مصراوي على "أرض الخوف".. هنا قرية المتهم بتفجير الكنيسة البطرسية (معايشة)
كتب - محمد الصاوي ومحمد مهدي:
على شاشة تلفاز صغير بمصنع سيراميك بالفيوم، كانت البرامج التلفزيونية المُختلفة تتحدث عن "محمود شفيق" المتهم بتفجير نفسه بالكنيسة البطرسية، الذي ينتمي لإحدى قرى المحافظة، لم ينتبه "أحمد خميس"- أحمد العاملين- إلى الأمر، غادر مُسرعًا في المساء للحاق بصديقه الذي ينتظره كل ليلة لنَقله إلى المنزل، لكن الصديق تخلى عنه هذه المرة "اضطريت أمشي 4 كيلو في الضلمة، عشان صحبي خاف يدخل البلد لأن الدنيا عندنا قلقّ" قالها "عيد" بأسى.
شيء من الخوف سيطر على أهالي "عزبة الأردن" بمنشأة عطيفة، المنطقة التي عاش فيها المتهم، الأفواه مُغلقة، فقط كلمات قليلة مُكررة عن الفتى الخلوق الذي غادر البلدة في 2014 بعد سجنه لنحو شهرين، تقطعها نظرات زائغة هنا وهناك بين جُملة وأخرى. الناس تخشى الوقوف في صف المتهم قلقًا من بطش الأمن، أو التصديق على رواية الحكومة فتغضب أسرته، طريقين كلاهما مُر - وفق خميس.
في زقاق صغير متفرع من حارة ضيقة بالعزبة، أغلقت أم المتهم منزلها أمام الوافدين، رافضة الخروج إلى وسائل الإعلام للإجابة على مزيد من الأسئلة حول الابن، فيما يقف على ناصية الزقاق شيخ الخفر وشخص آخر لا يفارقه ذو شارب مقوس، لا يشتبكان مع أحد كثيرا غير أن أعينهم رابضة على بوابة المنزل وأصحابه لا تفارقه.
المنازل المُجاورة لمنزل المتهم، مهجورة من أصحابها، الأبواب مُغلقة بالأقفال المعدنية، لا يظهر سوى أطفال من آن لآخر، يتهامسون فيما بينهم ثم يتممون على بيوتهم ويتركون المكان، قبل أن تمر سيدة خمسينية تُغطي وجهها بجزء من خمارها صارخة: "احنا مش هنتكلم، مش عايزين ندخل نفسنا في مشاكل، كل ما الواحد يكون في حاله محدش يقدر يعمله حاجة، عندنا عيال خايفين عليهم".
السيدات الجالسات أمام البيوت، في محيط منزل المتهم بتفجير الكنيسة، تراقبن ما يدور حولهن من توافد وسائل الإعلام ورجال الأمن، يكسر الوقت التزامهن بالصمت، تروى إحداهن أن "شفيق" عُرف عنه الالتزام الديني، لا يفوت صلاة بالمسجد، ولا يرفع عينه في إحداهن، يمر بخفة دون صوت، ويعمل أحيانًا على "توك توك" لمساعدة أسرته، قبل أن تنقلب حياته رأسًا على عقب بسجنه ثم خروجه ومن بعدها غيابه عن المنطقة منذ أكثر من عام.
بالمنطقة مساجد عدة، غير أن أقربهم إلى "عزبة الأردن" هو مسجد أبوعطية، يجلس داخله "عم جمعة" العامل المسؤول عنه، يقول إنه لا يعرف الكثير عنالمتهم، فقط كان يأتي للصلاة وحيدًا دون رفيق أو أحد من ذويه، يرتدي دائمًا جلباب بسيط ولم يظهر عليه أية علامات مريبة، قبل أن يقاطعه وصول لجنة مفاجئة من وزارة الأوقاف. فيُنهي حديثه في عجالة.
في الجهة المقابلة للمنطقة التي يقطن بها "شفيق" جلس شابين على عتبة دارهما، يبتسم أحدهما ساخرًا "متغلبوش نفسكم، الناس خايفة ومش هتقول أي تفاصيل"، يحكي عن بساطة الأهالي وخشيتهم من وقوع أية أزمات خاصة أن قوات الأمن حضرت إلى عزبة الأردن قبل ساعات من إعلان تفاصيل الحادث، واصطحبت والدته وأحد أشقائه، قبل أن تعود الأم وحيدة.
يضيف الشاب: "كمان الشرطة عدت على القهاوي وعمالة تبص على بطايق الناس وخدت كام واحد، دا معناه إن محدش هيخرج حتى من بيته الكام يوم دول". تُسكته زجرة من أعين رفيقه على العتبة.
داخل مقهى بدائي، عبارة عن قطعة أرض بها نَصبة شاي وسقفها من الخشب والقش، كان العامل يهم بإغلاق المكان"خلاص قفلنا على كدا النهاردة"، يُعيد الشاب العشريني الكراسي إلى أحد الأركان مُحدثًا ما تبقى من زبائنه "لما شافوا حالة القهوة عرفوا إن اللي بيقعدوا هنا غلابة لا بيهشوا ولا بينشوا".
تلك الزيارة الأولى لأفراد الأمن منذ زمن طويل "محدش بيجي هنا إلا في الشديد القوى، تقريبًا كل دا بسبب الواد اللي قالوا إنه فجر الكنيسة"، يقاطعه أحد الزبائن، مُشيرًا إلى أن تلك البلدة لا تعرف الأزمات منذ فترة الثمانينات والتسعينيات، إذ كانت في الماضي محط اهتمام الشرطة نظرًا لوجود عناصر من الجماعات الإسلامية المتشددة بها "بس الوضع اتغير لما اتحبسوا كام سنة وطلعوا، من بعدها البلد هس هس".
بالقرب من المقهى، تقبع مدرسة أبوبكر الصديق الإعدادية، التي درس بها "شفيق"، اليوم شهد زيارة مفاجئة أيضًا من الإدارة التعليمية، ولا يتذكر أستاذ عويس القائم بأعمال وكيل المدرسة المتهم، يقول إنه كان متواجدا خلال انتظام "شفيق" كأحد طلاب المدرسة لكنه لم يُدرس له "هنفتكر مين ولا مين، كان عندنا تلاميذ ياما".
"رانيا شعبان" المُدرسة التي منحت "شفيق" شهادة تقدير عن إجادته لمادة اللغة الانجليزية، لم تعد موجودة بالمدرسة، يوضح "عويس" أنها انتقلت إلى مدرسة أخرى. وبعد الحصول على عنوان والدها القريب من منزل المتهم، والانتقال إلى هناك، توارت إحدى السيدات بالبيت عن الأنظار مُغلقة بوابة الدخول بسرعة، قبل أن يقترب رجل لم يُعرف نفسه مؤكدًا أنه لا يوجد أحد بالبيت.
الشمس بدأت في الانسحاب تدريجيًا من سماء البلدة، غادر الجميع المكان إلا أهلها، بدا الارتياح على ملامح أبناء المنطقة بعد أن خفتت الأسئلة التي حاصرتهم من وسائل الإعلام، غادر أفراد الأمن المنطقة، لكن صاحب "الشارب المقوس" ظل جالسًا على بُعد أمتار من منزل المتهم، كلما زارهم ضيف كان يلحقه بخطوات.
فيديو قد يعجبك: