قصة مواطن عاصر انتفاضة الخبز: عِشتْ لأنني قلت للعسكري "أنا أبويا لواء !"
كتب - أحمد جمعة:
تصوير - علياء عزت:
كانت الأجواء خانقة رغم بداية عصر الانفتاح ووعود النظام بمزيد من الازدهار الاقتصادي، فبيّن عشيّة وضُحاها تبدلت الأوضاع من حالٍ إلى حال. القاهرة الهادئة لم تعد كذلك. تغيّرت ملامح النصر إلى دخان كثيف يحيط بالبنايات، وصدح صوت "ازيز" الخرطوش يُلهب أجساد البشر في الشوارع.
في تلك الأثناء، كانت الحكومة بصدد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض يدعم البرنامج الإصلاحي الذي كانت بصدد تطبيقه في ختام عام 1976. مارسَ الصندوق الدولي "ضغوطًا لا تُقاوم" لرفع الدعم على بعض السلع الضرورية التي كانت الحكومة لسنوات طويلة تقوم بدعمها لصالح سواد الشعب، ومن بين هذه السلع الخبز والسكر والوقود وبعض أنواع الأقمشة الشعبية.
وفي هذه الأيام، كان معتز نصر يبدأ مرحلة جديدة في حياته الناضجة، شابًا يافعًا يتناقل أنباء الحياة الاجتماعية، ويتبارى مع أفراد أسرته في شرح التيارات السياسية المتباينة، حتى استقر في رأسه الفكر "الماركسي" كأسلوب للحياة، مرتكزا عليه في تناول الظروف السياسية والمعيشية.
جرت الموافقة على إلغاء الدعم عن بعض السلع بحلول عام 1977 تحت شعار "الترشيد"، وخرجت صحف يوم 17 يناير تحمل على صدر صفحتها الأولى قوائم لـ 25 سلعة ضرورية قفزت أسعارها دفعة واحدة، ولجأت قوات الأمن لفرض احتياطات أمنية تحسبًا لـ"انفجار شعبي متوقع". كعادته بدأ معتز يتناقش مع أصدقائه وأسرته في "القرارات المُجحفة للفقراء والطبقة الوسطى" لينضم في صبيحة اليوم التالي لمن انفرط عقدهم دفاعًا عن "لقمة العيش".
يتذكر معتز نصر في حديثه لمصراوي، مسيرة الأيام التي شكّلت وجدانه، حينما نزل هذا الصبي إلى شوارع منطقة الهرم لينضم إلى الثائرين على قرارات الرئيس "المُنتصر" لتوّه: "فجأة وجدت الناس رغيف العيش أبو تعريفة بقى بقرشين، الناس اتخضت، والناس البسيطة عندها العيش من الأساسيات. والمؤكد أن أساس هذا التظاهر هو العيش رغم ارتفاع أسعار 25 سلعة أخرى، فقد بدأ التذمر عند المخابز وأماكن توزيع الخبز ثم تجمع الناس في الشوارع بداية من مساء يوم 17 يناير عندما وصلت أخبار رفع الدعم".
بلغت ذروة التظاهر ظهر 18 يناير، وفشلت قوات الأمن في ردع المحتجين وانفلتت الأمور عن السيطرة، وظهرت سحابة سوداء إزاء "دخان الغضب" الذي تخلل جسد الرئيس السادات من استراحته بأسوان رغم بدايته في الإسكندرية. يُضيف معتز: "محدش كان يتوقع أن تصل الاحتجاجات إلى هذا الحجم، وعندما فشلت قوات الشرطة في التصدي، نزل الجيش إلى الشوارع للسيطرة على الموقف، وفرض حظر التجوال، وبدأ فعليًا في إخلاء الشوارع عن طريق العنف، واستخدم الهراوات والخرطوش. كانت مواجهة دامية بالفعل وسقط ضحايا ومصابين".
شاهد معتز للمرة الأولى "دماء على الأسفلت"، حتى كان هوّ ضحيته أن تُسال من جبهته بعض القطرات. بينما اندفعت جنود الجيش باتجاه المتظاهرين في محاولة لنهرهم مستخدمين طلقات الخرطوش، تعثر في الفرار، سقط مغشيًا على الأرض، لحقه أحد الجنود وكاد يفتك به، ليردد الشاب بأعلى صوتٍ كاد يفتك هوّ أحباله الصوتية "أنا ابن لواء.. أنا ابن لواء" -رغم أنه ليس كذلك- وكانت تلك الكلمات كفيلة بأن تتيبس يدا الجندي، ويتراجع للوراء قليلًا وينهض به دون أن "يلمس منه شَعرة".
توقف بُرهة عن الحديث، أخذ أنفاسه ثم استكمل: "الضابط أمر العساكر بالفض الفوري، وبسبب وجود أعداد كبيرة في الشارع سقطت بين الرجلين، واقترب من العسكري وكاد يقتلني لدرجة أنه وضع فوهة الخرطوش بجانبي "فجأة جه في دماغي إني أقول له (أنا ابويا لواء)"، ولا أعرف حتى الآن كيف تصرفت بهذه الحيلة سريعًا قبل أن أسقط ميتًا. استعملت كلمة السر. تركني وبقيت على قيد الحياة".
هرب معتز من بطش الجنود، لكن بضع طلقات الخرطوش أصابت ظهره بينما هرول إلى منزل خالته للاحتماء به: "دخلت مستشفى العجوزة لمدة 3 شهور للعلاج، وكنت في عنبر كبير به 6 أفراد، وكل الذين معي أكبر مني في العمر، وكانت فرصة لكي أسمع نبض الشارع يتحدث عن الحرية والمواطنة".
هتفت الناس بما شعرت به "ياساكنين القصور.. الفقرا عايشين في قبور" و"عبد الناصر ياما قال.. خللوا بالكم م العمال". يقول معتز: "الناس خرجت مضايقة وتعبر عن ضيقها عن طريق الأناشيد، وتصدر في ذلك الشيخ إمام بأغانيه وألحانه المعروفة، وأحمد فؤاد نجم والناس كانت تردد هذه الأبيات".
"انتفاضة الحرامية".. هكذا وصف الرئيس السادات تلك الاحتجاجات، رأها معتز بعينه: "هذا لم يمنع من وجود (الرعاع) وسط الحشود، ورأيت لصوص حرقت الملاهي الليلية وسرقت صناديق كوكاكولا. يا سيدي الفقر يجعل الناس تفعل أكثر من هذا. المتظاهرون كانوا يريدون إرسال رسالة واضحة مُفادها "لا يا ريس"، رغم أن هناك بينهم من يقتنع بسياساته ولم يرد بخاطر أحد تغيير النظام مثلما حدث في 25 يناير".
رغم الألم وهواجس القتل التي تعرض لها معتز، يفتخر بما شاهده حينها: "الجميل أني شفت الناس تعترض على قرار رئاسي، وهذا لا يمنع أن كل الأفكار تداخلت مثلما حدث في الثورة، وتشابكت تطلعات الناس، وكل ما أره أن هناك ناس وجدت أمر خاطئ بشكل سافر ونزلت إلى الشوارع تعترض ونجحت في أن تقنع رئيس في أوج قوته بعد أن انتصر في الحرب بأن يتراجع عن قرار مهم أصدره، هذا في حد ذاته يؤكد مدى قوة الشعب وحجم تأثيره".
يجلس معتز حاليًا بين لوحاته وكتب متراصة تُزين مكتبه بـ"درب 17 - 18" الذي أسسه عام 2008، استلهم اسم المكان من أحداث الانتفاضة: "هنا يعبر الشباب عن آرائهم أيًا ما كانت طالما أصبح قادرًا على الدفاع عنها، وقادر على تقديمها بشكل جيد ومقبول والوسائل متاحة أيًا ما كانت سواء الفن التشكيلي أو اللوحات أو الموسيقى".
يجد الرجل الخمسيني -الذي وصل لنا على دراجته والعرق يتصبب من جبهته- أن الظروف متشابهة بين عامي 1977 و2016؛ فلسفته أن "الحياة دوائر لولبية وكل الأمور تتكرر من جديد، والأمر متوقف على التدارك ومن يقرأ التاريخ هوّ من يستشرف المستقبل. المشاكل هيّ هيّ، وتبقى هناك أزمة في مواقع الإدارة أنهم بعيدين عن فهم ما حدث وبالتالي هم يكررون نمط الحياة السابقة، والتي ثبت فشلها وتحتاج للتغيير.. هناك ارتباط شديد والأحداث تتكرر بالكامل لكن التقنيات تختلف بعض الشيء!".
فيديو قد يعجبك: