بالصور: محارب وابنة وحفيد.. حكايات حرب أكتوبر في عيلة بطل
كتبت - يسرا سلامة:
على مقعد ذهبي بوسط منزله، يجلس المحارب المتقاعد العميد "محمود جاد"، ممسكا بصورة له تتلون بالأبيض والأسود، فيما تجلس ابنته ريجان بجانبه تستمع إلى قصة الصورة الملتقطة قبيل حرب أكتوبر 1973، وفي تلك الأجواء كان الصغير إبراهيم، الطالب بالصف الرابع الابتدائي يجلس مرتكنا إلى حائط يرى فيه جده يحكي عن الحرب، يلتزم بآداب الاستماع أثناء اللعب بدمية على هيئة دبابة، يستمع للجد وهو يقول "قصص أكتوبر كلها في ذهني يوم بيوم.. حكايات لازم تتحكي للأبناء"، ليخرج الصغير عن صمته قائلا "وللأحفاد يا جدو برضه".
اليوم تمر ثلاثة وأربعون عاما على يوم ملهم في حياة "محمود جاد"، المحارب على جبهة الدفرسوار، حب الوطن والزود عن كرامته كان أقوى من الخوف من الموت، دفعه الأهل للذهاب إلى الجبهة فور تخرجه من الكلية الحربية، تخرجت الدفعة رقم 49 عام 1966، انتقل فور التخرج على جبهة التدريب، قضى ساعات في حرب الاستنزاف، لم تكن إلا دافعا للغل من العدو، الذي خلف شهداء وسرق الأرض.
مع اندلاع حرب أكتوبر تم تسكين محمود سريعا في منطقة الماسورة برفح كقائد لوحدة مشاة، غصة النكسة، غرة الهجوم، والدفاع الذي لم يحدث، كانوا محفزا للشاب على التدريب، وصورة الشهداء لا تغيب عن أذهانه، أعادت القوات لملمة قوتها، التسليح الكامل في حرب الألف يوم، أصبح محمود في تدريبات شاقة "تمركزت في قطاع شرق القنطرة، الاشتباكات استمرت بين قواتنا والعدو على شط القناة، كنا بنروح ونرجع، حاطين روحنا على كفنا، وظهرت بطولات رغم قرار وقف إطلاق النار لكن الاشتباكات كانت مستمرة".
للذكرى طعم خاص، منذ الصغر تشعر ريجان إنها ابنة لمحارب بطل، كانت صوره بزي الحرب تلوح أمام عينيها، ولدت الصغيرة ريجان في مايو من عام النصر، وقبل الحرب رأها والدها ثلاثة مرات فقط، طفلة صغيرة تنتظر أبا ونصرا، حتى انتقلت الصغيرة إلى طور المراهقة فالشباب، لتستمع إلى ذكريات أكثر، يتفتح وعيها، تقول "من صغري وأنا بسمع لبطولات كبيرة.. نمت فيها حب الوطن، يمكن لو مكنتش ابنة محارب مكنتش هحب مصر وارفض اني أهاجر واسيبها بالشكل ده".
في عام 1973، تم تسكين بطلنا في الكتيبة 17 مشاة اللواء 16 مشاه، بدأت التدريبات تشتد بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، كان المشير حسين طنطاوي قائدا للكتيبة 16، الذي كرم العميد محمود جاد في احتفال جُسد بصورة في منزله حتى الآن، جاد كان واحدا من الكتائب الأولى التي عبرت قناة السويس، بعد تدريبات بالقرب من جزيرة "الملاح"، والتي كانت التي تقع في منتصف القطاع الشمالي من القناة، وكانت أحد العناصر التي رفعت علم مصر في الضفة الشرقية بعد تمهيد قوات الصاعقة والطيران، "تدريبنا على العبور كان ليه مغزى عميق، كان بيكسر جوانا ألف حاجز من الخوف".
كأنه الأمس، يتذكر العميد محمود بطولات أكتوبر 1973، خاصة حكاية اليوم الثاني للمعركة وبطلها القائد عبد العليم، الذي ذهب مع مجموعة من الجنود إلى حصن إسرائيلي احتمى به العدو بالدفرسوار، وأسر سبعة وعشرين جنديا.
في كل هجوم جديد كان على المقاتلين صناعة حفرة برميلية في الأرض، وذلك لحماية أنفسهم من أن يصبحوا أهدافا سهلة، وكانت مهمة محمود وصديقة يسري أن يذهبا كلا في اتجاه من أجل الاطمئنان على وجود ذخيرة كافية على كتيبتهم، وبعدها حفر تلك الحفر، يسري كانت جهته اليمين ومحمود اليسار، فإذا بدانة من قذيفة مدفعية تصيب كليهما إثر الاشتباك مع العدو، الأول أصيب بشظايا في المعدة، يذكر العميد "كان بيقولي مش هسيبك وهفضل جنبك.. لكنه استشهد"، فيما نال محمود الشظايا في يده وفخذه الأيسر، وساقه اليمنى، وأخرى في عينه اليسري، وكذلك اصيب في مناطق شتى بجسده.
ظل المقاتل يعود إلى الخلف، ومن الجبهة استقبله أحد بيوت الفلاحين القريبة من الدفرسوار، ضمدت جراحه، من طعام بسيط تقاسم معهم أياما قليلة، "لسة فاكر بيدوني استفندي"، وحتى جاءت الأوامر بنقله إلى القاهرة، "قرار الإخلاء كان لازم يجي من القيادة العُليا"، وفي مستشفى المعادي العسكري، قضى ساعات بين الحياة والموت، وعلى سريره كانت له وصية واحدة، ألا تُنقل الأخبار لأهله في القاهرة حتى تستقر حالته، لكن الخبر كان قد تسرب من أحد زملائه، واستقبلته زوجته وابنته الرضيعة ذات الخمسة أشهر، ريجان.
ابنة محارب لم تكن فقط وصفا لـ"ريجان"، لكن السيدة الأربعينية الآن كانت تستعين بوالدها منذ الصغر في موضوعات التعبير باللغة العربية، والتي تطلب من التلاميذ في كل ذكرى أكتوبر، "والدي طول عمره بيكتب حلو من جواباته على الجبهة لوالدتي"، تلك الخطابات لا تزال تذكرها الأم ناهد، ليس موضوعات التعبير فحسب لكن أيضا الرسومات ملاذا لمشاركة المحارب والابنة في كراسة واحدة، انتقلت تلك "العادة" العائلية إلى الحفيد الصغير، الذي يسأل الجد دوما عن أنواع الأسلحة، وعن القصة وراء كل صورة في حقيبة الذكريات.
لا يزال يتحسس الجد المحارب أصبع الابهام الأيمن الخاص به، أجرى به عدة عمليات جراحية، ظل الأصبع ملتصقا بمعدته من أجل أن يُمد بالدم بعد الحرب لمدة سنة ونصف، أعقبها عمليات جراحية كانت آخرها العام الماضي لحياة أطول في الأصبع المصاب، ذلك بجانب جروح أخرى بالجسد، يتمتم في فخر "الأهم ان ربنا قدرنا وانتصرنا.. النصر ده من عند الله".
انقطع محمود عن الجبهة بجسده، لكنه ظل بروحه هناك، يزوره مشير أكتوبر أحمد إسماعيل، تصل إليه الأخبار من كل وارد جديد، صديق يأتي بأخبار وقف إطلاق النار، وآخر عن الثغرة ومحادثات الكيلو 101، رغبة البعض في استمرار القتال على الجبهة حتى تحرير باقي الأرض، "كنا عايزين نتقدم ونكسب أرض"، الأمل كان أكبر من حرب السادسة عشر يوما "كنا اتدربنا لدرجة إن ممكن حد من الجنود يستهدف دبابة في الظلام من كتر تدريبه"، الخوف لم يكن له محلا "كلنا كنا مستعدين للشهادة مادام في سبيل الأرض".
قصص أكتوبر لا تنضب، تعود لها الحياة بين أبناء دفعة 49 حربية في أول أثنين من كل شهر، وفي دار المشاة يجتمع الكبار، يحكون عن الماضي، ويدورون في فلك المستقبل، حكايات الأبناء ارتبطت بالأحفاد، الضابط الشهيد الذي أصبح ابنه من أبناء القوات المسلحة، والصديق "مصطفى نصار" الذي توفي منذ سنوات لا تزال سيرته عن الأسرى الإسرائيلين، بعد أن فقد إحدى قدميه، وظل بقدم واحدة على قيد الحياة.
يمسك جاد بعدد من الصور القديمة، في الصور شابا يافعا على شط القناة، مبتسما بجوار عدد من الزملاء، يشير الحفيد إلى صورة أحد الأصدقاء مبتسما، فيحكي الجد له "ده زميلنا حسن زويد.. استشهد في الحرب ودفناه وقتها"، يعاود الحفيد بالسؤال "يا جدو شاركتم في الحرب بكام طيارة ومدفعية؟.. عندنا في المدرسة طالبين نحضر أرقام عن حرب أكتوبر"، يصبح الجد للحفيد هو "جوجل" الأصلي، يحكي له العميد عن الأعداد والخبرات، فيما تنفض الأبنة الغبار عن عدد من النياشين الذي حصل عليها الجد "الجمهورية والاستطلاع"، ويظل النصر مصدرا لفخر العائلة.
فيديو قد يعجبك: