الاحتلال يسكن مع "ناصر" في شقة 70 مترًا
كتبت- دعاء الفولي:
حجري التكوين، بهي الطلّة، فيه من روح الأنبياء الذين مروا قريبا به، فلسطيني المنشأ، يفصله عن المسجد الأقصى أمتار، ضيقٌ على رحابته، دنسّه المستوطنون منذ زمن بعيد، وأبى أصحابه أن يتركوه، ولو كانت مساحة عيشهم فيه قليلة، تنازعهم سخافات المحتل، تؤلمهم المضايقات والعنصرية الإسرائيلية، تنهال عليهم الإغراءات المادية، إلا أن ناصر قوس أقسم على نفسه ألا يبرح أبدا منزله الكائن بالقدس القديمة، وإذا مات عنه توارثه الأبناء والأحفاد، حتى زوال الاحتلال.
هرج وفزع، الجيوش تتقهقر والمواطنون خائفون، نفحات هزيمة 1967 خيمت، طُرد الكثيرون من بيوتهم على يد المستوطنين، تاهوا في شوارع مدينتهم باحثين عن مأوى آخر، أما من استمات ليبقى بمنزله ينازع إسرائيل فقد فاز؛ مثلما فعل محمد قوس والد ناصر "أبوي كان بالمنزل منذ 1936" قال الابن الذي ولد عقب النكسة بعام، حينها كان المنزل تحت إمرة جماعة من اليهود، قبل أن يسترده أصحابه، وصار ملكًا للعائلة والأقارب، مساحته تقارب الـ300 متر، له طابقين وفناء أمامي، قضى ناصر سنوات العمر بين أرجائه، تزوج فيه وأنجب أربعة أولاد وثلاث بنات، أكبرهم ذو 19 عاما.
"هما مستوطنين قاعدين في جمعية دينية متطرفة.. ما بعرف شو يعلموا"، يصف الأب حال الساكنين في الطابق العلوي، بعد النكسة اجتاح الصهاينة جزء من الحوش –المنزل كما يسميه الفلسطينيون- صار الطابق العلوى ملكا لهم، تتبدل وجوه المقيمين والعنصرية واحدة، في الطابق الأرضي يسكن "قوس" مع أسرته بشقة مساحتها 70 مترا، بالإضافة لعائلتين فلسطينيتين في شقتين بجانبهم، فيما يرتع المستوطنون في 300 متر خالصة لهم.
صباحًا ومساءً؛ عذابٌ قائمٌ يعانيه ابن القدس وأسرته، بداية من الكلمات العبرية على مدخل المنزل، الألفاظ المسيئة، رمي القمامة على أسرة ناصر، ووصولا إلى محاولات الاعتداء، تطور الأمر في مرات عدة إلى إصابة أبناء الرجل المقدسي ونقلهم المستشفى، نتيجة ضربهم بالهراوات من قبل المستوطنين، ما كان منه حينها إلا الدفاع عن نفسه، فلم يكن هذا كافيا أمام سلاحهم "معهم كل حاجة.. بنادق ورصاص حي وخراطيش وغاز مسيل للدموع وعصيان"، لا يتوانوا عن استخدامه إذا
.ما لزم الأمر أو لم يلزم، فمنذ أن أمنوا العقاب صار كل شيء مستباحا "السلاح بإيد المجنون بيجرح وهيك الحال".
تحمّل منزل عائلة "قوس" الكثير، شهد احتلال الأرض والعرض من قبل إسرائيل، كان فيما قبل يضج بأصوات الصغار الضاحكين، ينتظرون أمهاتهم اللاتي يحضرن الطعام، قبل أن يعود الآباء من العمل، جارهم حائط البراق، وباب المغاربة. في الفجر يأتيهم أذان المسجد يؤنسهم، كأنما أقاموا ليلتهم فيه، بينما يختلط صوت الآذان الآن بـ"هزل" سكان الدور العلوي.
يعيش في طابق "الصهاينة" من 10 إلى 15 شابا إسرائيليا، فيما يزداد العدد وقت الأعياد، حتى يقارب المائة، حينها تحكم حالة "السكر والعربدة" الموقف "والله ما بنعرف ننام من صوتهم واللي عم بيعملوه "، يحاول هو وأبناءه كظم الغيظ، لا خوفا وإنما تجنبا للاحتكاك بهم "ما بنقول صباح ولا مساء الخير.. هم عدو حتى لو ساكنين فوقينا".
الإغراءات المادية جزء من تعامل المستوطنين مع "قوس"، مبالغ طائلة كانت تُعرض على الوالد ثم عليه لترك المنزل "لدرجة إنهم جابوا لنا شيكات على بياض عشان ياخدوه"، والرفض يكون الرد دائما، بالإضافة لإرسال وسطاء من أكثر من جنسية لنفس الغرض.
يعمل ناصر يوميا، يخرج من البيت مضطرا مع علمه أن زوجته والبنات وحيدين بالمنزل "هاي بيكون أصعب شيء على نفس الواحد"، يُتمم جيدا على غلق الأبواب والنوافذ "بيبقى البيت سجن جوة السجن الكبير اللي احنا عايشين فيه"، غير أن حذره أحيانا ليس كافيا، إذ تعرضت أسرته مرارا لاعتداءات لفظية ومضايقات في غيابه "بتكون زوجتي بتفتح الباب للأولاد مثلا وهما ما بيصدقوا يضايقونا"، كما أن بناته عانين التحرش من قبل المستوطنين المقيمين معهم، إذ ألقوا مرارا الدعابات الجنسية على مسمع من آل البيت "وأحيانا بيخلعوا هدومهم ويمشوا عريانين ويحاولوا يضايقونا أكتر".
معارك أهل "القدس القديمة" قائمة دوما مع المستوطنين، ما أن تندلع شرارة واحدة حتى يتحين الفلسطينيون الفرصة للثأر، ولو كانت نهايتهم القتل أو الاعتقال، كما حدث مع "قوس"؛ تم أسره عام 1987، بعد مشاركته بأحداث الانتفاضة الأولى "قربنا من المستوطنين ووجودهم معانا كان سبب أكبر للغضب"، كان جزاء مشاركته 3 سنوات في السجن، قلقه الذي كان يستمر لساعات بعد خروجه من المنزل، صار وحشا يلتهم أوصاله في المعتقل، وهو بعيد عن بيت الأسرة، لا يعلم ما يحدث، تأتيه الزوجة في زيارة السجن مطمئنة إياه، لكنه ما ذاق راحة إلا مع أول قدم وضعها داخل "الحوش".
على باب منزل "قوس" يقف عدة مستوطنين بأسلحة على مدار اليوم "وظيفتهم حراسة صحابهم اللي فوق عشان الفلسطينيين ميحاولوش ييجوا جنبهم"، الجبن شيمتهم رغم الجلد البادي على الوجوه، يحتمون بشرطة الاحتلال، فهي لن تمسهم بسوء إذا اعتدوا على أي شخص. ضيوف أسرة ناصر الذي جاءوا للزيارة ينالهم من وقاحة المستوطنين جانب "خاصة لما الناس بيتأخروا عندنا إلى الليل خروجهم بيبقى أصعب بكتير"، ومع حالة التحفز بين الزائرين والمستوطنين تنشب مشادات دائمة "هما بيجوش غير بقلة القيمة".
تربى أبناء المقدسي الأربعيني في كنف ذلك البيت، لا يتململ أحدهم من الحياة فيه، من كبيرهم إلى صغيرهم ذو السبع سنوات، منذ أيام اندلعت تظاهرة كبيرة للمستوطنين محاولين دخول الأقصى، ونجحوا في طرد الفلسطينيين من باحته لفترة مؤقتة ووقعت إصابات، من ضمنهم "جهاد" الابن الأكبر لـ"قوس"، تم الاعتداء عليه بالضرب، وخرج حيا بأعجوبة، غير أن ذلك الحدث أمسى عاديا، في نظر الأبناء الذين جاءوا للدنيا فوجدوا "إسرائيل" تسكن بالأعلى.
السكن قريبا من الأقصى، يهون على الأسير المُحرر ما يلاقيه "هاي نعمة من الله، اللي بيملك بيت جنب الأقصى وفي البلدة القديمة إزاي بيسيبوا ويمشي ولو مقابل كل الأموال؟"، منزل الرجل المقدسي هو الدرب لعودة الوطن، يتحسس "قوس" موضعا من الأمل مع كل ضيق، يُعزّي نفسه، يخبرها أن الأرض يرثها العباد الصالحون في النهاية، وإن لم يكن هو شاهدا على ذلك.
تابع باقي موضوعات الملف:
67 عاما على الاحتلال.. فلسطين تكسب الرهان "ملف خاص"
في أول حوار عربي.. أبرز مؤرخ يهودي مدافع عن فلسطين يتحدث لـ "مصراوي"
بالفيديو والصور: الشهيد "فارس عودة".. راقص الدبكة يحيا
بالصور: مرابطات الأقصى.. نساء تزلزل المحتل بـ"تكبيرة"
أهداف سويف.. رحلة بنت فلسطين المصرية "حوار"
بالفيديو.. كيف تدافع عن فلسطين بلغة الغرب؟
بالصور: هنادي.. "ابنة الشتات" ستمر يوما من "فلسطين"
بالفيديو والصور: "أبناء عيلبون" صورة مصغرة لمواجهة الاحتلال
بالفيديو والصور: لينة النابلسي.. فراشة أحلامنا تطل من جديد
بالفيديو والصور: حناجر "ريم" و"رلي" تحاصر "بارود الصهاينة"
بالصور: فريق "المسارات المقدسي".. في حضرة فلسطين التي غيّبها الاحتلال
بالصور: في غزة فقط.. مواجهة المحتل بـ''سجادة حمراء''
خالد يقاوم حصار غزة بـ"الفرن الشمسي".. الاحتلال أبو الاختراع
فيديو قد يعجبك: