط 1973؛ قرر وقتها وزير الحربية الفريق محمد فوزي تفكيك قوات المقاومة الشعبية، أو تسريح المدنيين من الجيش، وقتها دخل ''شِزام'' مكتب وزير الحربية رافضًا لأوامره ''إحنا اللى نقول نستمر ولا لأ.. مش انت''.
ظل ''شِزام'' على هذا الوضع طوال حرب الاستنزاف حتى صدرت الأوامر يوم 6 أكتوبر بالعبور وكان مع اللواء 120 مشاة، وكان هناك موقع حصين اسمه ''الفردان'' لم تستطع الطائرات أو المدفعية تدميره، وكُلف ضمن مجموعة النسق الأول في اللواء بسكب جراكن سولار وبنزين في هوايات الموقع ثم اشتبكت المدفعية مرة أخرى وتم إحراق الموقع.
العطايا لم يحتفظ بها ''شَزام'' لنفسه، كان يُعطي دون مقابل، حتى أنه كان يمتلك قلمًا مصنوع من الذهب الخالص، أهداه له أحد أمراء السعودية، عقب انتصار أكتوبر، لكنه لم يلبث حتى أهدى ذاك القلم، إلى الرئيس أنور السادات، ليستخدمه الأخير في توقيع معاهدة السلام.
كانت صورة الرئيس المخلوع حُسني مُبارك، على خوذة ''شِزام'' العسكرية، عندما تمددت جذور الفساد، وأصبح للحزب الوطني ''صيت''، والقمع وسيلة لدفن المعارضة، كان عندما يأتي حسني مبارك زائرًا لمدينة الإسماعيلية، يأتي رجالُ آخرون من أمن الدولة، لزيارة ''شِزام''، حتى لا يخرج من بيته ويُشارك في أي عروض خاصة باحتفالات مدن القناة، أو نصر أكتوبر، وخلال هذه الفترة قرر ''شِزام'' أن يُمحو صورة مُبارك من على خوذته، ليتبقى عليها صورتي جمال عبد الناصر والسادات، وبعض العبارات الملحمية.
تزوج شِزام وهو في سن الستين، مع مرور السنوات صارت التفاصيل تغيب عن ذهنه، آلامٌ في القدم بسبب سِنُه الكبير، تشخيص الطبيب ''تجمعات دموية لابد من إزالتها''، دخل ''شِزام'' غرفة العمليات، خرج منها إلى العناية المُركزة، ظل ولده ''عبدالله'' يُردد معه آيات من الكتاب الكريم، كان يتنفس بصعوبة، قامت الممرضة بإجراء جلسة أكسجين لمساعدته على التنفس، ثلاث شهقات بعد هذه الجلسة، غادرت الروح مع ثالثها الجسد.. ''أعتقد أن الرئاسة لا تعلم شيئا عن شزام، ومن حضر الجنازة المحافظ ومدير الأمن وبعض أصدقائه من الجيش، الشئ الوحيد الذي يملكه بعد وفاته هذا المنزل وكشك فقط.. الخطأ الوحيد أنني كنت أريد أن أكفنه بعلم مصر''، يختتم ابنه الحديث بعيونٍ دامعة.
فيديو قد يعجبك: