من شباب المدينة العتيقة لكل العالم: رمضان في القدس غير
كتبت-إشراق أحمد:
غياب الشمس في ثنايا قبة الصخرة، قبضة أب على يد صغيره، ليجلسوا حول مائدة الطعام المفروش بساحات الأقصى، زمرة الصائمين المجتمعون على شق تمرة رغم أنف المحتل، صدوح الآذان وما يفعله بقلوب العاشقين لأولى القبلتين، رائحة الكعك النافذة من أفران البلدة القديمة، أصوات الباعة الجائلين محطمة كساد الأحوال، رجّة نداء "المسحراتي" بين الأزقة، صلاة التراويح، بهاء القبة الذهبية خلف المصلين، ضوء القمر المنثور على الوجوه، والكفوف المرفوعة بدعوة التحرير. تلك الأجواء التي يوقن أهل القدس كلما حل شهر رمضان، بخصوصية روحها في مدينتهم عما سواها، هي ما دفعت خمسة شباب مَقدِسيين لنقلها كما يعهدوها، مطلقين حملة "رمضان في القدس غير"، علها تُدب الحياة فيمن زاره اليأس من أهل فلسطين، ومَن أمسكت الغفلة بتلابيب ذاكرته عن الأرض المحتلة.
قبل أربعة أعوام، لم يكن يَخفى على محمد قزاز وأربعة رفاق آخرين حال زهرة المدائن، من استغلال إسرائيل لزخم الأحداث في العالم العربي والانشغال عن القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى بقلبها، وذلك بالدفع نحو مخطط تهويد القدس، حتى أن البلدة القديمة في غير أيام رمضان تكون أشبه "بمدينة أشباح" كما يصف "قزاز". أراد الأصدقاء الخمسة فعل شيء يبث الروح في مدينتهم الأسيرة. كان ذلك قبل أيام من بدء الشهر الفضيل عام 2013، حين قرروا تسخير جهدهم فيما يجيدون "منا دارس للإعلام ومنا موظفين لكن هاويين للتصوير"، وكانت الحملة.
بإمكانيات بسيطة وتمويل ذاتي بدأ الأصدقاء الخمسة الخطوات الأولى لـ"رمضان في القدس غير"، اختاروا الاسم المباشر لما يعبر عن فكرتهم، الشغف كان محركهم. ارتكزوا في أول عامين على فاعليات الإفطار الجماعي بساحة "الأقصى"، وتصوير معالم أولى القبلتين "كنا نعد مثلا 100 وجبة للإفطار مقابل مؤسسات تعد الألاف"، فلفت البعض نظرهم لنقطة تميزهم بالأنشطة الإعلامية المختلفة المعبرة عن القدس وأهلها في مثل هذا الوقت.
استمع الرفاق للنصيحة "توجهنا لناحية إعلامية فقط" يقول "قزاز" –المتحدث الإعلامي باسم الحملة- أخذوا يبحثوا سبل تطوير إمكانياتهم الفنية، لإظهار بهاء وجلال المدينة، وكشف ركام النسيان المحيط بالحجر والبشر، ووجدوا ضالتهم في صناعة أفلام قصيرة لا تتجاوز 4 دقائق ونصف، وعمل أنشطة مميزة عن المتداول، ومع حلول رمضان هذا العام، عملوا على إنتاج انشودة خاصة بالقدس تحمل اسم الحملة، تظهر ملامح مدينة الصلاة وأجوائها الروحانية في رمضان على خلفية صوت "مجد الهدمي" منشد مقدسي صاعد.
"اجمع أحبابك وأولادك ومعاهم صحبك واخوانك واسمع صوت الأقصى ينادي رمضان بساحاتي غير" شيء من كلمات انشودة "رمضان في القدس غير"، التي تم نشرها مع اليوم الأول للشهر الكريم، بعد العمل عليها طيلة ثلاثة أشهر، انتهت بالتسجيل في الأردن، لقلة اصحاب الخبرات في هذا المجال بالقدس، فكان التسجيل الصوتي أول شيء بالحملة يتكفل به غير أصحابها، نظرا لتكلفته الباهظة.
اختلفت الأحوال والعادات في شهر رمضان بالقدس، عن التي شهدها "قزاز" وهو صغير، لكن ما بقي هو أعظم ما يشعر به المقدسيون؛ من الإفطار في رحاب الأقصى له مذاق خاص يندم الشاب المقدسي أنه لم يعرفه إلا مع تقدم العمر، توزيع حلوى رمضان، تتداخل أصوات "المسحراتي" البالغ عددهم نحو 6 أشخاص، فيما يطوفون بمساحة كيلو متر مربع بين أزقة البلدة القديمة المزينة، يرن نداهم الأشبه بنظم شعرية في الأبنية وقت السحور، وضحكات الصغار في منطقة باب الزيت وباب العمود حيث الألعاب المخصصة لهم، بينما يتمكن الآباء من الذهاب لصلاة التراويح.
في مثل هذه الأيام قبل عامين كانت عدسة الشباب المقدسي، تطوف باحة "الأقصى"، تمرق على قبته الذهبية، تعرج إلى مصلاه القبلي، تذوب في ملامح قارئي القرآن، والمصلين الركع السجود بجنباته، تساير دبيب الصغار على أعتابه، وانعكاس خيوط الشمس على أرضه المقدسة، فيما يواصل الأذان انسيابه مع مرور العين على نقش ثُرياه لتقرأ "المسجد الأقصى الذي باركنا حوله". كذلك كان المقطع المصور للحملة عام 2014 تحت عنوان "آذان المسجد الأقصى المبارك"، ليلحق به العام التالي 2015 تصوير مشهد شروق الشمس على المدينة العتيقة حمل اسم "صباح القدس".
وعن خطة الحملة لرمضان هذا العام يوضح "قزاز" أنها تتمثل في الأنشودة أو الافتتاحية الكبرى كما يصف، فيديوهات أسبوعية تعبر عن حكاية بالقدس، مثل أبو محمد الحلواني، الذي يقول عنه الشاب المقدسي إنه أشهر وأقدم بائع خروب بالبلدة القديمة، الجميع يشتري منه لكن الكثير لا يعرفون حكايته، وكيف يصنع مشروبه المعروف "الهدف أننا نقول نحن منطقة صراع صحيح لكن المقام الثاني أن في روح وإنسان عايش حكايته تنسج تاريخ القدس". ذلك إلى جانب أمسية للإنشاد الديني تقام هذا الأسبوع مع جولة بمدينة القدس، فضلا عن تغطية يومية على مدار الساعة، تعرض الصلاة "نصور أرجاء الأقصى منذ لحظة دخولنا مع الآذان"، وتنشر العديد من اللقطات التي استشعر القائمين على الحملة بأن جمهور مواقع التواصل الاجتماعي يشتاق لرؤيتها، خاصة مَن يمسهم الحنين للذهاب إلى القدس ولا يستطيعون، فهدف رئيس الوصول لمثل هؤلاء حسب قول "قزاز".
تعليقات الجمهور هي زاد حملة الشباب المقدسي لمواصلة الطريق، يتذكر "قزاز" العام الماضي حين ارتكز نشاطهم على تصميمات توضح الأخطاء الشائعة عن المسجد الأقصى ومدينة القدس، وصنعوا خريطة تبين جميع الطرق التي تؤدي إلى الأقصى، غير المعتاد عليها، والأماكن التي يلزم زيارتها وقاموا بتصويرها "أكثر من شخص حكى لنا أنه نزل لصلاة التراويح عشان يشوف الأزقة الطويلة اللي ما شافها من قبل رغم أنه من القدس".
مع الوقت كان يزداد الرفاق الخمسة خبرة وعددا، فقد انضم للطاقم الرئيس ثلاثة أعضاء أخرين، ويتفاوت أعداد المتطوعين حسب الفاعلية، وصاروا أكثر وجودا على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، حتى بدا للبعض أن الحملة استهلت نشاطها هذا العام. أما بطرقات البلدة القديمة، باتت وجوههم مألوفة بين أهل القدس، يلقون عليهم التحية، يمازحونهم حال بائع أواني المياه الذي نادى "قزاز" يوما مطالبا إياه بتصويره وبضاعته ونشر الصورة ليقول رمضان في القدس غير.
"أبناء القدس إذا ما نشروا عن حالهم مين راح ينشر؟" يتساءل "قزاز" موضحا ما واجهوه من صعوبات، لم تتوقف عند التكلفة المادية، وعدم التفرغ الكامل لمشروعهم، إنما يقف الاحتلال بوجههم، بدءً من سياسة الاعتقال على خلفية نشر كلمة على فيسبوك كما يحدث مع عشرات المقدسيين "إذا نشرنا أننا عاملين فاعلية في منطقة باب العمود راح يتم اعتقالنا بتهمة التحريض على تجمع غير مصرح به"، كذلك دخول معدات التصوير الاحترافية للمسجد الأقصى كان بمشقة، إذ تمنع القوات الإسرائيلية ذلك بدون تصريح، ولرفض فكرة الأذن من محتل، فضلا عن عرقلة هذا للفلسطينيين، لذا كان الاعتماد على البديل دائما هو سياسة شباب الحملة سواء في التصوير "كنا نصور ونتخبى ونخلي اتنين منا يراقبوا المنطقة" أو في الدعوة للفاعليات.
نحو أكثر من 16 ألف متابع لـصفحة "رمضان في القدس غير". آلاف المشاهدات حققتها المقاطع المصورة في أيام قليلة، تلك لحظات الأمل المقابلة للأخرى الحزينة والصادمة التي تأتي بالتعليقات، فعند نشر صورة للقوات الاسرائيلية على أبواب المسجد الأقصى جاء تعليق أحدهم "استحلفكم بالله اخبروني هل هؤلاء فعلا جنود الاحتلال. طيب أين الشرطة الفلسطينية"، تفاجأ "قزاز" بعدم معرفة المعلق العربي أن السلطة الفلسطينية لا حكم لها بالقدس، فقط هي بالضفة منذ عام 68، وكذلك يرى الحال بالعديد من الدول العربية، لا يعرفون الكثير عن القدس، فالدعم المادي فقط ليس الحل الأساسي في نظر "قزاز" الموقن رغم ألمه الشخصي من تلك المواقف أن عملهم هذا لا يكسر فقط شوكة الاحتلال، بل يساهم في درأ الجهل، وإعلام الجميع أن "بالقدس حياة".
فيديو قد يعجبك: