أصغر غواص بقناة السويس.. حُلم الأب يحققه الابن (حوار)
كتب- إشراق أحمد:
في حمّام السباحة الدولي لمدينة الشيخ زايد بمحافظة الإسماعيلية، كان الأب يمارس عمله بتدريب مجموعة جديدة من الغواصين، وذلك حينما جاءته زوجته بصحبه ابنه البكري، لم يكن عمر "عبد الرحمن" يتجاوز ستة أعوام، انجذب الصغير نحو الماء، حملته أمه خوفا أن يصيبه الضرر، غير أن أبيه بفطرة العاشق قال لها "ارميه في المايه"، فزعت الزوجة "ده ميعرفش يعوم هيغرق"، لكنه ألح في طلبه موجهه هذه المرة إلى مساعده، حتى استجاب له وقذف الابن إلى الماء، فإذا بالصغير يخالف التوقعات، ويتناغم مع الماء، حتى أنه ظل يدعوهم لتركه وقت أطول في المياه، هنا تأكد إحساس الغواص الأب، بأن ابنه ذي الأعوام القليلة، سيكون بذرة لحلم، واستكمال لمشوار عائلة "إمبابي" في الغوص التجاري المحترف.
مع اقتراب موعد حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، تصدر المشروع المشهد، وخفتت ملامح العمال، مَن على أيديهم تحقق انجاز العمل، والذي استمات "عبد الرحمن" بأن يكون بينهم "كنت عايز وحابب يبقى ليا دور"، غير عابئ لعمره الذي لم يتجاوز 14 عاما، فمنذ لمست قدماه الماء، ولم يتراجع عن أمله في أن يكون أحد غواصين اللحام تحت الماء العالميين.
يعتبر "عبد الرحمن" نفسه أصغر عمال القناة سنا، ويراه البعض كذلك، لكنه ما اعتد نفسه يوما متدربا طيلة الثلاثة أشهر التي عمل بها في القناة الجديدة وإن نظر إليه الغواصين الأكبر عمرا كذلك، "أنا اتدربت كتير لكن ده أول شغل ليا"، اختلاف المكان والهدف كان يزيده إصرار على التعلم والعمل، وصبرا على تعليمات مشرفيه "كنت عارف أني في مكان هيكون خدمة للبلد وحاجة كبيرة فالمطلوب مني كنت بعمله وزيادة".
"كنت بقطع توابين" ذلك عمل "عبد الرحمن" بالقناة الجديدة، حيث صناعة أساس رصيف الميناء أو "المعدية" كما يسميها ابن الأربعة عشر عاما، الذي لا يكتفي بالخبرة العملية والشهادات الأكاديمية من مراكز التدريب، بل يتصفح الإنترنت باحثا عن كل ما يتعلق بالغطس والغواصين التجاريين المحترفين.
سعى طالب الصف الثالث الإعدادي للعمل بالقناة، انتابه الفخر، وشعور مختلط بالقلق والفرح، ذهب إلى تحمل المسؤولية برجليه، لكنه لم يعلم يوما أن والده الذي يعمله بجانبه اليوم، كان مثله بالأمس قبل 29 عاما، وتحديدا عام 1986 "كان ليا عظيم الشرف أني أشتغل في قناة السويس في أول تعليم ليا كغطاس محترف" يقولها سيد إمبابي متباهيًا بأنه تعلم على يد أحمد أمين رئيس المسطحات المائية بهية قناة السويس حينها، لكن صوته يملأه العزة أكثر حين يتحدث عن ابنه الذي وضع يده بحفر القناة وهو ابن 14 عاما، فيما فعل أبيه هذا وهو بعمر 21 عاما.
القطع، اللحام، التصوير تحت الماء، هي وظائف الغواص التجاري المحترف كما يقول "إمبابي"، فمن عليه أن يحصل على اللقب، وجب اتقان المهام الثلاث، فهو ما يميز غواص عن غيره، وهو ما يؤمن به وينقله لابنه.
"عبد الرحمن" سر أبيه، أسقاه تعاليم المهنة، أفطمه شفرته في حبها "أنا مرتبط بالغطس زي ارتباط الطفل بالحبل السري للأم"، هو معلمه الأول، حين يذكره لا يقول إلا "كابتن سيد إمبابي"، فعل معه ما لاقاه هو من والده "كان غطاس برده وهو اللي حببني في الشغلانة"، لكن الحفيد كان ذو حظ أفضل من أبيه "عبد الرحمن طلع لقى أبوه عنده شركة خدمات بحرية وتدريب لكن أنا أبويا كان موظف كنت بمشي 3 كيلو عشان أوفر حق المشوار وأروح أتدرب".
يكرس الأب كل وقته لعمله، منذ اكتفي بالدراسة حتى المرحلة الإعدادية ليلتحق بمعهد إعداد الغواصين، تجاهل الوضع المعترف به بالدولة "لغاية النهاردة مبيُعترفش بالشهادات اللي متاخدة من معاهد ومراكز التدريب"، ويعتبرونه فقط حاصل على الإعدادية رغم كونه يعد –حسب قوله- أول من درب فرقة بحرية بالإمارات عام 2008 بإشراف القبطان محسن الجوهري "الراجل اللي بنعتبره رائد في مجال الغطس"، وكذلك أول شخص يدرب السيدات لمزاولة تلك المهنة.
وجد "عبد الرحمن" أرضية صلبة لما يهواه، ليس بمبدأ الوساطة، ولا الإجبار على ممارسة شيء، لكن بتوافر الخبرة، فلا يكرر ما وقع أبيه به، إذ يحرص إلى جانب دراسته على تلقي التدريب المحترف ونيل الشهادات "من سنتين أخدت شهادة النجمة الأولى في دورة الغوص، وبعدها شهادة الامتياز في اللحام والقطع من الأكاديمية الدولية.."، وللأخيرة موقف لا ينساه الابن ولا أبيه.
تقدم طالب الصف الثالث الإعدادي للحصول على شهادة تمكنه من ممارسة احتراف العمل كغواص، بالأكاديمية البحرية بين عدد من الشباب، لا يقل عن 18 عاما -السن الرسمي لممارسة تلك المهنة-، غير أن صفات "عبد الرحمن" الجسمانية، وإصراره على إظهار خطأ نظرية أنه صغير السن لا يمكنه تأدية الأمر، دفعته لإبهار اللجنة التي تواجد بها قدوة أبيه في العمل والتدريب "محسن الجوهري"، والذي لم يكن يعلم أن الصبي هو ابن "إمبابي"، ليحصل "عبد الرحمن" على شهادة "بناء على ما قدمه وليس عمره"، وهو ما يحمد الأب ربه عليه، مستحسنا موهبة ابنه التي شهد لها الكثير.
"كنت خايف ومرعوب أني لما أنزل ما أطلعش تاني" كذلك كان شعور "عبد الرحمن" حينما خاض للمرة الأولى تجربة الغوص تحت الماء مع أبيه بحمام السباحة التابع لقناة السويس "كان أول طفل عنده معدات" كما يقول والده، لكن الخوف تلاشى شيئا فشيئا مع التدريب.
بالترسانة البحرية في الإسكندرية، خاض "عبد الرحمن" تجربته الأولى مع اللحام تحت الماء، خلاف ذلك لا يفارق الصبي أبيه، يلازمه بمكتبه، وعمله، لا يريد أن يفوت فرصة للتعلم من أبيه، وكذلك حال والده معه، ينتهز كل موقف لتلقين ابنه درسا جديدا من خبرته التي تقارب الـ30 عاما في مجال الغوص التجاري المحترف.
في إحدى مرات تدريب "عبد الرحمن" بحمام السباحة، تعمد الأب أن ينزع إحدى أجزاء قناع الأكسجين، فما ارتدى "عبد الرحمن" معداته ونزل إلى الماء، حتى تدفقت المياه إلى الأنبوب، لكن الصبي تعامل مع الأمر، ومر بسلام، وهو ما أراد أبيه أن يعرفه، ويعلمه إياه "من ساعتها اتعلم يتمم على معداته".
حماس واهتمام "عبد الحمن" أشغل الغيرة الحسنة في نفس أخيه الأصغر كما يقول الأب "الغيرة في العلم والشغل حلوة"، ومن هنا برز حلم جديد لـ"إمبابي"، أبطاله أبناءه الأربعة، ويتقدمهم "عبد الرحمن".
مشروع "الغواص الصغير للحام تحت الماء" هو الأمنية التي يكرس لها "إمبابي" اهتمامه، بعد ما وجده في ابنه البكري، شعر أن هناك مسؤولية تقع على عاتقه "لو الواحد اتعلم واتدرب وهو صغير لما يوصل 20 سنة مش هيشيل هم لما يشتغل ويقولوا له عندك خبرة"، تخطى الحلم حدود أبنائه، الذين يُعلمهم جميعهم الغوص بدءً من مروان ابن الـ12 عاما، وعمر 8 سنوات، وحتى مورينا الفتاة ذات الخمسة أعوام، "إن شاء الله هتبقى مفاجئة"، فهم بذرة هذا المشروع، الذي لا يأمل إلا بتوفير مكان له، وأما الجهد التدريبي، فـ"عبد الرحمن" خير حصاد لمن يقول عن أبنائه "عندي 64 ولد وبنت الأربعة معروفين والستين هم أسطوانات الغطس".
فيديو قد يعجبك: