إعلان

الناجون من حادث رشيد يروون لمصراوي ساعات الرعب والغرق

09:31 ص الخميس 22 سبتمبر 2016

كتب-محمد مهدي:

تصوير- كريم أحمد ومصطفي الشيمي وفريد قطب:

ظلام دامس، الثانية بعد منتصف الليل، أجساد نحيلة تتراص بجوار بعضها على سطح مركب لا يتعدَ طوله 10 أمتار، يبعد عن رشيد بنحو 12 كيلو، الجميع نيام من شدة الإرهاق، بعد أن قضوا يومين في عَرض البَحر، على نار الانتظار للتحرك تجاه الشواطيء الإيطالية، أرض الأحلام، قبل أن يستيقظوا على صوت وصول قارب صغير، أمس الأربعاء، يحمل مزيدًا من المسافرين، دقائق وصل آخر، عشرات من الأشخاص ينضمون إلى المركب الكبير، المكان يضيق، أكثر فأكثر، بينما يصرخ الشاب العشريني "سليمان ملاح": "كفاية المركب كدا مش هتستحملنا".. كانت نبوءته التي تحققت.

1

زحام شديد، الحركة صعبة، غير أن "ملاح" كان يتحرك بين الصفوف مفسحًا الطريق نحو مُقدمة المركب، يحاول الصراخ في أصحاب القوارب، لا أحد ينصت إليه، انشغلوا بإنزال طاقم جديد من 7 أفراد لقيادة المركب، بدلًا من الطاقم الأخر الذي غادر معهم، فيما يقف "محمد عيد" القادم من القليوبية مذهولًا من ابتعادهم دون الانصات لتحذيراتهم.

محاولًا طمأنة الناس، خرج القائد الجديد للمركب، مُعلنًا بدء التحرك، اختفى للحظات داخل كابينته، قبل أن يشعروا بهزة شديدة، أعقبها تأرجح المركب، حضر الخوف، دس سُمه في القلوب، العيون شاخصة ناحية كابينة القبطان، المياه تتدفق تحت أقدامهم، صراخات مكتومة تعلو هنا وهناك، لم تأتِ ذروة الخطر بَعد "فجأة لقينا الكابتن بيطفي النور، وبينط في الميه" يقولها "عيد" غاضبًا.

13

داخل غرقتها، شَعرت "سميرة" سيدة سودانية، باضطراب شديد في المركب، حاولت الهروب إلى الخارج لكنها لم تستطع، تملكها الفزع، هرولت ناحية "اللايف جاكت" الخاص بها، ارتدته في عجالة، تعلقت بالنافذة المطلة على سطح المركب في انتظار القدر المحتوم. تقول بأسى: "كنت شايفة الموت بعنيا".

على سطح المركب، موجات من الرعب اعترت الجميع، العجز سيد الموقف، ظلام وغرق دون مُنقذ، إلى أين المَفر؟ لا أحد يعلم، فيما يُمسك رجل يحتضن زوجته وطفلتيه، بهاتفه يحاول السيطرة على رعشة يديه "طلب النجدة، قالهم تعالوا انقذونا، ولا حد عَبرنا"، المحاولة ذاتها كررها "ملاح" الذي يؤكد أنه تلقى سخرية بدلًا من تهدئته وطمأنته "وانت إيه اللي طلعك يا حمادة ؟"

الربَكة والشتات وغياب القائد، دفعتهم إلى المحَك، انشق المركب لنصفين في الرابعة فجرًا، اندفعت المياه لتغرقهم، سقطوا في البحَر. يُضيف "عيد": "اللي بيعرف يعوم كان بيحاول، واللي مبيعرفش يتعلق في أي شنطة ولا خشبة"، بكاء الأطفال لم ينقطع، عويل النساء لم يتوقف، نداءات مُتكررة إلى الرب من أفواه الجميع "اللي يصرخ واللي يستشهد"، فيما تمكنت "سميرة" من كَسر زجاج غرفتها مندفعة إلى المياه "ناس مصريين وسودانين حاولوا ياخدوا مني اللايف جاكت، بس أنا قومت بكل طاقتي.. كان لازم أعيش".

وسط البَحر المفروش بالعائمين، كان "ملاح" يضرب بيداه في المياه بكل طاقته للفرار من الموت، وبرفقته ابن خالته وأحد أصدقائه، يتمسك كلا منهم بالأخر خوفًا من الضياع، لكنهم فشلوا في إنقاذ عشرات الركاب المعرضين للغرق "اللي في ريح منك يقولك الحقني. بس هتعمل إيه؟ هتغرق وياه ولا تسيبه يموت لوحده؟!"، كان القرار محسومًا لدى الكثيرين.

دون أن يرى بفِعل الظلام، كان الشاب السوداني "مُنتصر" يُزيح بيديه العشرات من الغرقى لملرور بينهم تجاه بَر النجاة، يُحسبن على من وضعه في تلك اللحظة، الأوضاع القاسية في بلاده، وشح العيش في القاهرة "كل واحد فينا عنده مشكلة.. كنا عايزين حتة نداري فيها مشاكلنا وتتحل.. بس الحلم انتهى"، بجانبه يعوم الشاب القليوبي، وفي عقله يترأى له مشاهد متخيلة لمشهد أسرته أثناء سماعهم لخبر وفاته، كلما تصور حزن أمه، ازداد اندفاعه في المياه أكثر، النهاية ليست اليوم. 

بعيدًا عن الاتجاه الذي اختاره الركاب للسباحة، انطلقت "سميرة"، ساعدها "اللايف جاكت" أن تحصل على قَدر من الأمان، لكنها رغبت في المزيد، شاهدت أحد أبناء دولتها-مُنتصر- بالقرب منها متكئًا على قطعة خشبية صغيرة، طلبت منه الاقتراب والبقاء بجوارها "كنت محتاجة راجل يحمني"، وتعاهدا على الوصول إلى البَر سويًا.

المهاجرين

قُرب الشروق، بدا أن الناجين من الموت قد ابتعدوا بمسافة كبيرة عن الغرقى، سكنت الأجساد، اختفت الأصوات المُعذبة، لم يعد هناك ما يعوق السابحين عن استكمال طريقهم "لحد ما الشمس طلعت" اكتشفوا حينذاك أنهم يسبحون ناحية اللاشيء "مكنش باين لا شط ولا مراكب"، لكنهم قرروا استكمال طريقهم تجاه ضوء الشمس بناء على نصيحة أحدهم. يوضح ملاح: "وفضلنا مكملين حوالي 5 ساعات".

 بتلاوة ما تيسر من القرآن كانت "سميرة" تحاول كَسر حالة الصمت الكئيب الذي يغطي كل شيء داخل البَحر "كنت بقرأ سورة يس وتبارك"، قبل أن تلمح اليأس في عيني رفيقها، يداه تكاد أن تترك قطعة الخَشب، الشاب اتخذ قراره بالتخلي عن الحياة، لن يستطيع الصبر أكثر "قولتله اوعى تسبني لوحدي" ليرضخ إلى طلبها في نهاية الأمر.

عند الحادية عشر صباحا، ظهر مركب كبير في قلب البَحر، عادت الروح لليائسين مرة أخرى، لوحوا بما تبقى لهم من طاقة لقائدها، هتفوا بأصوات مبحوحة "لكن اتفاجئنا إنهم سابونا ومشيوا بعيد" كلمات يلفظها "ملاح"، لم يكن التوقيت وقتها يحتمل أية خيانة أو تخلي، طاردو المركب قدر إمكانهم، حتى عثروا على مراكب أخرى "واحدة منهم تبع خفر السواحل" أنزلوا لهم حبال متينة وقاموا بسحبهم من البَحر.

داخل مركب الإنقاذ لم يُصدق "ملاح" أنه لم يمت، انطقت صيحة فرح من السيدة السودانية، بينما تنظر إلى "مُنتصر" مؤكدة له أن الأمل مايزال يمكنه صنع المعجزات، طَلب "عيد" إرسال خبر لأسرته بما جرى له، فيما توالت عمليات الإنقاذ لعشرات غيرهم من العالقين في المياه.

إلى مكتب مُخصص بخفر السواحل، تم اقتياد الناجين من الموت غرقًا وعددهم 157 لعدة ساعات للوقوف على أسمائهم وتفاصيل الحادث، قبل أن يُنقلوا مرة أخرى إلى قسم شرطة رشيد، للمثول أمام النيابة، حيث تكدسوا في غرفة بالدور الأرضي للقسم. فيما أُرسل 42 متوفي و7 مصابين إلى مستشفيات حكومية ومشرحة رشيد، وسط حالة من حزن خيمت على أهالي المحتجزين والقتلى. "مهما حصل مش هنحاول نسافر تاني.. احنا شوفنا جنازة أموات في الميه" كلمات كررها العديد من الناجين.

* تم تغيير عدد من أسماء الناجين بناء على طلبهم.

فيديو قد يعجبك: