أبناء حلب يروون لـ"مصراوي" ذكريات ما قبل الدم
كتبت – يسرا سلامة:
صورة بعيدة تختلط فيها السحب بغبار الحرب، وصورة مقربة لأشلاء أطفال تعلوها الدماء، وعجائز يحاولون الفرار من المصير المحتوم وسط ركام منازلهم المهدمة، تلك هى الصورة لمدينة حلب بالأيام الماضية، أكبر المدن السورية، كانت قبل هذا وارفة الظلال، وفي أعين أبنائها تظل عروس تتجمل، تمر من أمام أعينهم بديعة، يوقر في نفوسهم المدينة حين تبلغ ذروة قسوتها، مثلما حدث الخميس الماضي، حين تم قصف مستشفى ميداني بها، أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 230 شخصا، منهم اطفال ونساء، وعدة غارات لم تكن الأولى على المدينة السورية.
قبل صور الدماء والأشلاء، بحث "مصراوي" عن ذكرى حلب في نفوس اثنين من أبنائها، "حسام محمد" الرجل الخمسيني، و"وسيم" الطبيب في أواخر العشرينات، لا يربط بينهما سوى ذكرى تلوح في أفقهما حين يستمعون لاسمها، او صورة من آثارها، أو مكان من قلب حلب شهد طفولة و شباب وحتى رحيل أخير فرضته الحرب أو الظروف الأمنية.
عشرون عاما وأيام تجاوزت ذكريات "وسيم" -الذي يتحفظ على ذكر اسمه كاملا- في مدينة حلب، في حي المريديان، الذي اتخذ من اسم الفندق الشهير اسما له، نشأ الصبي الحلبي، وبجوار منطقة "سيف الدولة" كُتبت في قلبه قبل أوراقه الثبوتية موطنه "حلب- سوريا"، الخروج الأول من موطنه كان لمصر لدراسة الطب، قد شغفه حبا بالعودة إلى المدينة التاريخية، وأوقفته الحرب والظروف الأمنية بعد تخرجه في العام 2013.
مدينة بيضاء حلوة، لذلك قصة يذكرها وسيم عن حلب التي ما إذا ارتمى فيها أي أساس لبناية، فتتلبس بالأبيض، يستخدم فيها البناؤون الحجر الأبيض منذ عشرات السنيين، لمعة تلوح في عيني وسيم إذا ما تذكر زخات الأمطار على هذا الحجر، وتستعيد حلب جزء من رونقها الساحر، التي تظل دوما مدينة نظيفة كما يقول ابنها وسيم "ريحة حلب كلها غير".
من زيارة سيدنا إبراهيم إلى منطقة الشام، اتخذت حلب اسما، إذ كان يملك بقرة أطلق عليها شهباء من شدة بياضها، وكان يسكن بمدينة حلب، فيتسابق إليها الناس لشرب حليبها الصافي، ومن هنا أطلقت على المدينة اسم "حلب الشهباء"، وفي اللغة السريانية معنى كلمة "حلب" هو اللون الأبيض، ويطلق عليها أيضا اسم "المدينة البيضاء".
من منطقة حلب الجديدة، خرج "حسام محمد" منذ ثلاثة أعوام من حلب إلى مصر، بلغ الثالثة والخمسين في رحاب وطنه، لا تبقي الحرب ولا تذر له سوى الذكرى الطيبة، وصورا تأبى النسيان، ودموعا يذرفها حين يتذكرحلب التي يراها كما يسرد "عروسة حلوة" لا تزال شابة رغم إنها أقدم مدينة تحوي آثار حول العالم، بها من معالم التاريخ البيزنطي والروماني، والقلعة الكبرى، وأماكن عديدة ظلت إلهاما للشعراء يغزلون فيها عشقا لحلب.
يحن وسيم إلى مكان كان للهو فيه صغيرا، منطقة جبلية تسمى "صلنفة"، في عليائها يخترق الغيم نفوس البشر "الغيمة بتعدي من جوانا"، تعتبر من أعلى المناطق الجبلية في حلب، زيارة سنوية كانت كالواجب تحن إليها روح وسيم، وإلى منطقة "كسب" الجبلية، التي تمتلك جوا رطبا "بعز الحر بتكون متل التكييف"، لهو ولعب لم يذهب من ذاكرة وسيم حين كان طفلا في تلك المناطق، وحتى قهاوي صغيرة ومطاعم شعبية تقدم الفول الحلبي ذي الخلطة المميزة، مثل قهاوي في محيط قلعة حلب، أكبر وأشهر قلعة هناك.
أسواق شعبية تجمع الباع والمشترين حول تلك القلعة، حولها كان يرتاد وسيم، وبها لا تزال تفوح الذكرى، تجمع المشغولات اليدوية وفنون النول والحياكة والحرير، يتذكر "خان الشونة" الذي يتفرد ببيع الطرابيش الحمراء، بالإضافة إلى الأزياء العربية المزركشة، والتي يتادها كل من يحن إلى الأصول الحلبية، أو من يريد إعادة التراث الحلبي، يظهر في عدد من المسلسلات الحلبية "كل هذا أصبح في التاريخ الآن"، جزء كبير من تلك الأسواق التهمه الدمار.
بين الرحيل وحلم العودة، لا تزال صورة المدينة تلوح في ذهن الشاب، لم تغب يوما بعد القصف، يرى وسيم إن الدمار الذي خلفته الحرب منظر عادي إذا ما قورن بما فقدته سوريا من الأرواح والبشر، والآثار التي تتهاوى أمام عينيه في نشرات الأخبار "تتعوض"، ينما يظل البشر يطرحون على الطبيب سؤال "الناس كيف بترجع؟"، تلوح أرقام الضحايا أمامه ككارثة عن جيل سوري دُمر تماما، تتبعه معلومة عن أعداد الشباب السوري الذي قل عدده، وعن معتقلين راحوا بين القصف والقتل والتعذيب.
مقهى "دار الورد" أكثر ما يتذكر الرجل الخمسيني من أماكن تحن إليها ذكراه، بالإضافة إلى صورة للساعة القديمة بوسط البلد في حلب، وكذلك جامع التوحيد ووراءه كنيسة في السليمانية، في تلك الأماكن وغيرها كانت حياة "حسام"، تخرج من كلية العلوم في أوائل الثمانينات، ومنها انتقل إلى الأعمال الحرة، ليقيم حاليا بمدينة أكتوبر بمصر، كما تورد عدد من الآثار التاريخية في ذهن وسيم، أكثر ما يورد عليه صورة المسجد الأموي، الذي تعرض لاعتداء على مصليه في 20 مارس 2011، وتعرض للقصف في نوفمبر 2013.
قبل رائحة البارود، كانت تنتشر رائحة الفل والياسمين في شوارع حلب، وبين أهلها تزدهر أنواع من الطعام لا تشتهر في غيرها، يذكر وسيم الكبدة، هناك ما يقارب من 25 نوعا من الكوبيبة الحلبية، المصنوعة من البرغل واللحم، رائحة الدمار كانت قبلها روائح الحلوى الشرقية تهفو من محلات حلبية، الحلوى الشرقية العربية تصحبها شهرة خاصة إذا ما ذكرت في حلب، وكذلك الفستق الحلبي الشهير، كل هذا جعل من حلب قبلة للسياحة، إذ يقول وسيم إن الغالبية من المغتربين السوريين المقيمين خارج سوريا، يعودون للزيارات، مضيفا أن الحكومة السورية لا تهتم بتقديم خدمات جاذبة للسياح، لتجذب عدد قليل من أبناء الخليج، مدللا على ذلك بخدمة ضعيفة في المطارات.
"العروسة" في نظر حسام تعد أيضا أكبر ملتقى لمعالم النسيج، الذي تشتهر به حلب، وكذلك صناعة الألبسة والبلاستيك، يذكر لنا عن "طريق الحرير"، الذي يوصل حلب إلى الصين والهند، ومنه كانت تسير حركة التجارة بين البلدين، وساهم في نشر الإسلام بين الشرق والغرب، فقبل بدء طبول الحرب، كان السياح الروس ينتشرون أمام أعين حسام، يرتادون على الشواطئ والمقاهي، بين الأماكن السياحية المختلفة.
روح خاصة تصدح بحلب في أيام رمضان، أجواء هادئة قبل الإفطار تعظم فيها الايمانيات، وبين الجوامع يرتاد المصلون بخاصة إلى الجامع الأموي، المسجد الأكبر هناك، وحتى صلاة التراويح تُرفع فيها الانشادات عاليا، لا يمنع الطرب الأصيل من الانتشار أيضا، بين قهاوي حول سور القلعة، ترتفع القدود الحلبية، تصبح ساحة للتبارز بين أصحاب الحناجر القوية، وبين تسامر يجمع حسام وأصدقائه، تشتهر المقاهي مثل كثير من المقاهي العربية بالنرجيلة العربية "عنا بحلب أشهرهم صباح فخري، بنقدم القدود الأصيلة وليس الغناء المتردي"، يذكر حسام.
الصورة الأخيرة في ذهن الرجل الخمسيني لحلب حين سقط صاروخ بجوار منزله، القدر منعه من الانفجار، قبلها كانت مشاهدات من الحرب بدأت تنتقل من ريف حلب إلى قلبها، بدأ بالانضباط الأمني الشديد، وحتى القتل والاختطاف العشوائي، وإلى جثث متفحمة دفعت حسام هربا هو وزوجته وابنته إلى مصر، فيما يتغرب ابنه وزوجته وابنة أخرى إلى تركيا للعمل والدراسة.
وفيما غربت الحرب أهل حسام، خرجت عائلة وسيم من حلب وإلى مصر منذ سنتين، ولم يتحمل أبواه الغربة وغلاء المعيشة في خارج موطنهم، فعادوا مرة أخرى، ليسكنوا في مناطق تابعة للنظام، وآمنة نوعا ما عن ريف حلب، والمنطقة الشرقية التي بها النزاعات المسلحة، فيما تقع الأحياء الغربية تحت سلطة النظام، وينتبها قليل من الاختراقات -بحسب وسيم- من شبيحة، فيما تظل الأحوال صعبة، فتقطع المياه أيام طويلة قد تصل إلى إسبوع، والكهرباء قد تنقطع اليوم كاملا "ما بنملك إلا إننا ندعي على الظالم.. الي بعدوا عن الانسانية، الكل تواطأ علينا من الغرب والعرب".
"ما بنقدر ننسى المدينة حتى وإحنا هون بمصر، ولا القلب ولا العين ولا الفكر ينسونا بلادنا"، يردفها حسام متأثرا بحال مدينته، والشتات الذي فرق أصدقائه وعائلته، آخرهم شقيق زوجته الذي أصيب بعشر شظايا في القصب الاخير على حلب، يردف "ما تقدريش تتذكري حاجة حلوة إلاى وتبكي من اللي حصل.. إحنا مع حلب بالمشاعر وإحنا بعيد، المحلات على الأرض وكل بيوتنا راحت ومع ذلك روحنا في الوطن الغالي"، ولم تفلت عائلة وسيم من الاعتقال والقتل، فابن عمه اختفى لمدة ستة أشهر، وعقبها أرسل السجن للعائلة ورقة تفيد موته".
نهر يصل بين حلب وتركيا يسمى نهر "قويق"، حوله كان يرتاد حسام بين الحين والآخر، الآن تحول لون النهر إلى لون الدم حسبما يقول، يرد لذكريات الرجل بين الحين والآخر، فيما ينتظر وسيم لحظة آمان تعيده إلى بلده.
في كل ساعة، تدفع حلب دما من أبنائها بتقديمهم للشهادة، اطفالا يبكون ونساء يصرخون ورجال يسجدون بضمائر العالم، وتستنزف من آثارها، فيما تحلم المدينة بلحظات من هدنة، وسريان دائم لقرار وقف إطلاق النار، وتظل ذكرى المدينة في نفوس أولادها بالخارج والداخل.
فيديو قد يعجبك: