جمهوركية آل مبارك.. وثيقة تتبع التوريث في زمن "موافقون"
كتب- أحمد الليثي وإشراق أحمد:
لم تكن الحرية التي هتف بها الشعب في 25 يناير مجرد رد فعل على تعذيب تحويه الأقسام، ولا قبض عشوائي وظلم لفئات عدة وفقط، وإنما كانت الكلمة ظلا لوطن بات مملوكا لآل مبارك، يتناوب عليه الأب وابنه ورجالهما، وأفق مسدود ينتظر "جمال" رئيسا لعرش مصر.. وبينما كانت لفظة "التوريث" تتردد في الأرجاء قبل الثورة ببضع سنوات، كان صحفيا مخضرما يتتبع القضية منذ تسعينيات القرن، يسير خلف ذكر اسم الابن الأصغر لمبارك في الصحف، كيف تم تلميعه ومن ألصق به عبارات التمجيد، أين صُنع على عين جنود فرعون، ومتى صار رئيسا تنفيذيا للبلاد.
خبر صغير في موقع إيلاف الإلكتروني عن بيان بعنوان "لا للتوريث"، جذب حواس الصحفي محمد طعيمة، للعودة إلى مضمار الكتابة بالسياسة بعد انقطاع دام نحو 11 عام "من 1989 لغاية 2000 كنت بكتب في الثقافة والفن" يقول صاحب كتاب جمهوركية آل مبارك، الذي لم يتخل تلك الفترة عن الرصد والمتابعة لكافة الأمور وتفاصيلها، قبل أن يتفرغ للعمل على "أول ملف يتعمل بالشكل ده عن التوريث.. كان في ملفات قبل كده لكن بلغة ما نبقاش سوريا" كما يقول.
بحس المحامي المجتهد –دراسة وعمل لفترة- والمولع بالصحافة حد مخالفته لحلم والده "تاني مرة بكى فيها يوم ما قلت هسيب المحاماة"، تلقف "طعيمة" الخبر، وجد بتجربة جريدة العربي الناصري الجديدة مع تولي عبد الله السناوي رئاسة التحرير، الفرصة والوقت الملائم للخوض في ملف شائك، دون التقيد الموسوس بمحاذير توابع الكتابة "السقف عِلي فاتحركنا معاه".
صناعة الوريث
في منتصف عام 2002، وبعد لقاء جاك سترو وزير خارجية بريطانيا الأسبق بجمال مبارك، دشن مصريون من تورنتو بكندا، حملة توقيعات ضد التوريث، تلك كانت بداية التفات الصحفي للأمر، بعد أن كان التوريث مفردة محل أحاديث النخبة وأهل السياسة.
فتش "طعيمة" عن سر ابن مبارك، وتتبع خطواته عن كثب؛ في البدء كان الانترنت " لقيت مواقع كتيرة لمصريين في الخارج مهتمة بالأمر وبترصده لحظة بلحظة" يتذكر الصحفي –بجريدة العربي حينذاك- بداية الخيط. معركة أشعلتها أربعة مواقع، باستفتاء حول التوريث، ومن على موقع محاورات المصريين، وجد الصحفي ضالته، رصد لظهور جمال وتطلعه، وكذا تجميل صورته وإدخاله في كادر السياسة.
"التعاون الاقتصادي العربي في إطار التعاون الاقتصادي الإقليمي.. كيف نمنع نشوب حرب جديدة" عنوان لكلمة ألقاها السيد جمال مبارك، في خضم احتفالات الدولة باليوبيل الفضي للنصر، وبالتحديد في الرابع من أكتوبر 1998، نُشر الخبر بالأهرام دون ذكر صاحب الكلمة، قبل أن تظهر ماهيته تحت مسمى "رئيس جمعية المستقبل" كان ذلك الظهور الأول للوريث المحتمل.
"كان واضح جدا إنه بيتم تجهيزه لدخول الحياة السياسية" من المحافل العامة إلى التلميع راح اسم الابن الأصغر لمبارك يتناثر حول صفحات الجرائد، كسياسي مخضرم أو اقتصادي وربما رجل خير أو مسئول نافذ كما جاء في خبر الأهرام بتاريخ 28 نوفمبر 1998، تحت عنوان "جمعية المستقبل تبني 15 ألف وحدة سكنية لمحدودي الدخل".. بعد فترة أضحى وجود "جمال" ضرورة إعلامية، يرعى مؤتمرات عالمية، ويستفيض في الحديث كخبير، تطور بسرعة مذهلة؛ تبدلت صفته وهبطت التوصيفات المختلفة تلتصق بالاسم، منها عضو المركز المصري للدراسات الاقتصادية، وتبلورت عبارات تفخيم تزيد من أهميته كنقل أخبار من "مصادرة مقربة لجمال مبارك".. وفي السنوات الأخيرة بات لصيقا بمنتخبات الكرة كأحد رعاة إنجازاتها، وكونها منتجا قريبا لرجل الشارع.
جمال بيه...
مع انضمام جمال مبارك للحزب الوطني في عام 2000، وجد "طعيمة" أنه لا يمر أسبوع إلا وتنشر صوره وآرائه تباعا، وغالبا ما تكون في الصفحة الأولى "وبدأ يظهر وسطاء ومدافعين عنه بشكل أكبر وكأنه بيصنع عالمه الخاص"، كتلك الدعوة التي أطلقتها صحيفة نهضة مصر –رئيس تحريرها ومالكها عماد الدين أديب، بحلول جمال نائبا للرئيس.
ولم يكتف الصحفي بالتتبع النمطي، فبدأ ينقب عن المعلومات بالعودة لمصادر مهتمة –ومتهمة- بالترويج للابن.. كالحوار الذي أجراه مع عبد الله كمال حول مقالاته بروزاليوسف، في 2004، وكان رد "كمال" بأنه ضد التوريث، لكنه يرى أن "السيد جمال طاقة محركة ورؤية جامعة لجيل كامل".
في مقر جمعية المستقبل كان لـ"طعيمة" لقاء مع رجل الأعمال أحمد رشدان أحد القائمين على جريدة "المستقبل" الواقعة بنفس العقار الموجود فيه مكتب "جمال وعلاء مبارك"، وكالعادة بدأ الحوار بنفي الصلة بابن الرئيس، قبل أن يصل الحوار إلى "اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش وليه نظلمه لأنه ابن الرئيس".
بعد فترة ليست كبيرة من الوقت، لا تتعدى أعوام أربعة، لم يعد ظهور سيرة "جمال" محل تتبع واهتمام الإعلام المحلي بل ظهرت مقالات وأخبار في جرائد دولية، تشير له، أبرزها تلك الصورة التي ظهرت لجمال على غلاف مجلة النيوزويك برفقة عنوان "عن مستقبل مصر"، والتي أشار لها مقال الأستاذ سلامة أحمد سلامة في الأهرام، وكذا معاهد الدراسات السياسية الدولية بات لها حديث عن "خليفة مبارك"، كتلك الدراسة التي نشرها معهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي أعدها "دانيال سوبلمان" المحلل بجريدة هاآرتس الإسرائيلية، في نهاية 2001 تحت عنوان "جمال مبارك.. رئيس مصر؟".
رغم أن "طعيمة" لم يتعرض لما يستوقفه عن استكمال كتاباته، من منع أو تلميح بذلك، اللهم إلا محاولة لمنع نشر الكتاب، المجمع لما نشره العربي، الصادر طبعته الأولى عام 2006 "الغلاف وقتها كان صادم فحصل اقتحام للمطبعة لكن الجرنال نشر الخبر فخافوا من الدوشة"، وكان الصمت السبيل أمام ما يُنشر، كأنما الأمر متعمد لعدم إثارة القضية، وإعطائها اهتمام، غير أن ما أثاره صحفي جريدة العربي، كان له كبير الصدى بالخارج، فنشرت وكالة أسوشيتدبرس تقريرا مطولا عن توريث الرئاسة في مصر، أشارت فيه لما رصده "طعيمة" باعتباره اختراق "لمحاذير سياسية"، لتتوالى عدد من الجرائد الأجنبية نشره أشهرها "الجارديان" البريطانية.
معارضون ولكن..
ظل الإنكار هو الصفة الدائمة لكل سؤال عن التوريث، فيما كان "طعيمة" يؤكد أن الأمر يتنامى وبقوة، يرصد الصحفي والمنسق الإعلامي السابق لحركة كفاية، في كتابه جمهوركية آل مبارك، حوار الإعلامي جمال عنايت مع جمال مبارك –عقب توليه منصب أمين لجنة السياسات بالحزب الوطني في 2007، ويشير "طعيمة" إلى تلك العبارة التي لخصت دور الابن "همي تنفيذ البرنامج الانتخابي للرئيس حتى 2010"، "مبارك كان سايب البلد تمشي من غير خطة.. وجمال بيتكلم على أنه الرئيس" يقول طعيمة.
دائرة آل "مبارك" لم تنغلق علي مؤيديهم، وقابلي التوريث وإن نفوا غير ذلك، بل ظل "طعيمة" ممسك بخيط الفكرة، حتى رصد بعض ممن يصفون أنفسهم بالمعارضة، يتبارون في القرب من سلطة جمال، كما أوضح "طعيمة"، ففي أغسطس 2006 كشفت الأخبار اللبنانية عن قنوات سرية بين الإخوان، وجمال مبارك، وفي ذات العام رفعت حركة "أحرار الإخوان- التي وُصفت بالمنشقة- لافتات تعلوها عبارات الغزل "بنحبك يا جمال.. وجمال حلم جميل لبلد أجمل"، كان ذلك في ست محافظات مصرية، ولم يكتف "طعيمة" بتلك الإشارات، بينما رصد حوارات عدة لمسؤولين من داخل الجماعة، كان أبرزها، تأكيد الدكتور محمد حبيب لوكالة رويترز بأن الإخوان لا يعترضون على التوريث مقابل شروط إصلاحية.
"هذا سيناريو وهمي، لو كان موجودا.. فمن الغباء الشديد أن يُطرح بهذا الشكل" كذلك قال محمد كمال أمين تثقيف الحزب الوطني لـ"طعيمة" حين سأله عن التوريث، في حوار أجراه معه في أكتوبر 2007، لكن كلماته الساخرة لم تشفع لنفي ما يحدث على أرض الواقع مما اعتبره الصحفي انهيار تدريجي منذ مشاركة "جمال" في صناعة القرار.
الحرس القديم والجديد
كانت حقبة ولاية مبارك الخامسة، حين بزغ نجم الابن الأصغر، وصار له رجاله، ودائرته الداعمة له، فباتت تتبدل قطع الشطرنج، ليبدأ الحرس الجديد بإخراج الحرس القديم من اللعبة، واحتواء الساحة بشتى الطرق، من تداخل الثروة مع السلطة، حال المعتاد في الأنظمة العربية كما يقول "طعيمة"، وحتى إقصاء الكفاءات السياسية بلجنة السياسات، التي كانت بمثابة عصا فرعون للوريث، ليحل محلها أصحاب الأبواق المادحة، والمتملقين كما رصد الصحفي "انكشف الغطاء عن المتورطين من الحزب في قضايا زي "نائب عبارة الموت، وآخر متهم بقتل سوزان تميم واستغلال نفوذه... ووزراء ورجال اعمال يسخرون مؤسسات الدولة لمصلحتهم".
لم تخل سبل "جمال" من العنف كما رصد "طعيمة"، في واقعة الاعتداء على عدد من الصحفيات والناشطات في 2005، الشهيرة إعلاميا بـ"الأربعاء الأسود"، فمنذ ذلك اليوم انتقلت سياسة النظام كما يقول الكاتب الصحفي إلى الانتهاك الصريح الفاضح، وباسم الوريث المحتمل، إذ كانت إشارة تحرك "بلطجية النظام" خصيصا نحو النساء على هتاف "يا جمال قول لأبوك إحنا معاك على طول".
الحاكم العصري وسوزان هانم
أشكال مختلفة قٌدم بها "جمال"، أكثرها إلحاحا، الترويج لقبوله باعتباره أول "حاكم مدني" يكسر مسيرة النظام العسكري الحاكم للبلاد منذ عام 1952، وأيا ما كانت وسيلة الدفع بالابن كانت الأم ظهير داعم له، لكن متى كان ذلك تحديدا "ولماذا جمال الأصغر وليس علاء الأكبر" لم يستطع "طعيمة" الوصول لإجابة بعينها، سوى أن "الأم تعرف أكثر".
في الأول من مارس عام 2004، نشرت مجلة "نص الدنيا" حوار مع سوزان مبارك، كانت فيه الأم كمن تعدد مواصفات ابنها أمام عروس ترغب في زواجه منها "جمال اتصل.. جمال قال"، فسجل "طعيمة" ملاحظاته عن غياب ذكر علاء، مقابل حضور الابن الأصغر بقوة بمواقف تعود لعشر سنوات، وهو ما وصفه الصحفي، برضوخ الأب منذ ذلك الحين لرغبة الأم، التي كان رافض لها في البداية بمبرر أن "البلد تقيلة.. وخايف عليه من تقلباتها".
"اعتمدنا على ما تردد.. ما تسرب" جاء "طعيمة" واضحا في التعبير عن مصادره خاصة فيما يتعلق بدور الأم، في دعم ابنها والوقوف أمام تردد أبيه، الذي لم يحسم موقفه كما رصد الكاتب الصحفي حتى أغسطس 2004، مسندا الكلمات إلى مقال الكاتب محمد عبد الحكم دياب في جريدة القدس العربي بتاريخ 11 سبتمبر من العام ذاته، إذ روى موقف الصراع داخل آل مبارك، حين أصدر الأب قرار تعيين مسؤول أمني كبير نائبا له-لم يسم الشخص-، فإذا بسوزان مبارك تنقض على القرار وتمزقه بينما يسلم إلى ديوان الرئاسة.
يقول "طعيمة" إن موقف "مبارك" الأب ظل مذبذبا تجاه الدفع بابنه للحكم، ينفيه تارة، فيما يؤكد أخرى على وجود "جمال" بقوة في قلب صناعة القرار، كما في حواره مع مكرم محمد أحمد في المصور عام 1993، حين سأله الصحفي عن شائعات عمل ابنه في بنك لشراء ديون مصر، فجاء رد حاكم البلاد دون تفكير، بتأكيد الأمر، قائلا "هذه ليست شائعة.. اشترك ابني بالفعل ضمن أعضاء وفد البنك الذي يعمل فيه في مفاوضات لشراء دين مصري"، الأمر الذي جنى من خلاله البنك ربح كبير نظير شراء قيمة الدين البالغ 180 مليون دولار بنصف القيمة.
طرح منافس
مصر ليست تركة، هكذا آمن "طعيمة"، ومع اقتراب انتخابات 2005، ظل يناقش أوساط عدة حول طرح بديل لمبارك، ومن ثم تخوفات حلول جمال وريثا فيما بعد، يقول في كتابه جمهوركية آل مبارك إن المعارضة متمثلة في الأحزاب والشخصيات المناوئة للنظام انقسمت بين فريقين، الأول يرى الضغط على النظام دون صدام في ظل قانون الطوارئ، والثاني يرى في وضع اسم بديل حقا لبلد لن ترضى بسيطرة مبارك على مقاليد الحكم أكثر من ذلك.
"اتكلمت مع سياسين وفنانين، كُتاب وشخصيات عامة.. وفكرة دولة جمال وتحولات نظام مبارك كانت محور أحاديثنا"، رأى أسامة أنور عكاشة أن الحل يجب أن يماثل ذلك الذي جرى في ثورة 19؛ بجمع تفويضات لسلطة تجابه النظام "كان شايف إن حشد الجماهير هو ضمانة أي تجربة"، ورأى يوسف شاهين أن الضغط بمظاهرات والبحث عن اسم بديل خياران متوازيان لابد من العمل عليهما معا "المهم أن يبقى له حق ينتخب رئيس بلده"، بينما كانت رؤية المفكر محمد السيد سعيد هي الأكثر جرأة والأقل تشككا في قوة الناس "عادي الناس تختلف وتتناقش وتتشابك في جدل صحي لتصل إلى توافق.. وإلا متى سنجرب احترام التعددية"، يقول "طعيمة" إنه مَثل الأمر باختيار الناس لرئيس شركة أو أستاذ كرسي في الغرب "وكان بيفضل إنها تكون غير حزبية، قادرة على القيادة، ولناس تحت الخمسين".
خرجت الثورة في الميادين، استمات ملايين لإسقاط رأس النظام، وتغيير حال البلاد لنحو أفضل، وبلغوا المراد، وبدا الميدان في أبهى حلته، حينذاك كان كتاب "طعيمة" على الرصيف، يُعرض على الوافدين بمعرض "التحرير" بين أخرى مما انجلى قيد الصمت عنهم.. خمس طبعات صدرت لكتاب جمهوركية آل مبارك، صنفه البعض أنه من الكتب الممنوعة قبل الثورة، يحرص صاحبه للإشارة إلى الكاتب مصطفى الحسيني "أول واحد كتب مقالات عن التوريث وللأسف مهضوم حقه"، ويمتن لتجربته مع العربي في محاولة "رصد موضوعي للي بيحصل في السلطة"، موقنا أن قيام الثورة وأد الرغبة المباركية في توريث الحكم.
تابع باقي موضوعات الملف:
مبارك.. جرائم لا تسقط بالتقادم (ملف خاص)
قطار الصعيد المحترق.. مصراوي يروي قصة ''15 ساعة فساد'' لحكم مبارك
قصة كفاح طوسون.. يحكى أن نظام رمى شعبه ''ع الرصيف''
فتحية.. حلمت بالأمومة فأهداها إهمال نظام مبارك ''الإيدز''
لأول مرة.. ناجون من عبارة سالم يروون تفاصيل ''القضية التي طرمخها النظام''
محمد سيف الدولة: مبارك حكم مصر بـ''كتالوج أمريكى'' لصالح إسرائيل (حوار)
فيديو قد يعجبك: