إعلان

"تصبحين على خير يا سراييفو".. لأجل الحياة

09:32 م السبت 05 ديسمبر 2015

الإذاعي مينيك

كتبت- دعاء الفولي ورنا الجميعي:

سراييفو لا تبتغي موتًا، رغم أنه فتت أوصالها في حرب دامت أعوامًا، إذ تساقط الناس، وظلت الحكايات، يتناقلونها فيما بينهم، يبكون القتلى، يمجدونهم بألواح تعرض أسمائهم في شوارع المدينة، لكنهم يتمسكون بالحياة، يتلقفون أخبار الرياضة بسعادة، يرقصون على إيقاع المزيكا، يلعبون الشطرنج. يعلمون أن حياتهم لن تعود كما كانت قبل الاقتتال لكنهم على الأقل يحاولون، كلٌ على طريقته الخاصة، أو هكذا يحاول فيلم " تصبحين على خير سراييفو" أن يقول.

في السابعة والثلث مساءً، خطّ بوبان مينيك بقدميه محطة القطار بسراييفو، للمرة الأولى منذ عشرين عامًا، لم يكن بعد احتمل فكرة سرد ذكرياته، لكنه هُناك على أرض المحطة حكى عن ابنه الكبير، الذي قام بوداعه عام 1992، في المكان الذي يُودّع أهل البوسنة والهرسك ذويهم، حيث الحرب اندلعت ولا مفر من الرحيل.

1

بالفيلم بدأ الإذاعي مينيك بسرد قصته، كنوع من العلاج النفسي، كما يقول "ادو مارين"، أحد مخرجي العمل، بالندوة التي عقبت عرض الفيلم بسنيما كريم أمس، ضمن عروض بانوراما الفيلم الأوروبي، لهذا العام.

الحرب بين دولة البوسنة والهرسك، وصربيا عام 1992، ذاقت خلالها سراييفو الأمرين، ومع رحيل السُكان عنها، بقي مينيك "يقولوا هذه ليست حربنا.. فكنت أقول لهم إذًا هي حرب من؟"، اتخذ من المحطة الإذاعية وسيلة لمقاومة الدمار، كان سلاحه الكلمات، كما يقول في كتابه الذي يحكي سيرته "مرحبا بك في سراييفو، يا أخي".

2

صارت المحطة الإذاعية، ذلك الوقت، ملجأ للعديد ممن احتموا بالأقبية السرية، وسيلتهم للترفيه والإحساس بنوع من الحياة وسط السواد القابع بالمدينة، كان مينيك متخصص بالمجال الثقافي، عمل بالإذاعة منذ كان عمره واحد وعشرين عامًا، من خلال برنامجه أثناء الحرب، حاول التنفيس عن أهل سراييفو، صنع فقرة عن "كيف يُمكن أن تنجو" لمسايرة ما يحدث بالحرب، ورغم أن الفيلم كان مزدحمًا بالألوان، فقد استثني من ذلك المقاطع التاريخية، ومشهد مينيك بالأبيض والأسود أمام الميكروفون الإذاعي يروي قصته.

بسراييفو كانت الحياة وديعة، يذكرها مينيك جيدًا، البيوت متقاربة، السكان أصدقاء، رغم تفاوتهم الديني "كان منزلنا يسكن به أسرة مسيحية من الكاثوليك وأخرى أرذوكس ومسلمين وأنا كنت مُلحدًا"، لم يُزعجهم الاختلاف يومًا "كانوا يطلقون على سراييفو قدس أوروبا لتعايش الناس فيما بينهم"، وخلال الحرب بين البوسنة والهرسك جمعتهم عقيدة الحياة، ومحاولات حثيثة لطرد أشباح الموت.

3

الصحفي البلقاني يصحب الكاميرا أينما ذهب، كذلك فعل مع السوق؛ حيث اُطلقت قنبلة عام 1994، فُقتل 60 شخصًا على الفور، المظاهر البشعة لا تُفارق خياله. حينها افتقد أخته التي تأخرت على المنزل، علم الخبر؛ فذهب باحثًا عنها في المستشفى "تعيّن عليّ السير وسط صف طويل من الجثث"، لم يجدها بين 59 شخصًا "وحين وصلت للجثة الأخيرة والتي كانت بغرفة أخرى وجدتها".

لم يجابه فريق التصوير أزمة مع بطل الفيلم، كما يحكي "مارين"، فهو صحفي ويتفهم أهمية أن تتحرك الكاميرا معه، أما مشاعره الفيّاضة تجاه الحرب فحاول السيطرة عليها، وإن كان باقي أفراد أسرته لم يتقبلوا الحديث، خاصة أخته التي لم تبتغِ العودة لذكريات الفقد.

لم يكن المذيع هو الشخصية الوحيدة بالعمل، ثمة من أثروا بحياته فيما كان صغيرًا، كالشاعر عبد الله سيدران، إذ عرج عليه خلال أيام بقاءه بموطنه، وجارته عازفة البيانو، والتي استهزئت بأحكام الحرب على طريقتها الخاصة.

كانت الكهرباء غائبة مُعظم الوقت، وحين تعود ويستطيع الناس الخروج من الملاجئ، يستغلون الفرصة للتدفئة أو عمل الطعام، لا سيما ودرجة الحرارة في الشتاء تبلغ 25 تحت الصفر، إلا أن صديقة البطل "قررت العزف مع زوجها خلال العودة السريعة للكهرباء ليسمعها باقي سكان المنطقة".

مزج مخرجا –إدو مارين وأوليفير ألجورا-الفيلم بين تفاصيل مينيك الشخصية، والمدينة ذاتها، حيث ركز التصوير على البنايات التي تجمع الحضارتين العثمانية والغربية بسراييفو، بخط الترام الممتد عبر المدينة، أما الموسيقى فلم تكن حزينة دائمًا، ثمة مشاهد ضجت بأجواء الفرح، منها مقاطع القتل والتدمير في الحرب، فلم يرغبا في إضفاء أجواء مأساوية على الحكاية.

4

حوصرت سراييفو ألف وأربعمائة يوم، قضى مينيك منهم عامين عبر المحطة الإذاعية، كان الماء والغذاء أقل ما يكون، في درجات الحرارة العالية صار الراديو كالمأوى بالنسبة إليه، والماء فسراب، حيث لم يقدر على أخذه معه من البيت، ففضّل أن يبقيه لطفليه. زار الإذاعي خلال رحلة الفيلم، النفق الذي أنقذ أهل سراييفو من الحصار، ذلك النفق التاريخي الذي عبر حدود المدينة، لإنقاذ الجوعى،

الجرحى، والراحلين عن أرض الحرب؛ وضمنهم مينك، ففي العام 1994، قرر الهرب عن الدمار الذي حل بمدينته.

5

حزينًا ترك "مينيك" بلده، بعد أن كان يتعجب من الهاربين، إلا أنه قاتل بطريقته الخاصة، من خلال الراديو أولًا، والإصرار على البقاء ثانيًا، ثم العودة بعد تلك الأعوام، كجزء من وعد قطعه لوالدته "الرائعة بكل المقاييس" كما يحكي عنها.

صندوق بُني اللون احتضنه مينيك بيده، يحوي رماد والدته "كانت وصيتها أن تُدفن هنا ويُقام لها جنازة بسيطة لكن في وطنها الأول سراييفو" تحدث الابن. الأخت الباكية، وعدة أقارب يتكلمون عن السيدة الراحلة، في الخلفية رجل يعزف لحن حزين، الشواهد حولهم بكل مكان، تتحدث عن روح سراييفو التي لا تتكرر، مقبرة تضم بعض القتلى خلال الحرب، شاهد رُسم عليه صليب، وآخر كُتب عليه باللغة العربية "سورة الفاتحة"، كأن الحرب جمعتهم بالحياة وعقب الموت أيضًا.

6

في اكتوبر من عام 2013 فازت البوسنة والهرسك على ليتوانيا بهدف واحد، مما أهّل البوسنة للانضمام للسباق التنافسي على كأس العالم، امتلأت شوارع سراييفو بالبهجة، انطلقت الألعاب النارية بين مجموعات الشباب المحتفلين، فيما لم تُفرق الفرحة بين مسلم وآخر مسيحي أو يهودي.

 ظهر مينيك بملامح سعيدة في المشهد الذي التقطته عدسات الكاميرا بالفيلم، كانت تلك أول مرة تؤهل فيها البوسنة لكأس العالم، في تصريح لإيفيكا أوسيم، المدير الفني لمنتخب البوسنة والهرسك، قبل مواجهة بلده لأول مباراة بالكأس أمام الأرجنتين، قال "الآن لابد لنا من أن نثبت للعالم أن البوسنة لا زالت على قيد الحياة".

 7

في كل ليلة إذاعية لمدة عامين خلال الحرب، صنع مينيك بصوته الونس الذي يحتاجه المحتمون بالملاجئ، لأيام لم يكن يخرج من داخل المبنى الإذاعي، كان هو الوسيلة بين الأحبة والملتاعين لبعث رسائل لبعضهم البعض، إلى أن خانه صوته المُجهد، حيث استمر لأوقات طويلة دون نوم أو طعام، أشار إليه الطبيب بعدم التكلم لستة أشهر، لذا رحل مينيك إلى إسبانيا، استقر الإذاعي هُناك، ولم يعد لتحية أهل مدينته ثانية بـ"تصحبين على خير، سراييفو".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان