بالصور.. "مصراوي" يتتبع حكاية مدرسة "قلبت" الفيوم
كتب - محمد مهدي وشروق غنيم:
بهدوء تقدم شاب عشريني وفتاتان ترتديان معطفا طبيا، نحو مدرسة "عَنك" بالفيوم. في الصباح الباكر، أمام الأمن أظهروا أوراقهم الطبية "مراقب صحة وممرضتين"-هكذا كتبوا في دَفتر الحضور. فُتحت لهم الأبواب. التقوا بمديرة المدرسة. أخبروها بسِر قدومهم إلى المكان، إذ يمنحون الطلاب تطعيمات الوقاية من مَرض الالتهاب السحائي، قبل أن يمروا على فصول الصف الأول الإعدادي. دقائق وعلت صرخات الاستغاثة في الأرجاء. اندفع المُدرسون والعاملون وأفراد الأمن إلى مصدر الصوت، ليكتشفوا حالات إغماء بين الطلبة. "العيال كان شكلها يُخض، شِبه أموات،" يقول أحمد محمود، مُدرس الرياضيات، والمُشرف على المدرسة خلال اليوم.
داخل أحد الفصول، تحلق الجميع حول 3 طلاب مغشي عليهم. القلق يعلو الوجوه. الرعب يهزّ القلوب. صرخات الخوف تصم الأذان. أعين الحضور تراقب الأزمة دون حَركة، غير أن مُدرس الرياضيات لم يطق صبرا "قولتلهم لازم نبلغ الإسعاف بسرعة". طالبوه بالانتظار قليلًا، ظنوا أنها وعكة صحية عابرة، لكن مشهد الطلاب كان مخُيفًا، صاح فيهم: "أنا مُشرف المدرسة وهتحمل المسؤولية لو جرالهم حاجة".
في لحظات قطع الرجل الثلاثيني درجات السلم نحو المكتب، أمسك مُسرعًا بالهاتف، اتصل برقم الإسعاف، صوت الجرس ينهش روحه، ثانية تلو الأخرى، الغضب يأكله، قبل أن يتلقى الرد. "بلغتهم إني عندي 7 حالات إغماء ولازم يجوا بسرعة"، انتهى الاتصال، عاد أدراجه إلى مكان الأزمة. الرعب احتل الفصل الدراسي، زاد عدد الطلاب فاقدي الوعي "لقيتهم بقوا 12 واحد".
الوقت يمر ببطء. المدرسون مكتوفو الأيدي في انتظار قدوم الإسعاف. لا توجد عيادة مدرسية. "محدش بيعرف يعمل إسعافات أولية" يقول كمال موسى، مدرس اللغة العربية في مدرسة "عنَك". التخبط ونقص الخبرة الطبية دفعهم إلى الارتجال في طرق الإسعافات. "رفعنا رجلين العيال لفوق"، يضيف موسى. فجأة توقفوا على صوت "سارينة" إسعاف يدوي في الأرجاء "حضروا بعد نص ساعة"، اندفعوا إلى النوافذ ليجدوا سيارة إسعاف واحدة ومن خَلفها عشرات من الأهالي يهرولون والغضب يتطاير من أعينهم. "الإسعاف فضح الدنيا بالسارينة بتاعته"، يشرح موسى الموقف.
صنوف مختلفة من الدعوات والشتائم استقبلتها المدرسة والمدرسون من قِبل أولياء الأمور. "منكوا لله"، هتف بها أحد الأهالي في ظل محاولات منهم للدخول إلى المدرسة. لم يجد المُدرسون سوى التعامل معهم بالحسنى وامتصاص غضبهم وطمأنتهم على حال فلذات أكبادهم. يقول موسى: "قولنالهم دي حالة نفسية عند الولاد.. والطلبة اللي جوة كويسين"، لكن مع تصاعد الأمر، قررت المدرسة صرف جميع الطلاب قبل انتهاء اليوم الدراسي. "مشيناهم غصب عننا حوالي الساعة واحدة".
لم يكن "محمود" مُشرف المدرسة ينشغل بما يدور من حوله، تركيزه انصب فقط على نَقل الطلاب المرضى إلى سيارة الإسعاف الوحيدة التي حضرت إلى المدرسة "حطينا 12 حالة في العربية لأن مفيش غيرها". انطلقت السيارة سريعًا، قبل أن تحضر أخرى، ثم ثالثة. "جرينا ورا الأولى عشان نوزع العيال على كُل العربيات". عند مَدخل قرية الغرق استطاع اللحاق بها، وضعوا في كل سيارة 4 حالات.
قلقًا، جلس "محمود" في إحدى العربات الثلاث برفقة 4 طلاب، فتاة منهم عانت ضيقا في التنفس "حطولها تَنفس صناعي". أُصيبت أخرى بالأمر نفسه "مكنش فيه أوكسجين تاني في العربية.. فالمسعفين بقوا يبدلوا بين الحالة الأولى والتاني"، فيما يلح المُدرس على سائق سيارة الإسعاف للإسراع من أجل إنقاذ الطلاب؛ فأمهم نحو 25 كيلومترا ليصلوا إلى مستشفى الحجر.
الوضع في القرية مشتعل. مئات من الأهالي يخرجون إلى الشوارع للاطمئنان على أبنائهم في مدارس البلدة. ناصر هيكل، أخصائي اجتماعي بمدرسة "إسحاق" المجاورة لـ "عَنك"، تابع عن كثب ما يدور في الشوارع، قبل أن يندفع عدد من الأسر نحو مدرسته. "جُم مذعورين رغم إن مفيش مشاكل في مدرستنا"، حاول مع الإدارة إقناعهم بالعودة إلى منازلهم دون جدوى، فسمحوا للطلاب بالانصراف "سيبت وقتها شغلي وروحت على المستشفى أشوف إيه الحكاية".
في غرفة الاستقبال، حملّ مُدرس "عَنك" تلاميذه بين يديه، وضعهم بين أيدي الأطباء، أجروا لهم إسعافات سريعة "محاليل وتنفس صناعي وأدوية وعصاير"، كانت الحالة العامة للطلاب سيئة-وفق محمود- بعضهم فاق من الإغماء، دون أن يفصح الأطباء عن سِر الوعكة التي ألمت بهم "الأطباء رفضوا يعرفونا".
من بقَى مِن الطلاب في حالة إعياء، نُقلوا إلى غرف عدة بالمستشفى مع عشرات الحالات الوافدة إلى المكان من المَدرسة أو منازل القرية ذاتها "65 حالة وأكتر" إذ حضر مزيد من سيارات الإسعاف مُحملة بالمصابين، وأخرى ملاكي "فيه أهالي جابوا ولادهم بعربياتهم الخاصة".
داخل أروقة المستشفى، بحث "هيكل" عن المسؤولين للاطمئنان على أبناء قريته "قابلت الدكتور غالب مدير المستشفى، وأكد إن مفيش حالات وفاة أو تسمم"، فيما كان مُشرف مدرسة "عَنك" يقف بجوار طالبة مريضة، أعراض مُقلقة ظهرت عليها "جالها رعشة ووشها اصفر"، خرج من الغرفة لنداء الأطباء، هتف فيهم "تعالوا شوفوا البنت دي يا أخوانا"، ليجد أمامه الدكتور جمال سامي، محافظ الفيوم، ينتبه له الرجل، يقترب منه للاستفهام عن سبب ذعره "عرفته حالة البنت، ولقيته دخل وكشف عليها وعلى عدد من الطلبة".
بعد مرور نحو 3 ساعات، هدأت الأوضاع، استقرت الحالة الصحية للطلاب، حضر المسؤولين بالمحافظة للاطمئنان عليهم، غادر عدد كبير منهم المستشفى برفقة ذويهم "أنا عديت على كل الطلبة واتأكدت إنهم خرجوا بالسلامة". يذكرها "محمود" الذي وجد القرية في سبات كأنه لم يحدث شيء "الأمور استقرت ومفيش مشاكل في البلد"، بينما خرج المحافظ في تصريحات لمصراوي مؤكدًا أن أبناء القرية بخير، ولم تقع أية حالات وفاة كما أٌشيع.
فيديو قد يعجبك: