في مئوية "وعد بلفور".. لماذا سار 65 ناشطا من بريطانيا إلى فلسطين؟
كتبت-دعاء الفولي:
خمسة أشهر كاملة، 150 نهارا وليلا، جبال، طرق وعرة، بحار، حيوانات شرسة وطيور، مُخيمات لاجئين وبشٌر من كل مكان.. رحلة تُشبه ما يُكتب في القصص الخيالية لمجموعة مغامرين قطعوا مسافات مترامية، كي يصلوا إلى أرض العجائب. غير أن الحكاية تلك المرة حقيقية. فهي تتحدث عن 65 ناشطا معظمهم من بريطانيا، ساروا من وطنهم إلى فلسطين، للاعتذار عن وعد بلفور، الذي أبرمه حُكامهم مع اليهود منذ 100 عام.
في العاشر من يونيو الماضي، انطلق مجموعة من النشطاء التابعين لمؤسسة "اموس تراست" المعنية بحقوق الإنسان، من مدينة الضباب، لندن، في مسيرة انتهت 27 أكتوبر الماضي داخل فلسطين، قبل أيام قليلة من مئوية وعد بلفور.
مازال الناشط الإنجليزي، جاستن بوتشر، يذكر المرة الأولى التي سمع فيها عن تفاصيل القضية الفلسطينية؛ كان ذلك في مهرجان للفنون تم تنظيمه في لندن منذ عدة سنوات "وسمعت فيه العديد من المتحدثين الفلسطينيين عن وطنهم"، وقتها تعرف على أحمد، الشاب الغزاوي، الذي صار صديقه فيما بعد، وأحد نوافذه على القطاع المُحاصر بفعل سياسات إسرائيل منذ عام 2007.
"أردنا خوض مبادرة جديدة ومجنونة لنجذب الأنظار لحقوق الفلسطينيين وتذكير العالم بوعد بلفور الرهيب"، قال بوتشر لمصراوي. لمعت فكرة المغامرة آخر عام 2013، بعدما حضر الناشط صاحب الثمانية وأربعين عاما مهرجانا للسلام في مدينة بيت لحم الفلسطينية، مقترحا على أصدقائه في منظمة "اموس تراست" تنظيم رحلة سيرا على الأقدام، على أن يتتبعوا مسارات الحج التي خاضها الأوروبيون قديما للقدس.
كَبرت الفكرة في أعين المؤمنين بها "لم نجد ميعاد أفضل من مئوية وعد بلفور لتنفيذ ما أردناه" حسب قول بوتشر، لاسيما وأن ذلك العام يوافق الذكرى العاشرة لحصار قطاع غزة، والخمسين لاحتلال القدس في يونيو 1967 "فكأنما أردنا أن نتضامن مع الشعب في نكباته المتعددة"، لكن الخطوة لم تكن لتتم لولا وجود يد تدعم وتخاطر من داخل فلسطين، ليأتي دور مؤسسة "الأراضي المقدسة".
لحظة بلحظة كان إلياس دعيس، مدير قسم السياحة والمعرفة في المؤسسة يخطط مع المنظمة البريطانية للحدث "صار لنا أكثر من عام بنجهز بشكل سري". انتاب أصحاب المبادرة خوف عظيم من "إنه الاحتلال بياخد خبر عن ميعاد وصولهم أو فكرة المبادرة"، ظلت المباغتة رهانهم الأكبر "لأنه الاحتلال لا يمنع عادة الأجانب من الدخول".
في تلك الرحلة رأى بوتشر ومن معه الكثير: عبروا من فرنسا، سويسرا، مقدونيا، اليونان، وأخيرا تركيا، مستقلين طائرة إلى الأردن ثم فلسطين، مروا من جبال الألب، البحر الأدرياتيكي الذي يفصل شبه الجزيرة الإيطالية عن شبه جزيرة البلقان، رأوا مجتمعات اللاجئين وسمعوا حكايات أهلها، غالبهم التعب تارة، والحماس أخرى، عاشوا كأسرة واحدة في ظروف مُرهقة، فيما هم بعيدين عن الأهل والوطن الأصدقاء.
كان بوتشر يعلم جيدا ما هو مُقدم عليه، قرأ عمّا تفعل إسرائيل منذ احتلالها الأرض، لكن وعد بلفور مثّل له دائما نقطة سوداء "ما فعلته بريطانيا خلق الصراع الحالي في فلسطين". في الثاني من نوفمبر 1917 أرسل وزير الخارجي البريطاني آرثر بلفور خطابا إلى المصرفي البريطاني وأحد زعماء اليهود في بريطانيا البارون روتشيلد، يُقدم له كل التعاطف والتضامن مع قيام دولة يهودية في فلسطين، ويطلب منه إبلاغ زعماء الحركة الصهيونية بذلك الدعم الإنجليزي، ما شجّع على هجرة اليهود إلى فلسطين، وأدّى في النهاية إلى النكبة الفلسطينية عام 1948.
السبت الماضي وصل الناشطون إلى معبر الكرامة على حدود مدينة أريحا الفلسطينية، القلوب تدق بعنف والمُحتل يقطع الطريق، أما المنظمون الفلسطينيون فكانوا في الانتظار. "إجراءات دخولهم كانت سلسة،" يحكي دعيس عن الراحة التي لفّت الجميع بمجرد أن خطت أقدام المجموعة للداخل، حينها فقط بدأت جولتهم في مُدن البلد العربي.
رام الله، الخليل، صحراء النقب، حدود غزة وأماكن أخرى زارها النشطاء "لا لشيء إلا لنقول لأهل فلسطين أننا هنا.. أننا معهم ونهتم بقضيتهم.. ولننفض عنّا وعد بلفور المكذوب". مشاعر مختلطة بين فرح وقلق وحزن وارتباك شعر بها بوتشر، ورغم أنها لم تكن زيارته الأولى، لكن المواقف المؤثرة صاحبته على مدار أسبوع.
"مشاعر الناس تجاهنا كانت جميلة.. رأينا الحب والفرح والامتنان لوجودنا.. أحاطنا أهل فلسطين بحسن الضيافة.. كان شيئا عظيما حتى أنه أشعرنا بالتواضع." يذكر بوتشر في المقابل تقاسيم الغضب على وجوه البعض، بسبب استقبال رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، نظيرها الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في لندن، تزامنا مع ذكرى وعد بلفور، بعدما صرّحت أنها "فخورة" بالدور الذي أدّته بريطانيا تاريخيا في قيام دولة إسرائيل.
كان بوتشر على مشارف فلسطين حين سمع وزملاءه تصريحات تيريزا ماي التي وصفها بالـ"مُزعجة ولا تتصف بالحساسية"، لازمه الشعور بالخزي، لكنه تضاعف حينما مرّت المجموعة بمدينة الخليل، وهُناك قابلوا مُزارع فلسطيني "ظل يردد لنا وصوته مرتعش: لماذا هي فخورة لتلك الدرجة؟.. إنها مائة عام من المعاناة والفقد والتشتت"، في تلك اللحظة اقترب مسؤول المنظمة من العجوز، قائلا: "لقد مشينا كل المسافة من الوطن لنقابلك الآن، ونقول لك إننا حقا آسفون"، في اللحظة التالية فاضت عينا بوتشر بالدموع وازداد إحساسه بالعجز.
التجول في مدينة الخليل لم يكن بتلك السهولة، ففيها الكثير من المستوطنات الإسرائيلية "حاول المستوطنون إعاقة وصول المجموعة للخليل" حسبما يحكي دعيس، ومع تفاقم الوضع تحول الاحتكاك لمشادات "سحبنا النشطاء سريعا من المكان وفوتنا من مدخل آخر آمن أكتر".
منذ عشر سنوات تتعاون مؤسسة "الأراضي المقدسة" الفلسطينية مع المؤسسة البريطانية، وكلما أُتيحت الفرصة دعت الأولى الثانية لإحضار مواطنين من جنسيات مختلفة، للتعرف على فلسطين بعيدا عمّا يروجه الإعلام الغربي "بينزلوا في بيوت الناس مش شرط دائما بفنادق.. بيقابلوا البدو.. بيسمعوا عن تاريخنا وكيف احتلت إسرائيل الأرض وكيف حتى بتعاملنا داخل بلدنا"، تلك الأنشطة ليست مُتاحة طوال الوقت "هو أكتر من مرة بيعرضنا لاعتقالات أو سخافات على الحواجز الأمنية لأنه معروف شو بتحاول تعمل مؤسستنا" حد قول دعيس.
خلال الأسبوع الماضي أقام الوفد البريطاني عدة فعاليات، بين الدعم والحديث عن القضية، واستقبال رسائل السكان التي يرغبون في توصيلها للشعب البريطاني "ولم ننسَ كتابة رسالة من فلسطين لرئيسة الوزراء نطالبها بالاعتذار عمّا أبدته من فخر تجاه مساعدة إسرائيل" يقول بوتشر، الذي لم يكتفِ بذلك، بل كان له وللوفد بعد الخروج من فلسطين، الخميس الماضي، خطة جديدة.
اليوم في بريطانيا سيكون للوفد العائد جوّلة جديدة في لندن "نبتغي بها توصيل رسائل الفلسطينيين واستكمال التعريف بالقضية" والأهم هو الاحتجاج سلميا على استقبال نتنياهو "والتأكيد على دعمنا لرفع الحصار عن غزة أيضا". في أعين بوتشر، لا يبدو المشهد قاتما تماما، يُطلق على مسيرتهم إلى فلسطين "محاولة للتكفير والاعتذار وبث الأمل"، ويكفيه سعيه المستمر لنقل ما يؤمن به.
كتب الناشط أربع مسرحيات عن فلسطين، بعضها تمت إذاعته في راديو هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، لا يترك فرصة حتى يحكي عنها، يذوب في تفاصيلها أحيانا كأنها وطنه؛ يذكر حينما وقف منذ يومين على حدود غزة، ناظرا للقطاع "فداخله تسكن عائلة صديقي أحمد الذي يعيش في لندن". استضاف بوتشر والدة أحمد في منزله من قبل وتناولوا الطعام سويا، ولأنه يعلم أن أمنية أحمد الوحيدة هي الدخول لغزة واحتضان أمه، فقد وجد بوتشر نفسه يتصل به قائلا: "أحمد.. أنا الآن عند حدود غزة.. مدينتك ومُخيم جباليا يُرسلون لك كل الحب والسلام".
فيديو قد يعجبك: