"مجدي عبد الملاك".. ورحل "الرجل الريش"
كتبت – يسرا سلامة:
في منتصف السبعينات، دلف شاب عشريني إلى القاهرة، عائدًا بعد مناشدة وطأت في قلبه من أبيه وأخيه، بأن يكون عونًا بهم هنا في وسط البلد على مقهى تاريخي، بعد أن خرج من البلاد للولايات المتحدة الأمريكية، حيث حلم الكمال يداعب خيال الشباب في أرض الأحلام، بعد أن شارك في حرب أكتوبر، ليعود "مجدي عبد الملاك" ليكمل حلم أبيه، ومعاونا لأخيه في مقهى ريش، ويصبح المقهى مٌستقرًا ومُقامًا ورفيقًا لـ"مجدي".
اليوم صعدت روح "مجدي" إلى السماء، أو كما يلقبه محبيه "الرجل الريش"، بعد أن طافت بكل قطعة في المقهى العتيق، ظلّ فيها طيلة تلك الفترة مُمسكًا بحلم أبيه، وقابضًا على تاريخ لا يُقدر بثمن، بعد أن أبى بيعه أمام ضغوط من رجال أعمال في الألفية الجديدة، وضغوط سابقة بدأت في عصر الانفتاح إبان حكم السادات رافضًا إغراءات مادية لشراءه، لتحكي المقهى سيرة أدباء ومثقفين وشعراء.
علي يمين المقهى فور دخوله، كان هنا موقع دائم لـ"مجدي"، ليكون أول مرحبًا بالزائرين، القدامى منهم والجدد، كان حلقة وصل بين أجيال من الأدباء والشعراء، ومنظمًا لعدد من الندوات الثقافية، كما قرر أن يكون راهبًا للمقهى، منذ العاشرة صباحًا يترك منزله ويأتي حيث موقع المقهى حتى الثانية من صباح اليوم التالي، أحب فيها "مجدي" الحفاظ على تراث جزء من ذاكرة مصر، بعد أن قرر أبوه "عبد الملاك ميخائيل" يكون أول مصري يشتري المقهى من مالكه السابق اليوناني في فترة الستينات، بعد أن انتقل المقهى بين عدة مُلاك غير مصريين منذ نشأته في 1908 على يد أحد الألمان، ويأخذ "ريش" اسما فرنسيا تعني "المقهى الغني".
قواعد صارمة كان يفرضها المقهى على رواده، ظل الأب الروحي للمقهى محافظا عليها، من تقديم المشروبات إلى قواعد الجلوس بداخل المقهى، وحتى الكراسي الخشبية، يرويها صديقه طيلة عشرين عاما الكاتب والمنتج "حسن إبراهيم"، لا تقدم ريش الأرجيلة أو الشيشة للزبائن، لا تستقبل شباب مهرجين، أو من يرتدون جلبابًا أو نقابًا من السيدات، الهدوء سمة تصحب رواد المقهى، قِبلة شعراء وأدباء، وحتى حين تجدد المقهى، أصرّ "مجدي" على أن تصمم الكراسي بداخله "عمولة" على نفس طراز المقهى القديم.
ورغم تلك القواعد الصارمة، كانت "ريش" ملتقى لمن تفرقوا خارجها، مثل ساسة وشعراء، كان "مجدي" وأخيه الراحل يستقبلون ثلة من الشعراء والأدباء، منهم من اختلف في السياسة ليقول صديق "مجدي" أن المقهى استقبل حمدين صباحي ورفعت السعيد وعمرو موسى حديثا، وغيرهم من الساسة، بجانب شعراء مثل أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل ونجيب سرور.
كان "عبد الملاك" شاهدا على عرك وقع بين شعر الصف الأخير في المقهى "نجيب سرور" وشاعر الصف الأول "أمل دنقل" والشاعر الشاب وقتها أحمد فؤاد نجم، وقت أن طلب سرور من دنقل أن يشتري له زجاجة بيرة، ليتدخل فؤاد نجم ويرفض ما طلبه سرور من شاعر كبير، وكان دنقل حاد الطباع، فحدثت مشاداة بين الثلاثة، وتحدث معارك أدبية أخرى بين أدباء كالتي رواها الكاتب علاء الاسواني في مقال له عن وجود السفير الإسرائيلي بصحبة الكاتب على سالم في ريش، وقتها انتفض عدد من الأدباء لرفض وجوده، ومنهم صاحب المقهى نفسه.
"كان بيطرد على طول".. قالها مازحا "حسن" واصفا صديقه الراحل، وقت أن "يظهر فيه العرق اليوناني" ويطرد من يخالف قواعد البقاء في مقهى "ريش"، أو يفتعل أزمات لا تليق بالمقهى الراقي، ورغم ذلك تعرض المقهى للإغلاق عدة مرات، من بينهم في فترة الثمانينات، كما لم يخذل ريش رواده وقت ثورة يناير، حيث فتح "عبد الملاك" باب المقهى على مصراعيه لشباب الثورة، طالبا من الجميع الالتزام بقواعد المكان، وذلك دون مقابل، ليقول رفيق صاحب المقهى الراحل "ياما بدروم ريش لمً"، والذي كان أيضا تخرج منه منشورات ثورة 1919.
أنفق "مجدي" على المقهى من جيبه، لم يكن بالنسبة له المقهى مكانا للربح أكثر منه "ونس" وفرصة للحفاظ على مقهى من أكثر المقاهي عراقة في مصر، الجميع كان يتناوب على المكان صغير وكبير، كان صاحبه الأرثودوكسي يقدم العون لفقراء، يقول رفيقه أن اليوم عدد منهم اتصل به يبكي على رحيل الرجل الذي قارب على السبعين من عمره قبل وفاته، كان يجد صاحبه فرصة في جمع صور ووثائق نادرة بداخل المقهى، لأدباء وشعراء وساسة قدموا وتركوا ذكرى منهم بالمقهى.
كان يتمنى "عبد الملاك" أن تعود وسط البلد كما كانت، كان يروي لرواده من صغار السن عن ذكريات لم تُمحى من ذكراه، عن المقهى الذي كان قريبا من مقر مكتب الحاكم البريطاني في القاهرة، وقت أن أصبح ريش ملتقى الصحفيين من أجل معرفة الأخبار، ليتطور ويصبح محمية ثقافية في قلب القاهرة، يستقبل الكاتب نجيب محفوظ ويحيى الطاهر عبدالله وإبراهيم عبد المجيد وإبراهيم البياتي والمخرج داوود عبد السيد إبراهيم أصلان وغيرهم، ويحتسي فيه "عبد الناصر" قبل تولي الرئاسة فنجان من القهوة، ويترعرع فيه شابا يافعا يصبح فيما بعد رئيس العراق صدام حسين، وتغني بداخله "أم كلثوم"، وتزين لوحات "بهجوري" جدران ريش، ويصبح مجاورا للإذاعة الفلسطينية في القاهرة، التي استضافت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
قوانين صارمة للجميع، صغار وكبار، رؤساء وملوك، أو حاشية وعوام، وضعها "مجدي" لرواد المكان، منهم "عم سمسم" أشهر سفرجي يعمل إلى الآن في المقهى، ظهر فيها الكافيه الشهير بعدد من الأفلام السينمائية مثل فيلم الكرنك، واستقبل من رفضوا معاهدة السلام، وكان صاحبه حين يتأزم الوضع الاقتصادي، يرفض أخذ مقابل مادي ويأويهم، تنفرط دموع "حسن" قائلا "مجدي كان طيب القلب، وبيظلل علينا لما يضيق بينا الحال".
"هدف واحد كان لصاحب المقهى، وهو أن يظل ريش كما كان عليه من تقاليد، ولا يتحول لمجرد قهوة من قهاوي وسط البلد".. هكذا يقول رفيق صاحب المقهى الراحل أمنيته التي عاش دونها شيء، ظل فيها ريش أكثر من مقر عمل لـ"عبد الملاك"، أذعن صاحبه للمقهى دون الزواج، ليعيش رفيقا لرواده، ويرحل بعد معاناة في المرض يمكث ما يقارب عشرة أيام في العناية المركزة، يرفض قبلها نصيحة الأصدقاء بالعلاج.
وكما تأثر ريش برواده، انطبع المقهى العتيق بأشعارهم، مثل ما كتب الشاعر نجيب سرور عن معالم المقهى في ديوانه الشهير "بروتوكولات حكماء ريش"، كما قدمت فرقة الفنان "عزيز عيد المسرحية" فصولا عدة من مسرحياته في بهو المقهى، والتي قامت ببطولاتها الفنانة روز اليوسف، تخللها بعض المونولوجات، وخلد ذكرها الفاجومي فؤاد نجم بقصيدة "يعيش المثقف على مقهى ريش، يعيش يعيش يعيش".
فيديو قد يعجبك: