السكن كما القبور في "عين الحياة".. المياه والكهرباء حق غير مكفول
كتبت - علياء رفعت ونانيس البيلي:
في محيط بحيرة "عين الصيرة"، تباغتك تناقضات لا يمكن ألا تلحظها. فالبحيرة التي لا يعرف أهالي المنطقة كيف انفجرت من الأرض لتمتد وتتسع مساحتها بمرور الوقت؛ تفصل ما بين مقابر الإمام من ناحية وبين أبراجٍ شاهقة الارتفاع تجاورها العشوائيات من ناحية أخرى.
"عشش عين الحياة"، هذا هو الاسم الذي أُطلق على تلك المنطقة العشوائية المقابلة للمقابر والمقامة على أراضِ وقف مخصصة كـ"جبانات"، مستلهمين المثل الشعبي "الحي أبقى من الميت"، بينما يحيا أهلها في عِشش وغرف لا تتجاوز مساحة أغلبها الـ6 أمتار مما اضطرهم لبناء غرف معيشة لأولادهم فوق غرفهم "أوضة الابن اللي عايز يتجوز فوق أوضة أسرته".
ممرٌ ضيق طويل، ذلك هو الطريق الذي يقودك رأسًا من جانب البحيرة حتى وسط عزبة "عين الحياة" كما يطلق عليها أهلها. وما أن تصل لهناك، حتى تجد نفسك مُحاطًا بأعين جميع أهالي المنطقة الذي ينظرون لك باستغراب كونهم يحفظون بعضهم البعض عن ظهر قلب.
تنقسم منطقة عين الحياة إلى ثلاثة ممرات رئيسية يفصل كلٍ منها مجموعة من الغُرف أو العشش عن مجموعة أخرى، وعلى أطراف المنطقة تنتشر بعض الورش لحرفٍ وصناعات مختلفة، فأغلب أهل المنطقة من "الصنايعية". فيما تعمل نساؤها في بيع الخضروات أو يلازمن حجراتهن. يعيش في تلك المنطقة حوالي 270 أسرة، كُل منها في غرفة أو عشة منفصلة عن نظيرتها، وعندما يتزوج أبناؤهم يقومون ببناء غرفة فوق غرفة أسرتهم، أو يعيشون معها في نفس العشة.
قراراتٌ عديدة بالإخلاء والإزالة أصدرتها الحكومة ضد "عين الحياة" بعد أن وعدت الأهالي بتعويضهم بشقق في حي "الأسمرات"، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة بحسب سكان المنطقة. فعمليات حصر أهالي المنطقة كانت دقيقة جدًا، فتش القائمون عليها كل غرفة بما تحتويه ودوَنوا عدد القائمين بها للبحث في مدى استحقاقهم، لكن النتيجة جاءت عكس ما تخيله المواطنون، فقد أعطت اللجنة الأحقية في شقق حى الأسمرات لـ57 أسرة فقط، بينما بقى من شطب البحث الميداني أحقيتهم في حياةٍ آدمية آمنة بانتظار "لوادر" الإزالة بين الحين والآخر، رافعين شعارًا واحدًا "يا يعوضونا يا يقتلونا ويهدوا بيوتنا علينا".
"كتير من اللي استلموا غير مستحقين، وبعضهم مشى الموضوع بدفع فلوس للموظفين".. قالها "مصطفى كامل"، أحد أهالي منطقة عين الحياة، مؤكدًا أنه لم يعرف غير تلك المنطقة مَسكنًا منذ صباه، وأن هناك تلاعبا واضحًا من بعض الموظفين في الحي والمحافظة لصالح مواطنين بعضهم ليس من الأهالي، بنوا عشة على أطراف المنطقة ليُغيروا عنوان بطاقاتهم، وبعدها دفعوا 5 آلاف جنيه كرشوة لبعض الموظفين، بالإضافة إلى 4200 جنيه هي ثمن التقدم الأصلي لاستلام شقة بديلة من الدولة.
وأضاف: "المشكلة انهم لو اختاروا يعوضونا شروط التعويض مجحفة، يعني أخرج من أوضة ملكي عشان أسكن في شقة إيجار محدش هيرحمني لو ايجارها اتأخر كام يوم ده غير فلوس المرافق الشهرية من مياه ونور وغاز، وإحنا يوم في ويوم مفيش".
يعيش أهالي منطقة عين الحياة بدون مياه، أو كهرباء منذ سنينٍ عِدة، ورغم أنهم يدفعون "العوايد" لوزارة الأوقاف لحق انتفاعهم بأرضِ مُصنفة على أنها "جبانات"، إلا أن طلباتهم بتوصيل الكهرباء والعدادات لم يتم قبولها أو تنفيذها، ما اضطرهم لعمل وصلات كهرباء بدائية من أعمدة الإنارة وبقيت "بوكسات" الكهرباء مكشوفة الأسلاك تعرض الجميع للخطر.
حكايات عديدة تقطر وجعًا بين شقوق جدران الغرفة الواحدة، يحفظها أهالي "عشش عين الحياة" عن ظهر قلب، ويرددونها بين بعضهم البعض لكن يظل أبرز ما لا يغفلونه قط هو حكاية "حمدية" -اسم مستعار- تلك التي قدمت من الواحات لتحيا بعيدًا عن أهلها بعد خلافات وثأرٍ معلق، وتقدم بها العمر وهى تحيا في عِشة بدائية، وعندما أخبرها موظفو الإحصاء بحي الخلفية بعدم أحقيتها كونها وحيدة، سقطت بسكتة قلبية ليستقبلها الموت برحابة حين ضنت عليها الحياة.
"طب يبيعونا للمستثمر الإماراتي مع المكان يمكن يلاقي لنا شغل وسكن ويحسن أوضاعنا" يقولها أحد سكان المنطقة ساخرًا من حالهم وهم يترقبون لوادر الهدم التي ستدك البيوت فوق رؤوسهم في أي وقت خلال الشهر الجاري، كما أخبرهم رجال الحى.
ورغم أن أربعة آلاف جنيه (مقابل الحصول على شقة بديلة في الأسمرات)، قد يبدو مبلغًا ضئيلا، إلا أنه بالنسبة للعديد من أهالي المنطقة مبلغًا ضخمًا يصعب تحصيله حتى أن بعضهم باع من أجله كل ما يملك.
"بعت السرير والتلاجة والبوتجاز اللي حيلتي عشان أوفر مبلغ التقديم، لكن بردو معرفتش أجمعه".. قالتها سيدة خمسينية من سكان المنطقة بعد أن أصبحت لا تملك سوى مرتبة مهترئة تتكور فوقها ليلًا، ورغم أنها ضحت بكل ما تملك لأجل حلم الشقة الذي يعد بحياة كريمة إلا أن اسمها لم يدرج في كشوف المُستحقين بعد، ولا تعلم إن كان سيتم إدراجه من الأساس.
على جانب الطريق عند عِشة خشبية، جلست "سمحية رشدي"، سيدة خمسينية جعدت الهموم وجهها. "مش عارفة هنروح فين أنا وابني ومراته اللي على وش ولادة دي لو هدوا الأوضة علينا!" قالتها سميحة بعيون تفيض بالدموع، شارحه أحوال معيشتها: "معاش جوزي 300 جنيه، وابني خريج الحقوق بيشتغل فواعلي يوم فيه وشهر مفيش، ده غير علاجي بتاع الغضروف اللي بيتكلف 600 جنيه".
(VIDEO)
"الفقر وقولة مفيش صعبة".. كان ذلك هو السبب الذي دفع "سميحة" لبيع كل ممتلكاتها هي الأخرى لكي توفر أموال التقديم لشقة تداريها وأسرتها بين أربعة حيطان، لكنها تحمل همًا لا يتبدد لخوفها أن تكون ممن يصدر عليهم رجال الحي قرارًا بعدم الاستحقاق "مش عاوزين غير الستر والله، هياخدوا المكان يدونا البديل لكن ميرموناش في الشارع ويهينونا بعد العمر ده كله".
فيديو قد يعجبك: