"القرنة".. من يحمي حلم "شيخ المعماريين"؟
كتبت – رنا الجميعي:
في عمارة رقم أربعة بحارة درب اللبانة داخل مصر القديمة عاش "شيخ المعماريين" حسن فتحي، مصريته وعروبته كانتا جذرا الحياة لديه، فكان فخره بهما قائلًا "أنا مهندس عربي، أضاع عروبته، وأنا اليوم في مرحلة البحث عنها"، ظلّ "فتحي" في حالة محمومة من البحث عن جذره الأصلي، توّجها بعدة مشروعات كان من أبرزها قرية "القرنة" بالأقصر، وفي الأربعينيات من القرن الماضي كان المعماري يتوسط العمال النوبيين لبناء مساكن بسيطة مصنوعة من الطوب اللبن، تلك المساكن أبهرت العالم أجمع بتصميمها الفريد، غير أن الدولة ثُم الأهالي التفتا بعيدًا عنها، لم يكتمل مشروع "القرنة"، وظل في حالة تدهور تزايدت الفترة الحالية.
منذ عدة أيام نشرت صفحة "ديوان المعماريين" على فيسبوك صورًا تشير إلى حالة الانهيار التام التي أصبح عليها منزل "حسن فتحي"، ومنزل المعماري بقرية القرنة هو ضمن سبعين منزلًا بناها "فتحي" بتصميمه الفريد.
كانت قرية "القرنة" تلبية لنداء الدولة بنقل أهالي الجبل إلى الوادي، حيث يقومون بسرقة الآثار، حسب الرواية المعروفة، وقام "فتحي" ببناء القرية بدعم من جمعية أهلية، كما تقول "سالي سليمان"، الباحثة في التراث المصري، والآن لا تقع القرية تحت مسؤولية أحد، وتسأل "سالي" :هي القرية دي تبع مين، مضيفة "الجمعية دي اتحلت، فلا الأرض ملك لوزارة الثقافة ولا المحافظ".
2 : قرية القرنة القديمة
مأساة القرية ليست بمفردها كما تقول "سالي"، فمحافظة الأقصر بأكملها لم تقم لجنة حصر المباني بعملها هناك، وهو ما يؤكده موقع "التنسيق الحضاري"، فالجزء المخصص بالأقصر فارغ من أية بيانات، منوهين بأنه "عفوًا جاري حصر هذه المحافظة".
تحت عنوان "القرنة :قصة قريتين" روى "فتحي" بالإنجليزية حكاية القرية التي قدم منها الأهالي، والثانية التي بناها، يؤمن المعماري أن المنزل هو بمثابة "الجلد الخارجي" للإنسان، وبأحد اللقاءات التليفزيونية شرح فيها ما معنى المعمار؛ وهو الفراغ الذي يسكن فيه الإيقاع ملائمًا للروح التي تحل به، لذا كان على البيوت المصرية أن تكون متسقة مع ساكنيها، وهو ما فعله "فتحي" بتصميماته، حيث ارتأى أن بيوت العرب هي بيوت داخلية، تجنح إلى اتساع المساحات بالداخل.
لذا حينما ألّف كتابه هذا، التقطه العالم وتُرجم للغات عدة، واشتهر الكتاب باسم "عمارة الفقراء"، بالثمانينيات بعد وفاة "فتحي" تحوّل الكتاب للعربية بنفس الاسم، مترجمًا إياه "مصطفى ابراهيم فهمي"، قدّمه للقراء الكاتب "جمال الغيطاني"، وتجاوزت النسخ حينئذ الثلاثين ألف نسخة، كما قال "الغيطاني"، بالفيلم الوثائقي الذي يحكي قصته.
مع مستهل هذا العام كانت الباحثة "سالي" بالقرنة، شاهدة على ما آل إليه حلم المعماري، وحينما رأت مسجد القرية الذي أصابه الشرخ "قلبي وجعني لما شفته"، مستنكرة كف أيد الدولة عن مُحاولة النهوض بها، وعدم الالتفات إلى مشروعات التنمية التي قُدمت لها قبلًا "دكتور طارق والي قدم مشروع قبل كدا لزاهي حواس وفاروق حسني ومحدش ردّ"، هو ما أكدّه "والي" بنفسه، حيث شغل منصب رئيس لجنة حصر المباني، في عهد محافظ الأقصر "سمير فرج" قبل الثورة.
حالة الانهيار التي نشرتها "ديوان المعماريين" لم تكن هي الأولى من نوعها، حيث يقول "والي" أن الهدم منذ زمن بعيد، تحكي "سالي" بمدونتها "البصارة" عن القرية، وتذكر ضمن ما كتبته أن الأهالي رفضوا القدوم إلى القرية لأنهم ذو طبيعة جبلية، وقامت الدولة معهم باستخدام العنف بمطلع القرن الـ21، حيث داهمت قوات الأمن بيوتهم مصطحبين البلدوزرات لهدمها، ومن ثم نقلهم إلى القرية.
صمم المعماري "فتحي" القرية بأربعينيات القرن الماضي، ومع مرور الزمن كانت المساكن تتآكل، ولا أحد يهتم بإصلاحها، ومع وصول الأهالي كانت المباني بحالة مزرية، مما جعلهم يهدموها ويقوموا ببناء مساكن جديدة، لكنها ليست كتصميم "فتحي"، يقول "والي" :الأهالي معزورة، أما "سالي" فرأيها أن الدولة هي التي بدأت مسلسل الإهمال "الحكومة نفسها هدت البيت والمدرسة قبل الثورة"، كما أن "والي" يذكر أن المحافظ "سمير فرج" قد هدم جزء من المسرح المكشوف، الذي بناه "فتحي"، وقام ببناء مبنى إداري محلًا له.
ضمّ اليونسكو قرية "القرنة"، بسبعينات القرن الماضي، إلى قائمة التراث العالمي ضمن منطقة "طيبة" المنضمة إلى التراث، وبنهاية عام 2010 أعلن اليونسكو عن بدء حملة لحماية "القرنة"، إلا أنهم توقفوا بعام 2013، ويفسر ذلك "والي" بعدم وجود تمويل، حيث أن مهمة اليونسكو تتلخص في "الخبرات الفنية"، كما تضيف "سالي" أن مسألة الترميم لا تحتاج مالًا كثيرًا حيث أن الطوب اللبن غير مكلف، وهو الأساس الذي اعتمد عليه "فتحي" في البناء، "كل الناس اللي كرمت فتحي ممكن يوفروا".
بموقع قائمة التراث العالمي، مع البحث عن قرية القرنة، يظهر أحد الموضوعات التي تتحدث عن مشروع التمويل، موضحين أن انهيار المباني بسبب نقص الصيانة، وأن المنازل التي صممها في تناقص دائم مثل الخان والسوق، كما أن تزايد الخرسانات يجعل القرية غير متناسقة الشكل، تصف اليونسكو أن ضياع قرية "القرنة"، التي تعتبر تجربة هامة في تنفيذ فلسفة "فتحي"، سيكون خسارة كبيرة للبشرية.
مع تزايد الانهيار منذ القرن الماضي وإلى الآن، قامت كلية الفنون الجميلة بالزمالك بحملة بعنوان "انقاذ تراث وعمارة القرنة"، وتحالف كليات الفنون الجميلة مع الكلية الأساسية بالزمالك، مطالبين المسئولين بتخصيص ما تبقى من القرية لإقامة مركز لدراسات العمارة البيئية والفنون والحرف، وتتولى مجالس الكليات إعادة التأهيل والترميم.
أهمية "حسن فتحي" لا تنبع فقط من كونه صمّم قرية "القرنة"، لكنها جزء من إنجازاته التي اهتم بها العالم، فقد بنى قصر المانسترلي، بيت حامد سعيد، ومزرعة حامد باشا عفيفي، يقول "والي" إن ما قام به المعماري بالقرية لم يكن تحت مصطلح "عمارة الفقراء" بذلك الوقت، لكنه من خلال تصميماته عبّر عن "الانتماء للهوية المصرية، وفلسفة وجمالية مرتبطة بالعمارة النوبية"، وأن ما بناه بالقرية هو "جزء من الحلم"، ومع هدم الأهالي للمباني يذكر "والي"، حيث رافق المهندس المعماري، أنه "أخد الموضوع بشكل شخصي ونوع من الغيرة، كمان شكك في إنه نوع من التخريب العمد".
لم يكن المعماري "فتحي" متمركزًا حول ذاته، بل كان اجتماعيًا، ببيته بدرب اللبانة اجتمع عنده تلاميذه ومريدوه، صانعًا حالة ثقافية فريدة، شهرة "فتحي" تجاوزت الوطن العربي لتصل إلى الغرب "معمار حسن فتحي اتدرس في العالم"، كما أنه حصل على عدة جوائز عالمية وعربية، وكرّمته الدولة بعهد الرئيس السادات "لو مكنش حسن فتحي مهم مكنش اتكرم في مصر، ومكنش اتعمل عنه وثائقيات بلغات العالم"
فيديو قد يعجبك: