لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مصراوي يحاور معتقل سابق بسجن "تدمر" الذي هدمه "داعش" (فيديو وصور)

04:15 م الأحد 07 يونيو 2015

تدمر بعد الهدم

حوار- دعاء الفولي:

الثانية فجرًا من شهر مايو لعام 1980، شاب بعمر الـ17 يرقد نائمًا في فراشه الوثير، أحلامه متخبطة، يقطعها أنبوب موجها له من بندقية روسية، بيد رقيب من قوات سرايا دفاع الخاصة، ينكزه لينهض، يخبر والدته أنه سيصطحب ابنها ليقابل رئيسهم؛ فينكمش الإخوة الأربعة الصغار على أنفسهم، حينها استقر في نفس "محمد برو" أنه لن يعود لمنزله قريبا، تحققت أسوأ كوابيسه بعد أن علم وجهة الذهاب؛ سجن تدمر؛ أسواره بُنيت من دماء المُعذبين، كُتبت عنه روايات "حقيقية" يندى لها الجبين، ظل مرعبا منذ بنائه، وحتى سقطت مدينة تدمر تحت يد تنظيم "داعش"، ومعها السجن. هلل أعضاء التنظيم حين اقتحموه، وخيّم الحزن على قلب "برو"، ضاعت فرصة مهمة لكشف جرائم "الأسد"، الأب والابن، داخل السجون.

كان تيار مسلح يُسمى "الطليعة المقاتلة" يوزع منشورا بعنوان "النذير"، وجده أحد أصدقاء "برو" تحت باب داره، تبادلوه فيما بينهم دون حساب "وكوننا شبان صغار ولا نتقن اية مهارات تنظيمية فقد انكشف أمرنا ووشى بنا أحدهم وتم اعتقالنا والتحقيق معنا عبر فرع أمن الدولة"، وجهت للشباب اتهامات التعاون مع "الطليعة المقاتلة" وكتمان المعلومات، ليكون جزاء سبعة منهم الإعدام طبقا للقانون السوري، عدا "برو" الذي لم يكن قد بلغ الثامنة عشر، فزُج به في "تدمر".

برو قبل اعتقاله بيوم

ثلاثة عشر عاما قضاها الفتى السوري داخل غياهب السجن، ثمانية منها في "تدمر"، قبل انتقاله لسجن "صيدنايا"، لا يدري ما يُفعل به، الموت حلمه البعيد الذي لم يناله، يتساقط المحيطون به في فخاخ الإعدام، غير أنهم يحصدون الرحمة، التفاصيل حاضرة بعقله دائما، لم يكن هدم جزء من السجن القميء وسقوط المدينة هو من استدعاها.

"الذبح مصيركم" كانت التحية التي يلقيها الضباط على المعتقلين قبل ذهابهم إلى سجن "تدمر"؛ فالمحاولة الفاشلة لاغتيال حافظ الأسد بمارس من نفس العام، ألقت بظلالها على السجناء داخله، صار الموت يسيرا للغاية، ارُتكبت بالسجن –عقب محاولة الاغتيال بساعات- مجزرة، وراح ضحيتها 960 سجينا–طبقا لضباط شاركوا بالمجزرة- كلهم من الإخوان المسلمين، الذين حملهم النظام محاولة قتل الرئيس.

أول أيام السجن

المشهد الأول بعد دلوف "برو" السجن كان مألوفا في ساحاته، يتم استقبال المعتقلين عراة ليبدأ التفتيش ثم التعذيب "بالسياط والكابلات والعصي الغليظة والسلاسل الحديدية لمدة 4-6 ساعات متواصلة نُحمل بعدها وقد تسلخت جلودنا وكسرت بعض عظام الصدر وما شابه الى مهجع سيكون هو مسكننا لسنوات طويلة".

كان المهجع يضم أربعة معتقلين للمتر المربع الواحد وبه في الزاوية القصوى حجرة منقسمة إلى نصفين بها حفرة لقضاء الحاجة "لا تصلح للكلاب وكنا نضطر للانتظار ساعتين وأكثر للحصول على دور لدخول هذا الخلاء فلو دخل كل فرد منا الى الخلاء دقيقة واحدة سيتعين على شخص أخير الانتظار 100 دقيقة ليحين دوره"، على حد قول "برو"، أما دخول الخلاء في الشتاء فكان من ضروب التعذيب.

طعام السجن لم يكن أفضل حالا؛ ثلاث وجبات بواقع 6-7 حبات زيتون أو 2 كيلو لبنة أو مربى إلى 194 معتقل أي بواقع 10 جرام أو بيضة يتقاسمها ثمانية رجال، كذلك الغداء حفنة صغيرة من البرغل مع حساء أحمر به بعض حبات الفاصوليا التي لا تتجاوز الخمسة للفرد الواحد، والعشاء شوربة عدس بواقع لتر واحد لكل 15 فرد مع قطعة صغيرة من البصل.

صورة-برو-سنة--الاعتقال_2


"وأحيانا ينفحوننا بكمية من الموز نكاد نشم رائحتها 4 موزات للمهجع أي موزه لكل خمسين". مات بعض السجناء بسبب فقر الدم وقلة الغذاء، كما يقول "برو". سجن تدمر بنته حكومة الانتداب الفرنسي وخصصته للعسكريين، ووصفته منظمة العفو الدولية بأنه "صمم لإنزال أكبر قدر ممكن من الإذلال والقهر والتعذيب بالمساجين"، وقالت عنه في تقرير أصدرته عام 2001 إن "سجن تدمر العسكري أصبح مرادفا للمعاناة والألم، وتُجرّد الأوضاع فيه الإنسانَ من إنسانيته وتهبط به إلى مستوى بهيمي"، لغة التكتم هي الطريقة التي تعامل بها نظام حافظ الأسد فيما يتعلق بالمعتقلات، المعلومات المسربة عن الداخل بسيطة، غير أنها كافية لتدينه من قبل منظمات المجتمع المدني.

حفلتان

للسجن حفلتان؛ واحدة للتعذيب، وأخرى للإعدام، إذا كان أحدهم محظوظا فسُيقتل على الفور، أما الحفل الآخر فيتجرعه السجناء مرتين في اليوم، الأولى عقب الإفطار في الثامنة صباحا، خمسون مهجعا في السجن يُسمع فيهم صوت الصرخات حين يبدأ الجلادون، لا يفلت أحد ولا أعذار "وفي معظم الأحيان يكون التعذيب بملابس خفيفة كي يكون الجلد على الأجساد الهزيلة مباشرة"، والمرة الثانية تكون قبيل الغروب في ساحات السجن السبع، عدا ذلك فكان المعتقل يضج بالحياة، يتبادل السجناء العلم، يعج بحلقات المعتمدين على ذاكرتهم لتوصيل المعلومة للآخرين، بين حفظ القرآن وعلومه، تاريخ سوريا، الحرب العالمية الأولى والثانية، يلقيها طيار يُدعى "عثمان أصفر"، بالإضافة لدروس في الطب والصيدلة "كان مهجعنا يضم ما يربو على 22 طبيب وصيدلي".

 

3

مكث "برو" في المهجع رقم 31، بالساحة السادسة، حيث تُقال أسماء الذين سيتم إعدامهم قبل السادسة صباحا في يومي الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، بحضور ضباط من القصر الجمهوري والمخابرات العامة وإدارة المعتقلات وإدارة السجن ويتم في كل مرة تصوير الحفل كاملا لينقل إلى "الأسد"، ثم تُلقى الجثث البالغ عددها بين 120: 180 شخص إلى مقبرة جماعية في صحراء تدمر، على حد قول المعتقل السابق.

من لم يمت مقتولا، أوشك الرعب على التهامه. سيارة تحمل 46 شخصا في طريقها إلى حمص لمحاكمتهم في الأمن العسكري، بسبتمبر من العام 1980، يمر الوقت بطيئا، فيما تتسلل إلى أسماع المعتقلين همهمات حوار بين ضابطين في الخارج "يقول أحدهما: إلى أين سنأخذهم، فيجيبه الثاني إلى حقل الرمي في سعسع وستتم تصفيتهم هناك"، تلقى السجناء الكلمات بهدوء، ارتاح قلب "برو" لها "كنا على يقين أننا انتهينا من هذا الجحيم الذي لا يطاق وأننا ماضون للقاء الله الذي لا تضيع عنده المظالم"، أكثر ما أوجعه حال والدته الملتاعة حين يصلها خبر مقتله، قبل أن تراه. لم تتحقق أماني المنقولين بالسيارة، انتهى اليوم بسلام دون قتلهم، إلا من زيادة جرعة التعذيب عما هو معتاد.


فيديو : اقتحام داعش لسجن "تدمر"


المحاكم الميدانية التي نُقل إليها "برو" خلال سجنه كانت صورية عسكرية صارمة، لا يوجد فيها دفاع ولا استئناف ولا أي اجراء قانوني يحمي المعتقل "وكانت تجري محاكمة 180 معتقل خلال 90 دقيقة وكثيرا ما كانت تتم محاكمات جماعية لمتهمين بقضية مشتركة ويتم الحكم عليهم جماعيا بالإعدام"، أما الزيارات فمستحيلة بالنسبة للتيار الإسلامي الذي اُعتقل على حسابه، إلا من لأهلهم قدرة على دفع 50 ألف دولار –حوالي 2 مليون ليرة سورية- لضباط الأمن الوطني؛ فيحظوا بزيارة لا تزيد عن 15 دقيقة، يحضرها ضابط ليتأكد أن السجين لن ينبس ببنت شفة عن تعذيبه، وفي فترة لاحقة كانت زيارة المعتقل يعقبها 1500 جلدة على جسده الضعيف "وينتهي اليوم والمعتقل مضرجا في دمائه يلعن الساعة التي أتى بها الأهل".

العفو

طيلة 8 سنوات قضاها المعتقل السوري في "تدمر"، لم يشاهد زيارة واحدة من قبل منظمات حقوق الإنسان، كان ذلك مستحيلا في عهد "الأسد"، خلال السنوات الأولى استقر في نفسه وأصدقائه أن النظام لن يأبه لهم إلا مع ظهور صورة أوضح لنتائج مفاوضات كامب ديفيد، وقد كان؛ فأول عفو شمل المعتقلين كان 1992، ليس "برو" ضمنهم، لكن شمله عفو ثان في 1993، حينها كان قد نُقل لسجن "صيدنايا"، ورغم أن سوء المعاملة والتعذيب كانا حليفاه، غير أن الحياة به أفضل في كل شيء، حتى الكتب كانت متوافرة.


صورتي-عند-خروجي--من-المعتقل-4

بينما يسيران سويا في أحد أروقة سجن صيدنايا، أخبر "برو" صديقه أنه إذا لم يخرج تلك المرة، فسيتعلم اللغة الإنجليزية، قبل أن يدخل حارس من السجن، ويتلو أسماء المشمولين بالعفو "لم يكن اسمي بينهم، اسودت الدنيا مرة أخرى، فقال لي صديق إنه سمع اسمي لكن الحارس الغبي لم يقرأه صحيحا"، استهان "برو" بتلك الجملة، حسب أن صاحبه يهون عليه، لم يكد يرد عليه حتى دخل الحارس مرة أخرى للبحث عن شخص لم يجدوه "قفز أبو زويا راكضا نحوه وهو يصحح الاسم بصوت مرتفع محمد برو واسم الأم مديحة ودفعتني عشرات الأيادي لاقترب إلى حيث وقف ليتأكد مني أنني هو المطلوب ثم قال احضر أمتعتك وانضم إلى سابقيك".

صورت برو ليلة الخروج من المعتقل 5


السجن لعنة ظلت تلاحق المعتقلين المُفرج عنهم، تعين على "برو" عقب إطلاق سراحه بأسبوع الذهاب إلى فرع أمن الدولة، لتكون له صفحة رقمها 81 "وكان علينا أن نراجع الفرع مرة كل شهر نبلغ فيه عن أي شيء له مساس بأمن الوطن أو يمت لأي عمل سياسي بصلة ونوقع على صفح المراجعة متعهدين أننا مسؤولون عن أي خبر نكتمه تحت طائلة إعادتنا ثانية الى تدمر"، ظل الحال هكذا طيلة عشرين عاما، يحاصر التهديد الرجل السوري في بلاده، يحذر العودة مرة أخرى إلى رعب "تدمر"، حتى غادر بلده عام 2012 ذاهبا إلى تركيا.

الخامسة فجرًا في 1993، طرق شاب يبلغ من العمر 30 عاما منزل أهله، خرج من بيته يافعا، وعاد محملا بسنوات القهر، لم يشعر"برو" براحة إلا بخروجه من سوريا، يستقبل ما يحدث بها من قتل وتدمير بأسى بالغ، يعي مدى سوء جرائم النظام الحاكم، كما يؤمن أن "داعش لا يختلف في قذارته وإجرامه واتجاه حربه عن نظام الأسد".

بعد سبع سنوات مع  طفلتيه بيان وقمر 6


أحاسيس مختلطة، ليس بينها شعور الفرحة، ألمت بالسجين السابق لدى سماعه خبر تفجير "تدمر" من قبل تنظيم الدولة الإسلامية "الجزء الذي تم تدميره من السجن خاص بالعسكريين أما الجزء الخاص بالسياسيين والذي اعتقلت فيه فلا أعلم ماذا حل به".

يعمل "برو" الآن كمدير لمركز صدى للأبحاث واستطلاع الرأي، وهي مؤسسة سورية مرخصة في تركيا، يناهز عمره 52 عاما، ضاع حلمه الذي تصبّر به، أن "تدمر" سيُفتح يوما ليراه العالم، كان يأمل أن يُحول لمتحف يزوره أبناؤه وأحفاده "ونقول للنظام لقد مضيتم بكل قذارتكم ونحن باقون سنعيد ترميم هذا المعتقل الذي اعتقلت به روح 20 مليون سوري وسنسطر على جدرانه كل الأسماء التي عبرت به سواء من بقوا أو من قضوا"، لم يبق لديه سوى حرفة الانتظار، كما انتظر الخروج من السجن، وانقشاع نظام "بشار الأسد" وأماني أخرى كثيرة، لم تتحقق إلى الآن.

سجن تدمر 7

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان