لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الكل أمام البحر سواء.. مدافن البرلس تجمع الأحياء والأموات

12:24 م الأربعاء 15 نوفمبر 2017

مدافن البرلس تجمع الأحياء والأموات

كتب-دعاء الفولي وإشراق أحمد:

تصوير-جلال المسري:

صفوف متتالية من القبور تراصت على طريق المدينة الساحلية. بعضها غمرته الرمال وشواهد أخرى انزوت في ركن قريب من البحر، يبدو المشهد جماليا، لا أحد في البرلس يجزع من رؤية المقابر ذهابا وإيابًا "كلنا هنموت ونروح هناك" يعبر إبراهيم الشلقاني، أحد جيران "جبانة "الغلمانية" –البرلس في محافظة كفر الشيخ.

1

تشير الساعة إلى الثامنة صباحا، يفتح الشقيقان محمد ومحمود علي القلفاط ورشتهم، مع بسط أبوابها الخشبية العملاقة، تشخص أبصارهم صوب الرمال المواجهة لمكانهم، يطيلا النظر لدقائق إلى ركن تبرز فيه لافتة خضراء من ورائها يتجلى البحر، ثم يقرأون الفاتحة لأبيهم ولكل الراحلين جواره ممن رقدوا أسفل تلك البقعة.

لم يعرف أهل البرلس مكانًا أخر للدفن، منذ وعوا حياتهم ومثواهم ينتهي عند حدود البحر، ومن قبل ابتعلت مياهه ذلك المثوى "أقدم جبانة أكلها البحر من زمان وجم الأهالي دفنوا تحت هنا لما الرمل سحب لفوق" يقول محمد القلفاط.

2

منذ 75 عامًا وُلد الشلقاني في مدينة البرلس. وعى الرجل على الدنيا ليجد أمامه تبّة مرتفعة، تتراص عليها صفوف من المقابر، تطل على البحر الأبيض المتوسط، لا يعرف شكلا آخر لجبانات الموتى سوى ذلك، ولا يفهم كيف يبني آل القاهرة أسوارًا وغرفًا حول الموتى.

في برج البرلس يُدفن الموتى بطريقة بسيطة "بنجيبو الرملة نحفر فيها ونحط الميت وفوقيه الرملة وبعدين برميل على السطح"، لأعوام طويلة ظلت مقابر البرلس خالية من شواهد القبور، يحكي الشرقاوي "أمي وأبويا وابني مدفونين هنا ومعرفلهمش مكان"، غير أنه منذ أعوام قريبة مع زيادة أعداد المتوفين بالجبانة، بدأ البعض يكتبون على خشبة صغيرة أو رخام اسم المتوفى.

3

قبل أكثر من عشرين عامًا، أخذ محمد علي القلفاط يعمل في ورشته، بطريق البرلس العمومي، طَرقه على الأخشاب يدوي داخل منازل الجيران. شكاوى تتكرر على مسامع الرجل جراء عمله المتواصل من التاسعة صباحًا حتى المساء، مما دفعه للتفكير في الرحيل لكن أين يذهب؟
ظل القلفاط يتفقد مكان بعيد عن المناطق السكنية، حلم بمنطقة صناعية تضمه هو وأصحاب ورش النجارة الأخرى، وذلك قبل أن يجد الملجأ.

في أرض مقابلة "للجبانة" –المقابر. حينها اجتمع بأبنائه الأربعة، أخبرهم عن المكان، اثنين منهم رفضوا، قالوا لأبيهم "هنسيب العمار ونيجي هنا في وش المقابر"، ليحاجيهم الأب قائلا "ما هو في الجبانة الناس طيبة ومبيسمعوش بينا ولا هيتكلموا ولا هيقولوا مش عارفين ننام". ثم اتفقوا على الشوري بينهم والأغلبية تحكم. وقد كانت.

4

رحل الأب قبل سبعة أعوام ولازال يحفظ محمد علي القلفاط تلك القصة عن ظهر قلب، يأتي بها تفسيرا لتعليقه السريع على جيرتهم للمقابر "أحنا جايين عشانهم".
يصف الرجل الثلاثيني هيئة المكان حين نقلوا معيشتهم إليه "كنا من أوائل الناس هنا واللي حوالينا كان خلا". الكثير عاتب الأب لسكنه أمام المقابر لكن القلفاط وجد فيه الراحة، ومن بعده أبنائه الذين أبوا أن يغادروا المكان.

"اللي بيبقى فينا زعلان أو مهموم يقوم ساحب نفسه وقاعد هنا يسيب الدنيا واللي فيها ويريح يحكي لهم همه" يقول محمد، معبرًا عن حال أهل الغلمانية مع المقابر المطلة على البحر.

5

غالبًا ما يذهب الرجال إلى المدافن يوم الجمعة، فيما توارثت النساء عادة التجمع في المكان يوم الاثنين، فتفترش الأرض بين الشواهد، بعد توزيع "النفحة" –ما يتم توزيعه على الأطفال أو المتواجدين في المدافن- لكنه كحال المقابر مختلف "بنوزع الكراميلة مش قرص" مبتسمًا يقول محمد.

وللأعياد في جبانات البرلس طقس خاص "البلد كلها تطلع المقابر"، لا مشقة ولا قبضة نفس فقط استوحاش الأحبة يلطفه نسمات البحر وحبات التين الشوكي الذي ينبت من الأرض "رباني" كما يصف أهالي البرلس.

والأطفال أيضًا يجدون ملاذهم على أرض الجبانة، يظلوا يلهون حتى في الليل "عواميد النور بتخلي المكان كأنه نهار" حسب قول محمود القلفاط.

6

لم يعايش جيران الجبانة على مدار حياتهم محاولة نبش المقابر. لا أسوار ولا حارس يحيط بالمكان "الدنيا هنا أمان والناس بتحترم الأموات" حسبما يقول الشلقاني، ويتذكر الرجل السبعيني واقعة وحيدة، حين فتح أحد الأطباء قبرًا ليحصل على العظام "ساعتها الناس عملت مشكلة كبيرة والأمر اتلم ومتكررش تاني"، فعلى أرض البرلس يتعايش الأحياء والأموات كجسد واحد "معندناش لحّاد ولا حانوتي.. إحنا بنعمل كل شيء بنفسنا".

رغم ما يبدو عليه الأمر من سهولة، لكن عوامل الطقس والمد والجزر تتحكم في الجبانات، ما جعل أهل البرلس يبنون مدافن أخرى في الجهة الغربية من المدينة لتخفيف الضغط.

7

لا تختلف جبانات المدينة في شكلها فقط، بل في بروتوكول الدفن نفسه؛ إذ لا يتعين أن يكون أحدهم صاحب أرض كي يواري أهله الثرى "دي أرض ربنا.." حسب قول الشلقاني. يمتلك الرجل قطعة أرض "بس مخصص حتة للي عايز يدفن".

هنا حيث يحيا أهل الغلمانية في مواجهة البحر، كذلك يستكملون حياتهم الأخرى قبالته، لا فرق فيهم بين مقتدر ومسكين، لا يبالي سكان البرلس بتفاصيل الشخص المدفون "يعني مش لازم يكون مننا.. ياما ناس ماتوا على الطريق واتدفنوا وياما ناس مكانوش عايشين هنا ولما ماتوا أهلهم اللي من البرلس جابوهم هنا".

8

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان