سوريو أكتوبر في حضرة ذكريات "رمضان الشام"
كتبت-دعاء الفولي وهدى الشيمي:
على بُعد أمتار قليلة من ميدان الحصري، بمدينة 6 أكتوبر، ثمة مساحة شاسعة، تملؤها محلات مختلفٌ ألوانها، تمرح فيها اللهجة السورية، ويقف البائعون من دمشق، اللاذقية، داريا، وحلب، ينادون على بضاعتهم، يشتري منهم أهل الشام وبعض المصريين. تبدو المنطقة للدالف كسوريا مُصغرة، يتوادّ ساكنوها فيما بينهم، غير أن تلك الحياة لا تُقربهم مثقال ذرة من أرضهم الأصلية. مع بداية شهر رمضان يستعيد سوريو أكتوبر ذكرياتهم المتروكة خلفهم هربًا من الحرب؛ بعضهم يفكر بمأكولات بلده، آخر يبحث عن مسجد يُشبه ذاك الموجود في حارته، ثالث لا يجد رفاهية لترك العمل خلال الشهر كما اعتاد سابقًا، وجميعهم يفتقد لعائلته الكبيرة، التي مازلات بسوريا، أو تبعثرت في الشتات.
كانت عائلة الشاب دمشقي "رشاد"، من بين العائلات المالكة لمطاعم كبرى في مخيم اليرموك، قبل أن ينتقل إلى أكتوبر منذ ثلاث سنوات بمفرده بعد اندلاع الثورة وانهيار ممتلكاتهم، باحثًا عن فرصة جديدة للحياة.
بمحل "بطاطس وسندوتشات" يعمل "رشاد"، قريبًا من الحصري، حيث الشارع المشهور باسم "شارع السوريين"، حين جاء الشاب العشرييني كان بمفرده، ثم لحقت به أسرته.
رمضان هذا العام سيكون الرابع لـ"رشاد"، منهم عام مكث فيه بمفرده "كان مالوش طعم، ولا حسيت بمتعة نهائي، كنت بفطر وبتسحر لوحدي"، وعلى الرغم من طول المدة بمصر، هناك أشياء مازال يفتقدها؛ مثل المسحراتي "كنت أنا واخواتي بنقف نستناه على الشباك بيتنا من ونحنا صغار"، و"سوق الجزماتية" في الميدان "كان بيعج بالمواطنين وتسمع صوت ابتهالات رمضان وإنت لسه بعيد عنه".
على الرغم من عدم وجود اختلاف ملحوظ في رمضان سوريا ومصر، ولكن ما يؤثر فيه وأهله وغيرهم من السوريين الموجودين هو شعورهم بالاغتراب "في هيك شيء مش قادرين ننساه، شعورنا بأننا مش في بلدنا شي كتير صعب".
بالنسبة لهبة عبد الصمد فرمضان سوريا يمكن اختصاره في "لمة القرايبين وقت الفطار وفي العيد". لكن ثمة طقوس أخرى تفتقدها ابنة حمص؛ فلم يكن يمر يوم على "هبة" حتى تقابل صديقاتها ليذهبن سويًا إلى مسجد قريب لأجل صلاة التراويح، والتي تكون مجرد بداية لأنشطة تستمر "بعدها نروح ناكل أيس كريم أو نتفسح"، ثم يفترقن لساعات قليلة، ليجتمعن مرة أخرى في صلاة التهجد بالمسجد "كنا ما بنخاف لأنه الحي آمن"، تذكر الشابة تلك المشاهد بحسرة، فيما تقبع حاليًا بمنزلها بمدينة أكتوبر، دون قدرة على ملاحقة الصلاة يوميًا "المسجد بعيد ومبقاش في أصحاب أروح معاهم".
جاءت "هبة" برفقة والدتها وأختها، ثم لحق بهما الوالد. مازالت الفتاة السورية تحاول التعايش مع اختلاف عادات البلدين حال رمضان، رأت أشياء لم تكن موجودة بسوريا "زي الفوانيس.. كتير اتبسطت فيها"، وكذلك الأغاني الرمضانية "عندنا تواشيح وأدعية بسوريا"، وإذا كانت ثمة أشياء جيدة في رمضان المصري، غير أن هبة تفتقد السوري بكل ما يحوي، بداية بشكل حارتها وحتى الطعام.
قبل الإفطار بسويعات كان حي "هبة" يصدح بعربات صغيرة، ينادي أصحابها على المشروبات التي يبيعونها "عرقسوس.. تمر.. وجلاب". حين أتت لمصر، وجدت معظم تلك المشروبات عدا الأخير "وهو عبارة عن شرب مصنوع من دبس التمر أو دبس الزبيب ويُضاف له الليمون والسكر وماء الورد"، أما مُقبلات الإفطار فكانت ثاني أكثر شيء افتقدته الشابة العاملة بالتسويق "نحنا لازم على السفرة تبولة أو فتوش ولازم شوربة عدس.. هون في مصر الوضع مختلف"، ومن الحلوى لازال طعم "المعروك" في فم "هبة"، وهو أشبه بفطائر محشوّة بالبلح.
مع حلول رمضان على دمشق، اعتادت ميساء الشماع على طبق الشوربة خلال الـ30 يومًا كضيف أساسي، وكذلك "الفتة بالحمص والصنوبر" بجانب ثلاث أطباق رئيسية.
لمست "ميساء"-المقيمة بأكتوبر- أشياء إيجابية في رمضان مصر "لما ارجع على بلدي هانفذها فورا"، مثل وقوف أشخاص في الشوارع لمنح المارة مياه وتمر في إشارات المرور، وإطعام الصائمين بموائد الرحمن "بغض النظر عن الطعام اللي بيتقدم بس هالأفكار روعة وماكناش نعرفها". تشتاق "ميساء" للعزائم المتكررة خلال الشهر "مفيش عيلة يعدي عليها رمضان من غير ما تروح تفطر عند عيلة تانية تلات أو أربع مرات"، وحاليًا أصبح هذا الطقس هو الأصعب في التنفيذ عليها ، فعلى حد قولها "ما عندي اقرباء هنا، كلهم في بلاد الشتات".
ما يزال يفتقد "أبو لجين" كل طقوس وشعائر رمضان السوري بكل ما تحمله الكلمة من معني "ضرب المدفع 21 مرة بعد اذان المغرب"، وتكبيرة رمضان، فعقب رؤية الهلال يصعد المؤذن على المنبر ويؤذن من بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء.
منذ 4 سنوات جاء الرجل الثلاثيني مع ابنتيه من دمشق بعد انهيار محلاته الأربعة إثر قصف جوي "فقدت هناك زوجتي وما بدي افقد عيالي كمان".
مع بدء شهر رمضان كان "أبو لجين" وغيره من رجال سوريا يحلقون لحاهم ويضعوا العطور "كنا بنقفل المحلات وبنقعد بالبيت وكأنه يوم العيد"، وكان من بين 90 % من الرجال الذين يساعدوا زوجاتهم وأمهاتهم في أعمال البيت "بنحاول نشغل نفسنا عن تعب الصيام بهيك إيشيا".
بهجة الشهر الكريم ظاهرة في سوريا أكثر منها في مصر "بتلاقي الاسواق مليانة كل حاجة، والناس فرحانة"، حسبما يذكر الأب الدمشقي، وحتى الآن لم تتغير الأجواء الرمضانية في الشوارع السورية، فأصحاب المحلات في منطقة "داريا" المحاصرة يضعون موائد الرحمن بطول الشوارع للفقراء والمحتاجين "لكن حاجة على قد الحال، يعني دلوقتي لو لقوا رغيف عيش ناشف هياكلوه مع بعض"، رغم معيشته بأكتوبر فلا يشعر "أبو لجين" بروح سوريا خلال الشهر، فالتواصل بين الجيران قليل.
على العكس يشعر سامح السعيد بالألفة في أكتوبر، فبينما يسير هناك، تطرق أذنيه اللهجة السورية معظم الوقت، ذلك ما يخفف عنه ولو قليلًا. عانت زوجته في بدايات إقامتهم مع أصناف الطعام التي يحبونها خلال رمضان "المواد الخام كنا مش عارفين نجيبها"، لكن مع اتساع أنشطة الشوام "بقينا نلاقي كل شيء"، رغم ذلك فثمة مأكولات لم يتذوقها الشاب منذ تركه دمشق "زي المغشوشة وهي كنافة ناعمة محشية فستق وإشطة"، وكذلك حلوى "المدلوقة" وهي تُشبه الأولى كثيرًا.
في السنة الأولى من مكوث ابن دمشق بمصر، بدأ يلاحظ عادات الأكل لدى المصريين في رمضان "مثلًا المصريين لازم فول على السحور.. احنا منقدرش عليه فبناكله في الفطار ساعات"، في المقابل يصنع الأب الدمشقي "اللبنة" بنفسه في المنزل، رغم وجودها في مصر "لأن احنا بنعملها احلى بالبيت".
في إحدى السنوات، وقبل رمضان بيوم واحد، كان سامح السعيد يعمل برفقة أخيه داخل الورشة الخاصة بهما، حين جاءهم زبون يطلب إنجاز عمل يستغرق في الأيام العادية شهر لتسليمه، لكنهما اتفقا معه على شهر ونصف على الأقل قبل الانتهاء، إذ كان قانونهم برمضان "اننا بننزل الورشة ولما بنتعب بنروّح". تبدو تلك الأحداث الآن من الأيام الخوالي، حيث كان الشهر المُعظم يعني الراحة واجتماع أفراد البيت صباحًا وعشية، والعمل يمكن تقليله دون قلق من انهيار ميزانية الأسرة.
أكثر من عشر ساعات يعمل خلالهم "السعيد" منذ قدومه لمصر في 2012، لا فرق بين الأيام العادية ورمضان سوى ساعة أقل "ومنقدرش نتكلم مع صحاب الشغل رغم إن الجو هنا حر جدًا الصبح". سبعة إخوة بينهم فتاة واحدة، وأب وأم، اعتادوا العيش سويًا في بيت كبير . تركهم الشاب الثلاثيني خلفه وقت مجيئه مع زوجته وولديه، تغيرت أحوال العائلة رغم بقاءهم جميعًا بدمشق. فعقب استشهاد أحد أبناء العائلة، ما عاد لرمضان طعم في سوريا، وفي المقابل يجبر السعيد نفسه على التأقلم، مُتمنيًا قضاء رمضان قريبًا مع الأهل، رغم الحرب.
فيديو قد يعجبك: