بالصور: ''عشش السودان''.. الإقامة الجبرية على أنقاض ''خراب الديار''
كتب-يسرا سلامة وإشراق أحمد:
لسنوات طويلة مكثوا في مكانهم، ارتضوا قلة ''العيشة'' وذات اليد، مثل آلاف القاطنين للمناطق العشوائية في مصر، على امتداد السكة الحديد اتخذوا بيوتهم، عشش من خشب أو طين بشارع رئيس في الدقي، تغير كثير منها بفعل الزمن إلى مساكن من الطوب، لكنها لم تفقد الاسم ''عشش السودان''، تكيفوا مع حياة لا يعلموا إن اختاروها أم اختارتهم، أُجبروا على التعايش مع خطر القطارات، الحمامات المشتركة، الخصوصية المنتهكة في ''عشش'' متلاحمة جوار بعضها البعض، كانوا أخر اهتمام لأصحاب السلطة والمسؤولية، ولما حظوا به بعد وعود كثيرة بالتغيير، جاءهم أيضا ''جبرا''، مغموس بالإهانة، وتناسي الحقوق التي لم يحظوا بها يوما، مخيرين بينه وبين الشارع.
قبل عامين بدأ تنفيذ خطة تطوير عشش السكة الحديد –كما هو مدون بالأوراق الرسمية للمنطقة- ظهر في محيطهم أساس عقار متعدد الطوابق، مميز لونه الأصفر عند أول حدود المنطقة، في اتجاه الذاهب لكوبري المشاة بمنطقة البحوث، والتي بدأت في إبريل 2013، وتم تسليم 30 شقة بالمرحلة الأولى، في هدوء لم يلتفت له أحد، غير أن أهالي المنطقة تفاجئوا بالصباح الباكر ليوم الثلاثاء الماضي بقدوم نائب محافظ الجيزة، ومسؤولين من الحي، بجانب قوة أمنية لتسليم 75 شقة بالمرحلة الثانية، لم يمر الأمر؛ إذ تم بالقوة -وفقا للأهالي- إخلاء عدد من العشش والبيوت المتواجدة، كما هو متفق عليه في مشروع التطوير، بتسليم الشقق وإزالة المباني القديمة، لكن بعض الأهالي لم يحصل على سكن بديل.
شقة جديدة بالأمر
امتلاك سكن جديد، يعني دخول الفرحة على أهل بيته، لكن ذلك لم يحدث، غادرت رباب عبد الرحيم الشقة الجديدة وجلست مع والدتها ببيتها في المنطقة الخلفية للمساكن الجديدة، ففضلا عن خلو السكن الجديد من المياه والكهرباء حسب قولها، غير أن الطريقة التي انتقلت بها لم تدع لها أي فرصة للسعادة، بغتًة في الصباح الباكر، طرق مندوب من الحي بابها، أخبرها بلغة آمرة، أن تغادر غرفتها، وتستلم الشقة رقم 25 بالدور الخامس، طالبت ''رباب'' أن يمهلوها فرصة تجميع أغراضها وأبناها الاثنين وزوجها غير أن الرد جاءها ''لو الضهر جه ومستلمتيش الشقة مش هنسلمها لك''، على عجل لملمت ما طالت يداها من أغراض وضعتها جوار السور، خاصة بعد توجه البلدوزر لهدم بيتها القديم ''يا دوب لميت الهدوم وحبة حاجات''، فيما اندفنت غيرها من الأغراض ''التليفزيون والتسجيل وحاجات تانية اتهدم عليها''.
الحال لم يكن أفضل داخل منزل عائلة ''رباب'' الصغير ذو الباب الخشبي، المحكم الغلق بقفل حديدي، من مياه أدخلت بعد معاناة، وسقف يهربون منه إلى داخل الغرف بالشتاء، وأطفال اعتادت اللعب مع الكلاب المنتشرة بالمنطقة، غير أن التعامل المفرط في القوة، لم تجد له ''رباب'' تبرير، فيما ترى والدتها ''أم دعاء'' أن الحكومة والناس كلاهما ارتكب خطأ، فالأولى بالتعامل السيء، وعدم تحري العدل في توزيع الشقق على مَن يستحقها أولا، والطرف الثاني في تشبثهم بالحصول على أكثر من شقة.
يوم مطلعتلوش شمس
على أريكة خشبية، هي كل ما تبقى له، بجانب حطام أريكة أخرى، وثلاجة صغيرة، جلس مرتضى عبد الصادق يكتم قدرا من الهم، بادي على ملامحه المسن، ''مين اللي هيمسح دمعنا ويهون حزن القلوب من اللي شفناه؟'' تساءل الرجل الستيني، الذي يعد أكبر مَن يحتضنه الجمع المفترش الأرض سنا، مكث ليحرس ما بقى له، فيما تنام زوجته وأبناءه بشقة المحافظة، ''عبد الصادق'' أحد مَن دُون أسماءهم بكشوف الحي لاستلام الشقة ذات الـ45 متر، مجبرا اضطر الرجل للاستلام ''قالوا لي لو ممضتش على الاستلام هنخلي غيرك يسكن''، فضلا عن إخباره أن هناك مندوب أخر من الحي قادم ـبورقة بها أسماء جديدة، كان رفضه محاولة لإيصال الأزمة، فتلك الأمتار التي جاءت باسمه، لن تستوعب عائلته المكونة من زوجة وخمسة أبناء أصغرهم بالصف الثاني الثانوي ''الشقة جت ليا باسمي، لكن الهدد كان لكل البيت اللي في أوض ولادي''.
لم يتعد وقت الظهيرة، حتى انهار كل شيء، ما كان باستطاعة ''عبد الصادق'' المقاومة، دلف بعد توقيع الاستلام، لتجميع أشياءه وأهل بيته من منزلهم ''جم فجأة محدش قال حاجة عشان ناخد فرصة نلم حاجتنا''، داخل غرفته ذات الثلاثة أمتار، بالبيت البالغ مساحته 126 متر، أخذ الرجل المسن يحاول لملمة بعض الملابس، حين استشعر هدم الجدار، فخرج مسرعا دون شيء، ليتفاجأ بالبلدوزر المحطم لكل ما يعترض طريقه، والأمن المطلق لقنابل الغاز المسيل للدموع ''ابني اتصاب في رجله.. عسكري ضربه بالعصاية اللي معاهم دي''.
طالما سمع ''عبد الصادق'' عن تطوير المنطقة لسنوات طويلة، حمل منزله المبني بالطوب رقم 73/4، لكنه لا يعلم سبب التعامل الذي لاقوه ''بنسمع عن الرفق للحيوان، الللي بيضرب حمار بيدفع غرامة وممكن يتحبس.. لكن هنا اللي بيضرب بني آدم بياخد عليه مكافأة''، منذ عام 67 ويقطن الرجل الستيني بالمنطقة، ''من وقت النكسة'' كذلك يحفظ تاريخ إقامته بالمكان، الذي شهد ميلاد أبناءه، وتزوج بها ثلاثة منهم.
''حاربت في 73.. اللي ضربونا بقى كانوا فين وقتها'' بأسى يقول ''عبد الصادق'' واصفا ما حدث بالظلم ''ناس مالهاش حق اخدت شقق وناس تانية اترمت في الشارع واضربت''، يرى هموم جيرانه فيهون همه بالحصول على شقة تأوي أهل بيته، يلوم على الحكومة، والرئاسة المنتخبة ''انتخبنا السيسي وقلنا هيخلي باله من الفقير والغلابة.. لكن لسه بنتعامل زي الحيوانات''، لا يستطيع الرجل نسيان الوجع، الذي أصاب أهالي المنطقة في تلك الساعات ''كان يوم مطلعتلوش شمس''.
كله راح مع البلدوزر
بين الركام، كان حازم عبد الراضي، لم يغفل يوما عن السعي ''على أكل العيش''، أرزقي يعمل الشاب العشريني مثل أغلب أهل المنطقة ''ببيع عصير تمر هندي وبرتقان''، يوم بيوم يأتي ببعض جنيهات ينفق بها على زوجته، ويساعد والدته بجانب أخيه، في غرفة صغيرة يسكن وزوجته، وأخرى خلفها تقيم والدته وشقيقه، ''كانت طين وبانيناها أسمنت مسلح بعد ما المطر هدها'' تقول والدة الشاب، الذي يقيم وأهل بيته منذ أول أمس بالشارع، لا يملكون سوى الملابس التي يرتدونها.
لم يتخيل ''عبد الراضي'' يوما ما حدث ''في الأول كانت أوضة ورا أوضة تستلم الشقة''، لكن ذلك لم يحدث مع المرحلة الثانية التي انتهت قبل 6 أشهر؛ إذ تفاجأ أهل ''عشش السودان'' بتسليمها صباح أمس الأول دون معرفة سابقة، ما كان اسم الشاب ابن الـ22 عاما في كشف الاستلام، غير أنه لاحظ عشوائية الاستلام ''أحنا رقم 74.. لاقينا أرقام 69، 68، 67، واللي بعدي 73،71،77،76 خدوا شقق وفي ناس خدت أكتر من شقة''، فيما لم تنل أسرة الشاب وما بين الأرقام المستلمة السوى هدم مأواهم، الذي يسكنون به لسنوات طويلة.
''اللي مجاش اسمه في الكشف ميطلعش من أوضه'' كذلك سمع ''عبد الراضي'' من مندوب الحي، فبقي في مكانه، لكنه وجده ينهار فوق رأس عائلته، ليصبح طريح الشارع هو وزوجته الحامل، ووالدته المسن، عاجزا عن الذهاب لجلب الرزق وترك أهله، لا يجد سبيل سوى لملمة ما تبقى من أخشاب، يصنع بها ''كشك'' صغير يأوي أسرته، حتى إيجاد حل، يتذكر تلك الساعات قبل الهدم، فرغم قسوتها كانت مريحة بالنسب له ''الواحد كان عايش نايم مبسوط رغم العيشة.. كان البيت بالنسبة له فيلا''، فيما ظل مؤشر الطموحات ينخفض من حلم بحجرة تضمه وأسرته، إلى تمنى تحقيق ما صرخ به في وجه مسؤولين الحي والأمن ''سيبوا لي العشة ومش عايز شقة''.
سكان مش بلطجية
على امتداد شريط السكة الحديد، كانت تتراص البيوت ذات الطوب الأحمر، والغرف الخشبية، حتى قبل نحو عامين، بعد بدء عملية ''التطوير''، فالانتهاء من بناء العقار كان يعني تنفيذ المرحلة الأولى لتطوير منطقة عشش السودان، الذي أعلنت عنه وزارة التنمية المحلية في إبريل 2013، وشيئا فشيئا خلت مساحة من العشش وحلت محلها العقارات المقامة.
بجانب تلك العقارات، كان ''العُفار'' يملأ المكان، لا تزال للأتربة وطأة على ملابس ''صباح''، المعروفة في منطقة عشش السودان بـ''أم عماد''، بعد أن باتت أول ليلتها خارج عشتها الصغيرة، من أخشاب وخوص كانت لكنها ترتبها بنفسها، تشعر معها بقيمة المنزل الكبير، ''كسروا حاجتي كلها تحت الهدم''، لم يكن من نصيب السيدة الخمسينية، التي تعيش برفقة ابنها الكبير، شقة جديدة من العمارة المجاورة لعشتها، ظلت أكثر من عامين تشاهد أعمال بناء العمارات الجديدة بجوار عشش السودان، ليكون نصيبها في أنقاض ومرتبة في الشارع.
أوراق العوائد –المبلغ المدفوع مقابل السكن- كما تقول ''صباح'' لا زالت تحتفظ بها في ثيابها، تخرجهم في لهفة لتؤكد لمن يستمع إلى استغاثتها أن مَن يقيمون بالمنطقة ليسوا ''بلطجية'' كما يصفهم البعض، لا تملك السيدة إلا أن تأخذ مكانا في أحد العشش التي رحل أحد سكانها، ولم تُهدم، أو البقاء في منزل ابنتها، رغم ضيق المسكن ''هتقل على بنتي لغاية ما الحكومة أو أي مسؤول يساعدنا''.
الإهانة والضرب
بين ساكن حصل على نصيبه بشقة جديدة، وآخرون ينتظرون أدوارهم، كان وضع زكريا السيد، الذي تقع عشته في أخر صف العشش أمام العمارات الجديدة التي سلمها محافظ الجيزة لعدد من السكان، غير أنها تحولت إلى كوم من الأخشاب، فيما تجلس زوجته بالشارع، تهدم مكان إقامة ''السيد'' هو الآخر دون وجود بديل، بل وزاد عليه حصوله قدر من الضربات التي ينالها المعترضون على هدم مأواهم ''الحكومة امبارح كانت بتضرب في الناس والحريم، واضرب علينا غاز، هي دي الحكمة اللي مع الشباب؟ بيجيبوا الشباب الأرض''.
لم تُفرق الضربات بين مَن يعترض طريق هدم ''العشش''، الجميع نالهم المصير، حتى بعد انخفاض سقف معارضتهم، بمنع الهدم حتى يخرج النساء والأطفال، وما كان بنصيب أحمد عبد الحارث مختلف عن جيرانه ''أنا أمين شرطة واتضربت عشان بحوش عن واحدة ست هددت أنها تولع في نفسها والعشة'' يقولها الرجل الثلاثيني، الاستياء يتملكه كجيرانه، فمنذ مولده ويسكن بالمنطقة، يعيش مع عائلته بإحدى الغرف، التي لا تتعدى أمتار قليلة، لم يأت اسمه بكشوف المستلمين لإحدى الشقق الجديدة، لكن تضرر أهل بيته الذي توقف البلدوزر لطفا من الله قبل أن يدهس مسكنهم، تصدي الأهالي يراه كان دافع لتوقف المزيد من الهدم.
''اللي معاه فلوس دفع للحي عرف ياخد شقة لكن اللي معهوش اداس عليه''، يقول ''عبد الحارث'' مشيرا إلى وجود تجاوزات حدثت في توزيع شقق هذه المرحلة، وهو ما يبرر تواجد أشخاص ينامون بالشارع، بعد هدم سكنهم، وهو ما لم يستمع إليه أحد، بل كانت القوة هي الصوت العالي في التعامل ''نزلوا في الناس ضرب غاز وخرطوش فالناس ردت بالطوب.. بس أنا عاذرهم العساكر ينفذوا الأوامر''، فلم تتوقف الضربات التي نالها أمين الشرطة إلا بعد الصراخ أنه زميل لهم ''قالوا لي مش كنت تقول''.
انتظار المرحلة القادمة
بالدلوف إلى منطقة عشش السودان، يتبين الانقسام إلى مستويات، فالأمور تبدو هادئة للقادم من اتجاه كوبري المشاة المسمى ''الكوبري الخشب''، لا يُرى إلا القليل من وجوه السكان خارج أبواب بيوتهم ذات الطوب، البادي الاعتناء بها شيئا ما، أصحاب تلك البيوت، هم سكان المرحلة الثالثة أو المرحلة الأخيرة كما يُعرفون، يشاهدون ما يحدث بالمقدمة، تُنقل إليهم الأخبار، والكثير منهم لا يملك سوى الانتظار مثل ''أم أحمد''.
داخل منزل فسيح شيئا ما، ذو ثلاث غرف محدودة، تمكث السيدة وأبناءها الأربعة -3 أولاد وفتاة- منذ تزوجت قبل 15 عام تقيم بالمنطقة، ومن وقتها تناقلت الأخبار عن هدمها، وتم تسجيل اسم زوجها وحصر عائلتها بين الحين والأخر، مما أدخل القلق إلى نفس السيدة ''قلت لهم يعني نوضب حياتنا ولا نستنى''، غير أن مرور الوقت دفع للتكيف مع الحياة، المستقرة بالمكان لسنوات طويلة ''يجي من 65 سنة أم جوزي وهي عايشة هنا''، لذلك استسلمت عائلة ''أم أحمد'' للوضع، بوجود سقف يحميها وعائلتها.
تنتظر السيدة الأربعينية مصير أهالي عشش السودان، تبعدها أمتار عن العشش المهدمة، لا تعلم متى يأتي دورها في حلم شقة تجمع أسرتها ''مبيقولوش أي حاجة.. هم بيبنوا الشقق ويقولوا يلا وغصب عننا لازم نسكن فيها''، رغم أدمية فكرة امتلاك شقة إلا أن خيار البيت يظل مفضلا لـ''أم أحمد''، فالشقق صغيرة كما تقول وشاهدت بنفسها ''أوضتين صغيرين وصاله تكفي عيلة 6 أفراد إزاي؟!''، غير أنها تعلم أنه لا مفر من الاستجابة للأوامر حين تأتي بالانتقال، فقط متمنية أن تراعى مساحة السكن الواحد ''يوسعوا شوية، مساحة الأرض كبيرة، مش يعملوا أكبر عدد من الشقق وخلاص''، كما تدعوا الله ألا يكون حالهم مثل جيرانهم، بمجيء أمر الانتقال بغتة دون انتظار لتجميع عزالهم ''يدونا بس فرصة نلم ونفكك حاجتنا وننقلها''.
بين الباحثين في الركام عن أشياء صالحة، من أخشاب تُجمع في أطباق؛ من أجل بناء عشش تصلح لبيات ذويهم بدلا من النوم في الشارع، وأطفال تلهو بينما يواصل البلدوزر عمله في إخلاء المنطقة من الحطام المتراكم، وأخرين يجلسون في أسى قرب السور المبني بجهود الأهالي لحماية صغارهم من القطارات المارقة، مضي عدد من أهالي ''عشش السودان'' الأيام الفائتة، لا يعلمون ما تحمل الساعات والأيام القادمة، على مضض لا يرغبون في التكيف ''مجبرين'' مرة أخرى مع أوضاع لا يختارونها.
فيديو قد يعجبك: