إعلان

بالصور: "عفاريت أسفلت" الدائري.. أيادي "تبل الريق" وقت الأذان

02:14 م الجمعة 03 يوليه 2015

عفاريت أسفلت الدائري

كتبت-يسرا سلامة ودعاء الفولي:

يقل عدد السائرين في الشوارع، تعلو ابتهالات الشيوخ بإذاعة القرءان الكريم، قادمة من أحد المنازل، ومعها رائحة الطبيخ المنزلي. يمر فقير باحثا عن كسرة خبز قبل أن ينطلق المدفع. يتسابق الناس إلى البيوت احتماءً بها من الحرّ، واستعدادا للإفطار، فيما يسير آخرون عكس الاتجاه، إلى الطريق الدائري، تصاحبهم أدواتهم منذ بداية رمضان؛ براميل زرقاء، أكواب ستمتلئ بالمياه أو العصير، أكياس صغيرة تحوي أربع أو خمس تمرات، يلتجئون للمارة على الطريق السريع، كي يسقوهم، يستغنون عن راحة الساعة الأخيرة قبل المغرب، في سبيل شربة ماء يعطونها للصائمين العائدين إلى منازلهم أو المسافرين دون زاد، لا يريدون منهم جزاءً ولا شكورا.

إن كنت من زائري الطريق الدائري بأي وسيلة كانت، ربما يقطع حمادة محمد طريقك كأول متطوع على الكوبري الرابط بين عدد من مدن القاهرة، ليهديك عصير عرقسوس أو تمر أو بلح، يمد بها الشاب من منطقة العمرانية يده مع رفقاءه ليسد حاجة الصائمين.
1-(2)

أكثر من 300 كيس من التمر والبلح، يقوم بإعدادهم "محمد" مع رفقاءه، أموال منهم ومن محبي عمل الخير، يرتبون للعمل في نهار رمضان بوضع التمر في الماء، ثم في أكياس، أو "أشولة" البلح التي يأتون بها قبل رمضان، ليقوموا بتوزيعها أعلى الكوبري الدائري وأسفله أيضا "عمل لله" هو السبب الذي يذكره مبتسما حين سؤاله عن سبب استمراره أكثر من خمس سنوات، إذ يخرج في السادسة والربع ويعود لبيته عقب سماع الأذان.

كانت يدا محمود قد اصطبغتا باللون البني حين صعد سُلم الدائري مع ابن عمه طارق وآخرين، لتبدأ مهمة التوزيع. التحضير لعصير التمر الهندي ليس صعبا على الرجل الثلاثيني "احنا عندنا عصارة بتاعتنا"، غير أن العصائر التي تخرج "للخير"، يتم تصنيعها بعيدا عن العصائر المُباعة "بنعمل برميل ونملاه وبيبقى حوالي 20 كيلو"، يحتاج البرميل الواحد حوالي 6 كيلو سكر بالإضافة للتمر والليمون، تكلفة مستلزمات التمر تكون بالتراضي بين الراغبين "مبنلمش من أهل المنطقة احنا صحاب في بعض اللي يقدر يدفع حاجة بيدفعها وربنا بيبارك" قال طارق، قبل أن يهرع لأحد سيارات الميكروباص قائلا لابن العم "لاحق على النقل اللي جاية هناك دي يا محمود".

2

ابتسامة تملأ ثغر الشاب العشريني يتصدق بها هي الأخرى للسائقين وللركاب، يحاول مجدي الذي مكث غير بعيد عن أولاد العم، أن يحمل بكلتا يديه أكبر عدد من أكياس البلح "ده ثواب اننا نفطر صايم"، يقولها ولا يحمل هم أنه لم يفطر في منزله أي يوم منذ بدء الشهر، ليكسر صيامه على الطريق السريع ويعود إلى المنزل بعد ما يقارب نصف الساعة من الافطار.

في ذلك الوقت من اليوم، يتسارع نبض العربات المارة على اختلاف أشكالها، سيارات الميكروباص التي تحمل الركاب من المعادي وإلى الهرم، تقف على جانب الطريق سريعا لينزل المارة، فيما يُلقي الواقفون على الدائري "المؤونة" للركاب والسائقين، من ضمنهم أسامة سعد، الذي يعمل من الصباح حتى الليل خلال رمضان، تعود على الإفطار في الشارع، عن طريق شرب العصير على الدائري، ثم شراء شيء بسيط بمجرد وصوله موقف المريوطية أو المطبعة، رغم أن القيادة وقت الإفطار قد لا تكون مُربحة "ساعات بنعمل الدور رايح جاي في 3 ساعات"، بسبب قلة الركاب قبيل المغرب، أو ازدحام الطريق عقب الثانية عصرا وحتى الرابعة، غير أنه يضمن دخل أكثر قليلا "بفطر برة عشان أجيب للي في البيت عندي يفطروا".

3

يتبقى أقل من ربع الساعة قبل أن يصدح أذان المغرب. سيارة نقل صغيرة، تحمل أربع أطفال وبرميلين من الماء البارد تمكث على الطريق. يغطس كريم الذي لا يجاوز عمره عشرة أعوام في البرميل الأزرق ليحضر أكياس مياه لجاره أحمد سمير؛ فيوزعها. الأوامر تتوارد سريعة من "سمير" للصغار "هات كيس مياه بسرعة"، يناوله أحدهم إياه، فيما ينزل مصطفى -أحد الواقفين فوق السيارة- ليركض خلف "توك توك" مرّ، فيوقفه معطيا إياه بضعة تمرات وعصير تمر هندي.

الطقوس ثابتة منذ خمس سنوات، يبدأ "سمير" الأربعيني، في تحضير المياه قبل المغرب بساعة ونصف "بشتري لوحين تلج من واحد جنبنا وبكسرهم في برميلين"، ثم تأتي مرحلة إذابة الثلج ووضعه في أكياس، ويساعد فيها آل بيت "سمير"، لم يتخلف السائق طوال السنوات الماضية عن ميعاد خروجه بالمياه، مصطحبا معه ابنه كريم "المياه أهم حاجة للصايم، التمر لمؤاخذة ممكن الناس تاخده عشان متزعلش اللي بيوزع لكن المياه بتروي العطش".

4

على نفس السيارة النقل الحمراء، يجاور كريم اثنين من أصدقائه بالمنطقة، يساعدان زميل آخر لهما في توزيع التمر الهندي فيما يضحكان "إحنا عربيتنا فيها كل حاجة"، لا يسأم الأطفال من الخروج يوميا "احنا بندي ثواب للناس والموضوع مبياخدش وقت".

قبل أن يصل الطريق الدائري إلى نهايته، كان ثمة فتيان أكبرهم يبلغ من العُمر 14 عاما، طوله بالكاد يجعله ظاهرا من بعيد للسيارات المسرعة، بعضها لا يقف لهم خوفا من مقالب الصغار، لكنهم بدوا صادقين في أذرعتهم الممدودة بحزم كي يراها القادم، ما إن تقترب سيارة حتى يُلقون الكيس بداخلها ويتجهون لأخرى، لا ينتظرون شيئا من الراكب، ولا يُخبرهم هو شيئا على الأرجح، سوى ابتسامة أحيانا أو كلمة "شكرا يا حبيبي".


يوزع هؤلاء الصغار التمر أيضا؛ محمد وكرم وآخرين، اتفقوا منذ بداية رمضان أن يخرجوا للطريق بعد أن يجمعوا 20 جنيها من أهل المنطقة ثم يعطونها لوالدة محمد التي تصنع التمر منزليا، لا يوجد عدد أكياس ثابت يوميا، فقط ما تجود به الأم. كذلك لا توجد ساعة مُحددة ليستهلوا بها نشاطهم اليومي "بننزل على القرءان كدة"، كما يصف محمد، بينما لا يقلق عليهم الأهل "أصلنا ساكنين في الشارع اللي تحت الدائري بنخلص ونجري على الفطار علطول".

55
في ظل نسائم "المغربية"، قبل الإفطار بدقائق، يهم وليد بالوقوف أسفل نزلة كوبري الدائري، بإشارة من يده، يحث الصائمين على الوقوف بلهجة صعيدية "بل ريقك"، بإحدى يديه يقبض على إناء، وبالأخرى كوب زجاجي، يصب فيه عصير مثلج بمجرد أن يقف له أحدهم.

6-(2)

يعمل وليد في حراسة أحد المنازل الملاصقة للطريق الدائري، تساعده زوجته "أم فرحة" -منذ أربع سنوات- في إعداد أنواع مختلفة من العصير من البرتقال إلى التمر أو العرقسوس "حسب الظروف.. دي حاجة بنعملها لثواب ربنا ومبنشتريهاش ناس بتديهالنا"، يقف الشاب حتى بعد الآذان بحوالي ربع الساعة، يكاد ينكفئ على وجهه بعد أن يبدأ الظلام في الانتشار، متحركا بكوب واحد بين عربة يجرها حصان، ساقيا أب وأبنه، ثم يذهب لسيارة نقل، راجيا من السائق أن يشرب، فيرفض بودّ "والله وزعوا عليا كتير ربنا يخليك يا بلدياتنا".

وكغيره من فاعلي الخير على الدائري، يوزع "وليد" عدد كبير من الأكياس، من 200 إلى 300 كيس أو كوب في اليوم الواحد من الشهر الكريم. ابتسامة يزينها دعاء أو تهنئة "كل سنة وأنت طيب" ينالها الشاب الصعيدي، قبل أن ينسحب من الليل المخيم على الطريق، ويعود إلى مأواه، كذلك يفعل الصغار والكبار الذين انتهت مهمتهم على "الدائري" في النصف ساعة الأخيرة من يوم الصيام، على وعد بالعودة إلى قواعدهم في اليوم التالي وطوال ثلاثين يوما برمضان.

7-(2)

فيديو قد يعجبك: