لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"توفير الطاقة".. قصة مشروع نفذته ألمانيا وأهدرته مصر بالروتين

03:38 م الثلاثاء 24 يناير 2017

المهندس محمد حسن

كتب-أحمد الليثي ودعاء الفولي:

داخل مكتب مظلم إلا من تليفزيون يعرض مشاهد لميدان التحرير، جلس المهندس محمد حسن مُتابعا التظاهرات. تجري السعادة في عروقه إذ يرى حشودا خرجت ضد النظام في يناير 2011.

لم يشعر بحماس مماثل يوما، ورغم غصة اجتاحت قلبه لوجوده في ألمانيا بعيدا عن الحدث، إلا أنه قرر العودة لوطنه، تاركا مسيرة علميّة وضعته ضمن أهم 100 عالِم في مجال طاقة الرياح، مصطحبا معه مشروع لتوليد الكهرباء في مصر، ظنّا منه أن التغيير بات واقعا، غير أن عراقيل الروتين تكالبت عليه خلال عامين، فترك البلد بعدما مسّه الأمل مرّة.

قبل الثورة بأربع سنوات تم اختيار حسن ضمن بعثة مصرية للذهاب إلى جامعة "أوتو-فون-غوريكة" في ألمانيا. هُناك بدأت حياة جديدة للشاب الثلاثيني، عايش تعامل الدولة المضيفة مع العلماء والباحثين "مبيبخلوش على الناس بحاجة طالما بيطلّعوا نتايج في النهاية"، لذا استطاع اقتناص مرتبة متقدمة في سباق العلم، فخلال عامين نشر 11 بحثا وقدّم براءة اختراع في مجال الطاقات المتجددة، رغم أن راتبه من البعثة المصرية لم يتجاوز 64 يورو في الفصل الدراسي الواحد.

بعد عامين من العمل المُضني طلب البروفيسور الفرنسي دومينيك تيفينين، رئيس قسم "ميكانيكا الموائع والآلات التوربينية" من حسن مناقشة الدكتوراه، بينما كان هناك باحثون آخرون أقدم منه في الجامعة "منهم ناس ناشرة 24 بحث لكن هو قاللي إن المهم شغلك مش الأقدمية". لم يُخيب المهندس ظنّ أستاذه، إذ حصل على الدكتوراه بتقدير امتياز "ودي درجة كان أول مرة البروفيسور يديها لحد خلال تاريخه".

صورة 1

ظلت سيرة حسن العلمية تزدهر في ألمانيا، نشر حوالي 48 بحثا في كبرى الدوريات العلمية مثل مجلة energy & renewable” “energy. اتسع صيته بين مؤتمرات علمية يُطلب فيها بالاسم ليشارك بأبحاثه، وإشادات من العاملين بمجال الطاقات المتجددة، إلا أن الشاب المصري لم يتخيل ما ستؤول له الأمور مع أول هتاف في التحرير يُنادي بإسقاط مبارك.

كان التليفزيون هو نافذة المهندس الثلاثيني على ما يحدث في مصر. ظلت الأجواء في أيام الثورة الأولى مُرعبة، فكلما حاول الاتصال بأهله من ألمانيا، لا يسمع إلا أصواتا متقطعة، حاول التغلب على القلق لكنه لم يستطع، فتوقف عن العمل تماما، وكان يمر به بين حين وآخر أستاذه "دومينيك"، يطمئن عليه ويواسيه، فيما لم يتحسن حال حسن سوى مع تنحي مُبارك في 11 فبراير.

على بُعد آلاف الكيلومترات من الوطن، لم يكن حسن وحده من ابتهج، إذ رأى انبهارا في أعين الألمان والعرب بالثورة المصرية، حتى أن بعضهم نظّم حفلا على شرف المصريين، فيما لم يفعلوا ذلك مع الثورة التونسية "كانوا بيقولوا انتوا عملتوا نقلة تاريخية خلال 18 يوم، احنا احتاجنا نمر بحروب في ألمانيا عشان نوصل لها".

قبل رحيل مبارك، وبينما تشتعل التظاهرات، أخبر حسن أستاذه بنية العودة لمصر، فردّ عليه الأخير بسؤال "هتنزل تعمل إيه في مصر؟"، حينها أشار المهندس لشاشة التليفزيون قائلا: "هأكّل الناس دي"، ليضحك تيفنين "قاللي هو إنت اللي هتأكلهم.. فقولتلوا هصنع لهم اللي يأكلهم ويعيّشهم أحسن حتى لو مش دلوقتي".

لم تُفلح محاولات البروفيسور لإثناء حسن عن الرجوع، نفّذ قراره في مايو 2011 "وقتها ابتدت أحلامي عن مصر تترسم، وكان عندي أفكار كتير حاسس إنها هتعمل فارق حقيقي". منذ استقرار مهندس الطاقات المتجددة في ألمانيا وهو يعلم أن "المصريين والعرب مبدعين بس محتاجين منظومة يشتغلوا من خلالها"، لذا بعد الثورة ظنّ أنه سيشارك في بناء تلك المنظومة.

اتفق حسن وغيره من مُدرسي هندسة المطرية ضمنا على نقل خبراتهم للطلاب "كنا بنعمل محاضرات عن اللي اتعلمناه في المنح، غير اهتمامنا بالدراسة نفسها". يذكر أنه بعد عودته بأسبوعين قابل مُعيدا يُجهز أوراق استقالته من الجامعة "قاللي إن بقالي سنة ونص مش عارف أناقش الماجستير عشان مفيش حد مهتم في المعمل"، طلب حسن من الشاب تأجيل الاستقالة أسبوعا "انا موتي وسمّي حد يسيب الكلية، خليته يقرأ في بعض الموضوعات واتفقنا على فكرة الماستر بعدها". خلال أقل من عام حصل المعيد على الماجستير، وأصبح من أهم مهندسي العالم في برنامج "إنسيس-أحد أكبر برامج المحاكاة الهندسية، إذ كان يسافر للخارج لإعطاء دورات في ذلك البرنامج.

لم يكتفِ حسن بالتدريس فقط، حملت له "يناير" أملا في "إن مصر تبقى عندها مصادر مختلفة للطاقة عشان نحل أزمة الكهرباء"، وبحكم خبرته كتب بيده مشروعًا قد يساهم في تغيير مستقبل البلد.

"مجموعة من توربينات الرياح الصغيرة، يتم تركيبها أعلى البيوت أو المكاتب، مستقلة عن الشبكة العامة للكهرباء، فيما تنتج طاقة تساهم في حل الأزمة جزئيا بمصر".. تلك الكلمات البسيطة تعبر عن المشروع الذي صاغه الدكتور محمد حسن على عينه؛ وضع أطر تطوير الفكرة، كيفية تحسين التوربينات، واستثمارها مستقبليا.

إعلان صغير للمشروع في نهاية عام 2012، جاء على أثره تمويلا بـ200 ألف يورو، مقسمين بين مصر وألمانيا -القائمين على الفكرة وتنفيذها. شكلّ حسن فريقا في مصر وتواصل مع معلمه -البروفيسور الفرنسي- في ألمانيا فكون هو الآخر فريقا.

10 شهور كاملة ولم يأت الرد من قبل المسئولين المصريين، فيما حصلت الفكرة على أعلى تقدير بألمانيا "أكاديمية البحث العلمي رفضت المشروع من غير توضيح أسباب"، في البداية لم يبالِ حسن، غير أن زيارة لألمانيا بعد أسبوع من الرفض حوّلت الدفة.

"الحكومة المصرية قالت المهندس ده صغير في السن ميقدرش يستحمل مسئولية 100 ألف يورو" كانت تلك هي الأسباب التي مررها البروفيسور الفرنسي لتلميذه المصري، جراء مباحثات أجراها مع نظرائه بالقاهرة. حين سمع المهندس السبب أصابته غصة، وضع عينيه أرضا، تذكر الثورة التي ألهمته، بينما حاول البروفيسور تعزيته، وهو يقول "لازم يبقى عندك 70 سنة عشان بلدك تسمحلك تشتغل وتديك فلوس"، أراد حسن الصراخ لكن تملكته الصدمة "حسيت أني أطعنت لمجرد إني بحاول أقدم شئ مفيد للبلد".

صورة 2

قبل أشهر من رفض المشروع، كان المهندس المصري قد نشر بحثه في مجلة "energy"، وقد ذُيل البحث بشكر لأستاذه "دومينيك"، فقامت إحدى الشركات الألمانية بالاتصال بالبروفيسور كي يصلوا من خلاله لذلك الباحث المصري صاحب الفكرة، فاتخذها أستاذه فرصة لتعويضه عن حزنه جراء التعنت المصري، وأجرى اتصالا بمسئولي الشركة يخبرهم أن المهندس "الجهبذ" قد حضر لألمانيا قبل ساعات "جالي مسئول من الشركة مخصوص من بلد تانية في نفس اليوم، وقاللي عايزك تنفذ التوربينة دي وعايزين نطورها وكل التكاليف المتاحة هنوفرهالك" حسبما يضيف حسن.

في غضون أسابيع رأى مشروع التوربينات النور. قدّمت الشركة الألمانية دعما بـ50 ألف يورو كمرحلة أولى، أشرك حسن أحد طلبة الدكتوراه معه، وطوّروا "التوربينة". كان مقدر للمشروع أن يستمر عامين، فتم مده لعامين آخرين، ثم صار مشروعا مكتملا أنتجته ألمانيا وأصبح مطلوبا ويحقق ربحا غزيرا، بينما فات مصر الدور "الفكرة كان مقرر لها الإسهام في حل ثلث أزمة الكهرباء في بلدنا".

"المشروع كان يعني أن تمتلك مصر التكنولوجيا، وتتمكن من بيعها، فنخرج من حيز المستهلك إلى دنيا المصنعين والمبتكرين" يقولها حسن بنفس تسكنها المرارة، مؤكدا أنه بالرغم أن المشروع لم يعد ملكه وإنما في حوزة المستثمرين الأجانب فإن حزنه لم يكن شخصيا "كل اللي مضايقني إن بلد تاني حصلت على أقصى استفادة، وبلدي تعاملت مع الموضوع بشخصية الموظف الرتيب". 

 

على الرغم مما جرى من ألم نفسي للمهندس المصري، غير أن الأمل لم يفارقه "إن فات مشروع الأفكار موجودة وهتتعوض"، ومع أبحاثه التي تُنشر في كبريات المجلات العلمية، ظل حسن مواظبا على العلم كتلميذ يتحسس الخطى، ففي بداية عام 2013 كان هو الباحث المصري الوحيد الحاصل على منحة -لاجتياز دراسات ما بعد الدكتوراه- من الهيئة الألمانية للتبادل العلمي مع مصر ((DAAd، بعد مقابلة أجراها معه شخصيات علمية بارزة، ومندوبين من الأمم المتحدة.

وفيما كانت النشوة تهيمن على جوارحه، كان حسن ينتظر حصوله على منحة أخرى لاستكمال دراساته العلمية بألمانيا لمدة ستة أشهر، لكن وزارة البحث العلمي رفضت طلبه 

"كان السفر على حساب ألمانيا ومفيش أي مبرر واضح"، عندها واجه حسن شبح الروتين ثانية.

صورة 3

داخل مكتب وكيل الوزارة بأكاديمية البحث العلمي، جلس المهندس المصري قرابة الساعة دون مجيب، قبل أن تأتيه الإجابة "هو مش أنت سافرت قبل كدة عايز تروح ليه تاني".

لم يستوعب حسن الأمر فرد بتلقائية "أنا الوحيد اللي خدت منحة الداد عشان متميز وكل اللي سقطوا في الامتحان هيسافروا.. هو أنتوا بتعاقبوني؟"، فرد المسئول الحكومي بتعالٍ شديد "أنت فاكر نفسك ايه، هو أنت الوحيد اللي شاطر.. أطلع برة".

خرج حسن وقد أعطته الدنيا ظهرها "رجلي مكنتش شيلاني.. وقررت ساعتها إن السفر هو الحل". العودة لألمانيا كانت السبيل، وبمجرد وصول الباحث المصري لمقر الجامعة استقبله البروفيسور "دومينيك" بحفاوة، نصّبه مساعدا له، صار حسن مسئولا عن الإشراف على طلاب الدكتوراه والماجيستير، فيما تفرغ أستاذه للمشاريع البحثية.

بعد فترة جاء للمهندس المصري عدة عروض في جامعات عربية وأوروبية "كان القرار مرتبط أكتر بالأسرة وقررت أروح جامعة أم القرى بالسعودية وطبعا بتابع المشاريع مع البروفيسور".

خاصم "حسن" الدولة بروتينها وتكلسها، فيما لا يزال قلبه معلقا بمصر، إذ يشارك منذ عامين -مع مجموعة من الباحثين- العمل في أول شركة في الشرق الأوسط للأبحاث والتطوير للطاقات المتجددة.

على بعد ساعات من الذكرى السادسة لثورة يناير، يتهدج صوت المهندس المصري وهو يسترجع الذكريات؛ شريط سينمائي مر على مخيلة حسن؛ تفوقه البارز في ألمانيا، مشاهد ميدان التحرير التي أبكته فرحا، وداعه للبروفيسور الفرنسي، إصراره على تحقيق آماله في القاهرة، رفض مشروعه لأنه "مش عجوز"، فكرته التي حققت نجاحا مدويا في ألمانيا، جلساته مع طلاب نابغين يُثنيهم عن الهجرة لأجل تراب الوطن، اجتهاده الذي قابله موظف حكومي بالطرد، المسئول الألماني الذي قال له "فخور بلقائك"، وغلق الأبواب أمام الكفاءات، حتى أصبح "المطار" هو الطريق للتقدم. 

للاطلاع على بعض أبحاث المهندس محمد حسن:

اضغط هنا (بحث1)

(بحث 2)

تابع باقي موضوعات الملف

بعد 6 أعوام من الثورة.. تفاصيل إجهاض أول مشروع لـ''الصحة النفسية'' للشرطة

2017_1_24_20_50_26_165

''الفن ميدان''.. لماذا لم يعد ''الشارع لنا''؟

2017_1_24_13_49_54_439

دكتور أميرة.. منحتها الدولة جائزتها ''التشجيعية'' وتركت أبحاثها ''محلك سِر''

2017_1_24_21_39_10_730

مصور مقتل ''شيماء الصباغ''.. مشوار أوله ''ثورة'' وأخره ''هزيمة''

2017_1_24_19_1_55_475

أكاديمية التحرير.. لماذا توقف مشروع تعليمي ''من ريحة الثورة''؟

 2017_1_24_23_58_40_303

تطوير العشوائيات.. مشروع على جناح الثورة هدمته الحكومة

2017_1_24_22_40_58_589

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان