بالصور- في ملتقى البرلس.. الحيطان بتتكلم فن
كتب - دعاء الفولي وإشراق أحمد:
تصوير- جلال المسري:
أمام البحر، اتخذت رشا سليمان مكانها، على مقعد المقهى البسيط، توجهت ببصرها صوب السور الحاجز خلفه مشهد المياه، تتأمل الألواح الخشبية للمقهى بينما تلتحم مع الحائط مشكلة ما يشبه "بلكونة" أو شبابيك تطل على زرقة السماء وبياض الأمواج المتلاطمة. هنا قررت رشا أن ترسم لوحتها "حابة أسيب لأهل البرلس ذكرى حلوة وأحسسهم إني معاهم".
تشارك رشا، الرسامة القاهرية، ضمن 35 فنانًا، في السنة الرابعة لملتقى البرلس الدولي للفنون. من مصر، إيطاليا، روسيا، الهند، مقدونيا، لبنان أتى الرسامون لترك بصمتهم على حوائط منازل ومراكب أهل مدينة برج البرلس المطلة على البحر، والتابعة لمحافظة كفر الشيخ.
لا ينطلق الفنانون سريعًا نحو أدواتهم، لاختيار مكان بصمتهم رؤية تخصهم، ينظرون إليه بعين الفنان. ترى رشا في موقع رسمها ما يشبه استراحة محارب، يركن إليه أهل المدينة الصغيرة، بعد يوم شاق من العمل، حين لا يرغبون إلا النظر للبحر عبر التشكيلات الخشبية، فأرادت أن تكمل لهم اللوحة الطبيعية بلمسات تجميل للحائط الذي سقطت عنه رسومه السابقة بفعل الماء المالح، ولا ضير في ذلك من مشاركة طفل "برلسي" برسم تخطه يداه.
تلك المرة الأولى لمشاركة رشا في الملتقى، لكن متابعتها له بدأت مع ولادة الحدث "نتايج عمل الزملاء والأصدقاء واللي بيرجع منهم يحكي عن التجربة والفكرة". لا تكتفي الفنانة بإضفاء لوحة على الجدران، بل تحتك بالناس وتتفاعل معهم، لذا استغلت الوقت من بدايته "حكيت مع صيادين وعرفت كمية معلومات بالنسبة لي أول مرة اسمعها"، حتى إنها وجدتها مختلفة عما سمعته من صيادي الإسكندرية، مما أكد لها يقينها بأن "التجربة هي الأساس".
من دلهي عاصمة الهند أتى مانيش كومار بعدما سمع عن ملتقى الفنانين "كنت في القاهرة أول ٢٠١٧ بالصدفة وعلمت بالفكرة ورغبت في المشاركة"، ابتهج الرسام الثلاثيني حين تمت دعوته.
"لدي فضول شديد لمعرفة ردود أفعال الناس تجاه الرسومات"، لا يشعر كومار بخوف من التجربة الجديدة "بالعكس هو تحدي لي كفنان كي أتقرب من السكان من خلال فني". على واجهة بيت السيدة عزيزة ونيس اختار كومار الرسم "أنا كل السنة يقولوا لي نرسم على البيت أقولهم لأ.. السنة دي اتكسفت أطفشهم" تحكي عزيزة فيما تشير إلى الفنان الهندي.
على بُعد أمتار قليلة بدأت مينو شريواسوا في دهان حائط جانبي لأحد البيوت "يجب أن أجهزه أولا قبل الرسم عليه". لم تكن لدى الفنانة الهندية رؤية بعينها عن الشكل النهائي للرسم "لكنها ستكون مرتبطة بطبيعة المكان والموروثات الشعبية"، إذ قرأت السيدة الخمسينية عن مصر قليلاً قبل القدوم "تلك الزيارة هي الأولى لي وتم ترشيحي من قبل أحد أساتذتي".
يمتزج إحساس الفنانة الهندية بين التحدي والترقب "نسعى لعمل فن بصري يلفت نظر المحليين". أربع سنوات كانت كافية لأهل البرلس كي يتعودوا على نشاط الرسامين "بتبقى حاجة جميلة وبنشوف ناس جديدة" قالتها إحدى سيدات المنطقة قبل أن تدلف منزلها وتعود بحوزتها بضع أكواب من الشاي للرسامين.
ما بين 200 و400 فنان من مصر ومختلف الدول يتقدمون لملتقى من أجل المشاركة، كما يقول عبد الوهاب عبد المحسن، مؤسس فكرة ملتقى البرلس، لكن ليس الجميع محل قبول، يوضح "عبد المحسن" بعض المعايير التي يُستند إليها في اختيار الفنانين كل عام "يتعامل مع الناس في الشارع، لا يزعجه الأطفال، عنده تجربة ابداعية مهمة عشان يبقى صاحب وجه نظر..".
بين وجوه الفنانين المخضرمة، ثمة ملامح شابة قدمت من المنصورة، بصحبة أستاذهم عمر الفيومي في الجامعة. "دي المرة الثانية ليا في الملتقي" يقول عمر الدسوقي بحماس، مشيرًا إلى أن نحو 14 طالب بكلية الفنون جاءوا إلى البرلس.
أمسك الشاب بدفتر رسم يلازمه، لم يضع الوقت، أخذ يضع لمسات بالقلم الرصاص، اعتاد ابن كلية فنون المنصورة على السفر في رحلات تعليمية، يرى في الملتقي فرصة للتعرف على خبرة من سبقوه في الفن "فلسفتهم وشغلهم"، ومن ناحية أخرى اقتناص فرصة الرسم على مساحة كبيرة بدلا من اللوحات الورقية المعتادة في الدراسة، فضلا عن المشاركة بعمل فني يتركوه للناس.
في داخل البيوت المحاذية للكورنيش يعرف كل شخص تاريخ الرسمة واسم صاحبها، خاصة الأطفال الذين يراقبون الحدث، في المقابل يحمل الفنانون ذكرى من المدينة الصغيرة، ترحل معهم مع انتهاء الملتقى، حال عمر الفيومي، أستاذ الفنون الجميلة بجامعة المنصورة، الذي يلمس قلبه صورة أول طفلة تقبض على فرشاة ألوان في الدورة الأولى للملتقى وتشاركه الرسم على الحائط، فحينها تأكد أن ما يراه البعض بعيد المنال هو أقرب من خطوة قدم.
أمام إحدى اللوحات التي يتم إعدادها على منزل مواجهة لطريق الكورنيش، توقفت نادية وابنتها هدى، بابتسامة وسؤال يحمل اللهفة "هم سموا الشارع ده إيه؟"، ظنت السيدة أن كل جانب سيمنحه الفنانون اسمًا حال "حارة الورد" التي زينوها العام الماضي برسومات زهور فمنحوها هذا الاسم داخل برواز مرسوم في بداية المكان.
عبس وجه نادية قليلا حين أجاب النفي سؤالها، ودت لو حملت أزقة المكان ألقاب تجملها حال الرسومات، لاسيما أنها تتحمس للملتقى هذا العام "في رسومات بنتعلم منها إزاي نحافظ على منطقتنا وتانية بنفتكر منها الزعماء"، في إشارة لرسم بهي الألوان يعكف شباب الفنون على إنهائه، وأخر من صنع فنان إيطالي لوجه رجل عميق الملامح ذو طلة ارستقراطية.
الجهات الراعية أحد أهم أوجه الاختلاف في الدورة الرابعة للملتقى، من بينهم منظمة اليونيسيف كما يقول مؤسس الملتقى، لكن يظل أمل "عبد المحسن" في التفات الجهات الرسمية لدعم الحدث السنوي، الذي يقام بالجهود الذاتية وأقل الإمكانيات حد وصفه.
دقائق يستغرقها أطفال البرلس يتطلعون في لافتة ضخمة معلقة على أحد المحال، تحمل صور المشاركين في الملتقى، قبل أن يتبعون تفاصيل وجودهم في شوارعهم، فيما لم تستغرق الرسامة الروسية "آللا" أكثر من ساعة كي تتعرف على سكان قرية برج البرلس.
"أؤمن أن هناك لغة عالمية للحب يتواصل بها الناس تتخطى حدود اللغة والدين والعرق" قالتها السيدة ذات الثمانية والثلاثين عاما فيما تتفق مع إحدى السيدات على ميعاد لزيارتها في منزلها وطهي الطعام معها.
تمت دعوة "آللا" التي تعيش في موسكو لتشارك بملتقى الفنانين ذلك العام للمرة الأولى، اتفقت مع أحد زملائها الموجودين من مقدونيا أن يرسما سويا حائط واحد "هو سيرسم البحر والسماء وانا سأرسم ورود وزهرية داخل المظهر الجمالي".
٢٠ دقيقة فقط احتاجتها الفنانة الروسية لتقرر شكل اللوحة "الطبيعة هنا رائعة وهي ما دفعني لجعل اللوحة وكأنها مكملة للحالة العامة". منذ صباح اليوم عكفت الرسامة على لوحتها، يتحلق حولها الصغار، فيما لم تنزعج منهم أو طلب أحدهم بالتقاط الصور معها.
على ناصية بناية أخرى، تشارك جيهان فايز، مدرس الفنون الجميلة في جامعة المنيا، للمرة الثانية. بعدما اكتسبت ود السكان العام الماضي "رسمت ورد وكنت خايفة ميحبوهوش" لكنها فوجئت بالاهتمام الشديد بما تقدم "لدرجة إن في ناس زعلوا إني مرسمتش بيوتهم".
تعرف جيهان أن فكرة الملتقى ليست مرتبطة بالفن فقط؛ بل التفاعل المجتمعي "بدل ما أعمل لوحة أحطها في معرض وبيجي فنان زيي يشوفها أنا بعمل حاجة للناس اللي مش بتشوف الفن دايما"، يلتقط علي سعيد-أحد المشاركين- الخيط من أستاذ الفنون الجميلة قائلا إن ثقافة اللون وتذوقه أمرا يفعله أهل المنطقة "بتلاقيهم لما يدهنوا بيوتهم بيدرجوا اللون ويجربوا وينقوا.. هما بيستطعموا الفن فعلا بس يمكن مش عارفين ده".
لكن تقبل الرسم على البيوت أحيانا لا يأتي بسهولة "ممكن حد يفتكر إننا هنبوظ له الشكل حتى لو الحيطة ع المحارة"، إلا أنه على النقيض ثمة حكايات مازالت ساكنة في قلب جيهان عن التفاعل الإيجابي.
أربعة أيام ظلت فيها جيهان تقنع عجوز ثمانينية كي ترسم على بيتها "قالتلي هترسمي ليه دة شكله وحش.. أصلهم هيهدوه.. أصلي همشي منه"، ولما وافقت السيدة أخيرا "قعدت تتفرج علّيا وتسألني انتي هترسمي ايه فقولتلها ورد"، كان قلب جيهان يدق بعنف خوفا من ألا يعجبها الرسم "بس أما خلصت لقيتها بتقولي أنا لو مُت هيبقى نفسي أندفن هنا جنب الحيطة".
فيديو قد يعجبك: