عُطلة صيفية تحولت لحبس.. قصة مواطن أيرلندي مسجون بمصر
كتبت - دعاء الفولي:
في زيارته الأخيرة ذهب إبراهيم حلاوة إلى أهرامات الجيزة، التقط صورًا بالقرب منها. مبتسمًا كان الشاب ذو 17 عاما، إذ ظلّت مصر بالنسبة له مجموعة أماكن سياحية يقصدها سنويًا في العطلة الصيفية، حين يأتي من أيرلندا حيث وُلد. ما هي إلا أيام قليلة فصلت بين جولة "حلاوة" والقبض عليه في أحداث مسجد الفتح، 16 أغسطس 2013، ليبقى حبيس السجن، تسعى عائلته لإخراجه أو ترحيله لأيرلندا لاستكمال المحاكمة، فيما تساعدهم جهات أخرى، على رأسها الاتحاد الأوروبي ورئاسة الوزراء الأيرلندية، لكن ذلك لا يبدو كافيًا.
كانت نُسيبة حلاوة -الأخت الكبرى لإبراهيم- في أيرلندا حين وقعت الأحداث. اتصلت إحدى أخواتها الثلاث -سُمية وفاطمة وأميمة- بأبيها، إذ كانوا بصحبة أخيهم في رمسيس "قالوله إن فيه ضرب نار وناس بتموت وهما مش عارفين يروحوا فين". اختار الأربعة أخوة أن ينضموا للمسيرات الرافضة لفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة عقب مشاهدتهم لصور الضحايا "كانوا سلميين تماما مش معاهم سلاح". اهتمام إبراهيم بالسياسة كان طفيفًا، فقط كان موجودًا بمصر وقت اشتعال الأحداث في 2013، لكنه لم يُبالِ من قبل بالنزول لأجل حدث سياسي "يعني ثورة يناير حصلت مثلا واحنا في أيرلندا ومجيناش".
مسجد الفتح كان وجهة الفتيات والأخ "بابا قالهم احتموا بيه لحد ما الدنيا تهدى". تلك الليلة حملت لهم توترات كثيرة بعد حصار من قوات الجيش والشرطة للمسجد. تروي "نُسيبة" إنهم ظلوا داخل "الفتح" منذ العصر وحتى اليوم التالي، وفي تلك الأثناء تواردت إليهم أنباء باحتمالية اقتحام المسجد من قبل القوات، ولم تكن تلك الأزمة هي الوحيدة "إخواتي البنات كانوا بيشوفوا من شبابيك المسجد بلطجية بيشاورو للي جوة إنهم هيدبحوهم لو خرجوا".
محاولات عدة بدأت من الأخت الكبرى للاتصال بالسفارة الأيرلندية في مصر للذهاب وإخراج الأشقاء "استجابوا بسرعة لكن لما اتصلوا بالحكومة المصرية اتقال لهم إن إخواتي ممكن يخرجوا لأن فيه بالفعل مقر آمن مفتوح". لم تطمئن السيدة الثلاثينية لذلك الطرح؛ فطلبت من السفيرة الذهاب بنفسها كي تكون شاهدة في حالة حدوث ضرر "فلما اتصلت بالحكومة تاني قالولها إنه مش أمان ليها تروح"، لذا اضطر الأشقاء للبقاء حتى الاقتحام في اليوم التالي والقبض عليهم جميعا، وترحيلهم على أحد معسكرات الأمن المركزي.
منذ عشرين عاما تقبع عائلة "حلاوة" بأيرلندا. أب وأم وسبعة أخوة أصغرهم إبراهيم. جميعهم مزدوجي الجنسية، يعودون لمصر مرة سنويًا لزيارة الأقارب والأصدقاء، التطرف الديني غير وارد لديهم، على حد قول "نُسيبة". فرغم أن والدها أحد أشهر الأئمة في مدينة دبلن الأيرلندية، لكنه يتسم بالوسطية التي تشرّبها عن دراسته في الأزهر الشريف "وعموما عشان إمام مسلم يعرف يعيش في بلد أوروبي لازم يكون وسطي وإلا مش هيندمج مع المجتمع". تربّى الأبناء على القيم المحافظة لكن دون انعزال عمّن حولهم، لذلك كان التضامن مع إبراهيم من قبل المجتمع الأيرلندي أمر طبيعي.
عقب القبض عليهم، لم تُفلح مطالب الأشقاء الأربعة في إقناع الأمن كي يتصلوا بالسفارة الأيرلندية، لكن أحد الأخوات استطاعت الحصول على هاتف محمول وأبلغت والدها بمكان ترحيلهم، لتتصل "نُسيبة" بدورها بالسفارة مرة أخرى "ولما بعتوا حد تاني يوم للمعسكر أنكروا إن إخواتي عندهم".
ارتكاب أحداث العنف والقتل والاعتداء على قوات الشرطة وإضرام النيران بالمنشآت والممتلكات.. جملة اتهامات باتت من نصيب الأربع أخوة وآخرين في القضية المعروفة باسم "أحداث مسجد الفتح". انفصل الأشقاء فيما بعد داخل المعسكر "بس قبلها البنات كانوا شافوا إبراهيم نازل من عربية الترحيلات إيده متعورة مضروب فيها رصاصة".
حالة من السخرية قابلتها الفتيات الثلاث حين أخبرن قوات الأمن أنهنّ يحملن الجنسية الأيرلندية "قالولهم خلوا السفارة تنفعكم"، فيما حاول إبراهيم إقناع الضابط أمام مسجد الفتح بأنه ليس مصريًا ولا يحمل إلا جواز سفر أيرلندي وأن عمره لا يجاوز الـ17 عاما، لكنه لم يهتم -حسبما تقول الأخت- واصطحبه إلى المعسكر بجوار البالغين.
في كل خطوة كانت ثمة جهة رسمية أيرلندية تتحرك مع الأسرة. فساعد تدخّل الخارجية الأيرلندية على إطلاق سراح الفتيات -أميمة وفاطمة وسمية- على ذمة القضية، إلا أن إبراهيم لم يكن مشمولا بالقرار، رغم تواصل لم ينقطع بين "نُسيبة" والحكومة هناك.
حملة ضخمة قادتها أسرة الشاب الذي لم يُحاكم إلى الآن كي يضمنوا خروجه، ساعدهم في ذلك تضامن نائبة في البرلمان الأيرلندي معهم، وقد كانت عضو أيضا في الاتحاد الأوروبي، فطلب الأخير من مصر إطلاق سراح الشاب، دون استجابة.
حين يئست الأسرة من الإفراج عن إبراهيم، سعى محاميه لتطبيق قانون 140، الذي يسمح بترحيل الأجانب إلى بلادهم ومحاكمتهم فيها، وقد تم تنفيذه على محمد سلطان "لكنهم تعنتوا في تنفيذ القرار رغم إن إبراهيم أصلا معندوش أي ورق مصري.. كل حياته عايشها بأيرلندا". تدويل القضية بدأ منذ اللحظة الأولى، حتى أن الأمم المتحدة أرسلت لمصر، في العام الماضي، خطابا يوصي بُحسن معاملة الشاب، لاسيما مع روايات من إخوته بتعرضه للتعذيب وعدم وجود طبيب ليعاين يده، ووصفوا قضيته بأنها "أمر يستدعي اهتماما عاجلا" إلا أن مصر رفضت المطالب، نافية أي تعرض لأذى، ومؤكدة أن جروح يده قديمة.
ما تزال الأخت الكُبرى تذكر زياراتها لسجن إبراهيم الذي يصغرها بـ16 عاما، تحتفظ بتفاصيل "التكدير" الذي تراه حتى مع الأشياء الصغيرة "كنا بنحاول نوديله أعداد مجلة ناشونال جيوجرافيك عشان بيحبها مرضيوش.. طب ليه يا جماعة؟ هو كده وخلاص!!".
ثمة لحظات هي الأسوأ، ففي أحد الزيارات لاحظت "نُسيبة" أن أخيها لا يستطع الجلوس بشكل معتدل، وعندما سألته أخبرها بتعرضه للضرب من قبل الضابط المسئول في سجن طرة وقتها "الضابط دخل حملة تفتيش لقى شنطة إبراهيم كنت جايبهاله غالية جدا ومميزة فقال مين صاحب الشنطة ولما إبراهيم رد قاله تعالى"، في المكتب سأل الضابط الشاب عن القضية التي جاء بها، فقال: "أحداث مسجد الفتح"، ليجد إبراهيم ضربة قوية من "جنزير حديدي" تهبط على ظهره مرة وعلى ذراعه أخرى "فضلوا على الحالة دي كام مرة كل ما يقوله مسجد الفتح يضربه" حسبما تروي الأخت. أما الإصابة التي بقيت في يده، فقد ضغطت السفارة الأيرلندية على مصلحة السجون لعرضه على طبيب السجن، فلم يُقدم له أي علاج، إلى أن أصبح لا يستطيع تحريك يده.
"أنا اسف يا أبي لأنه مر ثلاث سنوات دون أن تراني.. أسف يا أمي لأنك تسعين خلفي من سجن لآخر فقط لأنك تريدين أن نظل سويا لدقيقة أخرى.. أسف يا أميمة وسمية لأني لم أستطع حضور زفافكما وأن أقدم لكما المساعدة في أهم يوم بحياتكما"؛ خطاب أخير باللغة الإنجليزية استطاع إبراهيم كتابته قبل أيام، بمناسبة مرور ثلاث سنوات منذ القبض عليه، بعدما تقطعت السبل بأسرته سعيا وراءه من سجن لآخر، من أبو زعبل، طرة، المزرعة، وأخيرا عنبر 440 بسجن وادي النطرون.
تتمحور حياة الأسرة الآن حول الشاب المحبوس. اضطرت والدته للبقاء بمصر لأجل زيارات الابن التي تستمر لعشر دقائق فقط، وكان الأخوات يتركن أبناءهن بأيرلندا لستة أشهر أحيانا كي يُساعدن الأم. لكن ذلك كله يبدو هينًا إذا ما قورن بحال الأب الذي لا يستطيع المجيء لمصر.."حبس إبراهيم كسر بابا" تقول "نُسيبة". ومع فشل محاولات الأسرة والسفارة للسماح لإبراهيم بالتحدث للأب تليفونيًا، يبدو الاثنين يائسين من لقاء بعضهما البعض. يعتقد الوالد أن الحياة ربما لن تُمهله حتى يحتضن الابن، فيما يتساءل الأخير مفزوعًا مع كل زيارة إذا كان الوالد قد أصابه مكروه، خاصة مع مرضه بالقلب.
قبل الإجازة الأخيرة بمصر، كان إبراهيم قد حصل على الشهادة الثانوية في أيرلندا، مخططًا الالتحاق بكلية الهندسة، وبعد أن وجدت الأسرة أن خروجه بات أصعب "قولنا نخليه يعيد امتحان الثانوية تاني في السجن" فقد فاته قطار الجامعات، لكن محاولاتهم باءت بالفشل؛ فمع كل مادة كان محامي الشاب يتنقل من جهة لأخرى للحصول على التصريح الأمني "لكن كان التصريح بيوصل متأخر يومين" فتضيع عليه فرصة الاختبار.
تحتفظ "نُسيبة" بأمل ضئيل لم يمت. تُقدر كل خطوة تقوم بها أيرلندا، وتنكسر أحلامها حين تُرفض المحاولات؛ آخرها طلب تقدم به البرلمان الأيرلندي في أغسطس الحالي للنظر في قضية الشاب، إلا أن البرلمان المصري اعتبر ذلك "تدخلا في شئون القضاء"، فيما صدر بيان من الرئاسة المصرية في يوليو الماضي، بعد اتصال ورد لها من رئيس الوزراء الأيرلندي، إيندا كيني، للتحدث بشأن إبراهيم، إذ قالت الرئاسة المصرية إنه يتم "توفير كافة الضمانات والحقوق للمواطن المحتجز، وفقا لما ينص عليه القانون المصري في هذا الشأن"، بينما أعلنت الحكومة الأيرلندية قلقها بسبب تأجيل قضية إبراهيم للمرة الـ14 حتى أكتوبر القادم.
في خيال إبراهيم، لم تعد مصر ذلك المكان الرائع لقضاء الوقت مع الأصدقاء "مصر عرفت تخلي أخويا يكرهها". أصبح حديث "نُسيبة" له خلال الزيارات حريصًا. يسألها عن أصدقائه؛ فتروي له مضطرة كيف مضى كل منهم في حياته قدما "فألاقيه بيعيط ويقولي الدنيا كلها بتتحرك إلا أنا". لم يعد يتمنى الشاب سوى الخروج والعودة إلى أيرلندا، لا يأبه بتلميحات عن كونه سيتنازل عن الجنسية المصرية، فقد وُلد بأيرلندا وكانت تحركاته كلها تتم بجواز السفر الخاص بها. بات إبراهيم الآن متيقنا أن الوطن هو المكان حيث يحيا آمنا.
فيديو قد يعجبك: