بالصور: نيازك وقطع من القمر وأحجار كريمة.. مصري يُحول منزله إلى معرض جيولوجي
كتبت وتصوير- دعاء الفولي:
كاد عُمر الجيولوجي محمد الجزار أن يُجاوز السبعين عاما. لكنه لا يجد وقت فراغ، إذ يُمارس هوايته المُفضلة في جمع الصخور منذ عام 1996. آلاف الأنواع اقتناها في منزله؛ أشجار متحجرة منذ 35 مليون عام، صخور الجرانيت، أحجار الزمرد، وقطع من نيازك تساقطت على الأرض، غير أن الجيولوجي المُخضرم لم يحتفظ بتلك الثروة لنفسه؛ فحوّل منزله إلى متحف مفتوح للزائرين، يطّلعون على حكاية الأرض منذ نشأتها وإلى الآن.
مسافة صغيرة تفصل بين أهرامات الجيزة ومنزل الجزار. خلف بيته المتسع تجري أعمال حفر المتحف المصري الكبير. مدخل المنزل يدل على صاحبه؛ زيّنه ببضع صخور ضخمة اتخذت أشكالا منحوتة، ما أن يسأله أحدهم عنها يقول: "دي من عمل الطبيعة".
الجولة في معرض الجزار تبدأ بخريطة تتشارك فيها الألوان، ليست كالخرائط الأخرى "دي للصخور في المنطقة هنا.. اللون الأحمر الفاتح بيدل على أحجار البازلت والأحمر القاني حديد.. والهضبة دي اسمها أبو روّاش.. عمرها 200 مليون سنة وبيدرسوها في الجامعات برة بسبب أهميتها الجيولوجية".. تلمع عينا الرجل السبعيني ما أن يحكي عمّا يحب، يتنقل من صخرة لأخرى كشاب في مقتبل العمر.
في كلية العلوم من جامعة القاهرة تخرج الجزار. حصل على ماجستير في الجيولوجيا من نفس الكلية، قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بداية السبعينات، ليدرس إدارة الأعمال في جامعة كولومبيا، ثم يمتهن العمل كجيولوجي في عدة شركات بترول. بسبب عمله عايش الكثير من القطع المُبهرة الآتية من باطن الأرض، وسمح له العلم بالاطلاع على تفاصيل أخذت لُبّه.
يذكر الجيولوجي حين ذهب إلى المكسيك منتصف السبعينات، ليقابل أحد أهم الجيولوجيين هناك "ولقيته عامل متحف صخور في بيته". وعندما امتدت رحلاته إلى دول العالم، وجد الفكرة موجودة في روسيا أيضا على يد عالم جيولوجيا هناك "ناس عايزة تحفظ العلم وتوصله للتانيين دون مقابل".. هكذا قال الجيولوجي المصري لنفسه، ظلت الفكرة كامنة في قلبه، حتى تهيأت الظروف لتنفيذها.
ليست الخريطة وحدها ما يستقبل بها الجيولوجي الزائرين؛ هناك طبقات الأرض الثلاث، البادئة بالقشرة والمُنتهية باللب "ودة الجزء اللي بيدور ولو وقف الكون كله ينتهي". حديقة مُتسعة تراصت فيها مقتنيات المعرض، بينها كانت خريطة تتحدث عن عُمر الأرض الذي جاوز الستة بليون عام، وتفاصيل عن أقدم حفريات وجدها العلماء، عُمرها 570 مليون عام.
جمع الجزار الحفريات من جميع أنحاء مصر. من مرسى علم والصحراء الشرقية، مرورا بجبال سيناء وحتى حلايب وشلاتين. الصحراء صديقته. والصخور رفقاء دربه.
في مدخل الحديقة استقر "الزلط" بألوان شتى، أطلق الجيولوجي على هذه المجموعة "ثقافة الزلط".. إذ أن الناس لا تهتم بتلك القطع التي يجدونها في الأرض، إلا أنها في الحقيقة "أحجار كريمة"، ومنها تُصنع الزينة النسائية. بجانب "الزلط" ثمة أحجار الكهرمان الخام، المستخدمة في صنع السِبح، وعلى بُعد أمتار كانت أقراص صفراء، هي خام مادة الكبريت، حصل عليها الجزار من مدينة رأس غارب، فيما ثُبتت أحجار التلك الكبيرة فوق إحدى الطاولات "ودي اللي بيتعمل منها البودرة بس لازم يبقى الحجر خام جدا".
حين بدأ الجزار في الجمع، لم يحسب أنه سيستخدم صخوره لأي غرض، لكن عودته إلى مصر بعد سنوات الاغتراب، جعلته يفتح المعرض إلى العامة منذ عام 2010.
أكثر زائري المكان من الأجانب والمهتمين بالصخور. الذهول يجمع بين القادمين، ويصل أحيانا حد التقديس "فاكر مرة واحد صيني خدنا جولة في المكان وبعدين لقيته شد إيدي وعايز يبوسها.. انبهرت جدا برد فعله". في المقابل لا وجود للمصريين إلا نادرا، استقبل الجزار أكثر من مرة طلاب مدارس، لكنها مدارس خاصة أو أجنبية. يتمنّى الجيولوجي وجود مدارس حكومية، وكاد الأمر أن يتحقق حينما اتصل به مدير مدرسة في الدويقة "قولتله اتفضلوا نوروا"، غير أن أحدا لم يأتِ.
يُنفق الجيولوجي آلاف الدولارات على مقتنياته؛ إما لشرائها ممن يجدونها، أو للتأكد من هويتها، خاصة إذا تعلق الأمر بالنيازك. في ركن خاص داخل المنزل توجد قطعة بُنيّة اللون، تلمع أجزائها تحت الضوء، هي جزء من نيزك حصل عليه الرجل السبعيني، لكنها ليست الوحيدة؛ فهناك "حتة من نيزك الكهونايت ودة من المريخ وجابهولي واحد من السودان وفيه نيزك الجيوسايت"، يقول الجزار بينما يُشير بفخر شديد إلى التحف التي حصل عليها بشق الأنفس.
الأحجار القادمة من خارج الأرض هي إما من المريخ أو القمر. الحظ السعيد صاحب الجزار في جولته على مدار العشرين عاما، فلديه صخور من القمر أحضرها له أحدهم من خارج مصر، لكن انبهاره بها ليس كتلك الصخرة التي وجدها في الأرض داخل مصر وساوره الشك فيها "ولمّا بعتها لمعمل متخصص في تحليل الصخور في أمريكا اكتشفت إنها قطعة من نيزك". أنفق عليها أكثر من ثمانية آلاف دولار، إلا أن قيمتها العلمية بالنسبة له أهم بكثير من المال.
كل فترة تأتي للجيولوجي قطع من بقاع مُتباعدة؛ أمريكا، إنجلترا، بولندا، وإيطاليا وغيرهم. يحتفظ داخل منزله ببعض الصخور المُقربة لقلبه؛ كتلك البلورة بنفسجية اللون، الشبيهة بأحجار الزمرد، واسمها العلمي "أماتيست كوارتز". بجانبها منحوتة ناعمة الشكل سوداء اللون، هيئتها كنبات عيش الغراب، يرفعها الجزار بحذر قائلا "دة مشروم مُتحجر من حوالي 28 مليون سنة".
سنتيمترات قليلة تفصل "عيش الغراب" عن القطعة الأقدم على الإطلاق؛ صخرة "الترايلوبايت" التي ناهز عمرها 570 مليون عام، القادمة للجزار من بولندا. فيما وضع في صالة المنزل قطعتين خضراوتين من أحجار "الجيدايت"، وزن كل واحدة منهما أكثر من 10 كيلوجرام "جبتهم من حلايب وشلاتين". حينها طلب منه الشخص الذي أحضرهما ألا يقطعهما كي لا تفقدان جمالهما، فأخبره الجيولوجي أنه لا يتاجر بالقطع، هو فقط يحتفظ بها ويعرضها للناس، ويُصنفها علميا مدُونا ذلك.
مازالت الصحراء هي شغف الجزار الأول. يساوره الحزن حينما يرى خريجي كليات العلوم أو العاملين بمصلحة الأبحاث الجيولوجية لا يعرفون الكثير عنها "الجيولوجي عشان يبقى أسطى لازم يسافر ويلف ويشوف.. احنا معندناش بعثات بتطلع تعمل دة للأسف". مصلحة الأبحاث الجيولوجية المصرية هي الرابعة في العالم من حيث الإنشاء والأولى إفريقيا. ورغم أنها بدت واعدة، غير أن دورها اضمحل مع الزمن، حتى كاد يختفي، حسبما يوضح الجيولجي لمصراوي.
مواقف طريفة مر بها صاحب المعرض مع الزائرين، أبرزها حينما يظن أحدهم أن عُمر الأرض عشرات الآلاف من السنين فقط "ببقى مستغرب جدًا.. لأنه أ ب حياة إننا نعرف المكان اللي عايشين فوقيه". يعذر الجيولوجي غير المتخصصين، لاسيما مع عدم وجود قنوات مفتوحة لتوصيل العلم لهم ببساطة، لذا يتمنى هو أن يشارك في نشر الوعي، من خلال ورش عن علم الجيولوجيا. يُريد رؤية الصخور موجودة في بيوت المصريين تُزينها "في إنجلترا بيحطوا ألواح بودرة التلك كزينة"، فمازالت ثقافة الخوف من الصخور الخام مُنتشرة "لما بتتكسر وتتعمل بالإيد بيدفعوا فيها فلوس كتير رغم إن الخام قيمته أعلى".
ذاك الحلم ليس الوحيد، فمع العمل على مشروع المتحف المصري الكبير، يأمل الجزار أن يكون لديه مساحة داخل أرض المتحف، لعمل معرض جيولوجي "مصر فيها ثروات معدنية هائلة محدش شايفها"، يسعى الجيولوجي إلى إيجاد فرصة، لكن الأمور لم تتضح بعد، أما حلمه الآخر فكان إنشاء اكاديمة لعلوم الجيولوجيا في محافظة الوادي الجديد الواقعة في الصحراء الغربية، فالمنطقة مليئة في نظره بالثروات العلمية غير المُكتشفة.
"مش مهتم الصخور هتروح فين بعد ما أمشي من الدنيا.. المهم إنها هنا دلوقتي والناس بتستفيد بيها".. ذلك المعرض هو خُلاصة عمل الجزار على مدار أكثر من أربعين عاما. تُمازحه زوجته أحيانا عن منزلهما الذي امتلأ بالصخور، لكنه يستمر في جمعها، فرضاه عمّا في حوزته وانبهار الآخرين بما لديه، يُعوضه عن أي نواقص أخرى.
اقرأ أيضا:
فيديو قد يعجبك: