رسالة من تحت الأنقاض.. قصة 3 أشخاص مرّوا بين الحياة والموت
كتب- إشراق أحمد ومحمد مهدي:
حملت هند حقيبة يدها، وبينما تغادر الصيدلية، توقفت عند الباب تتبادل الحديث مع رفاق عمل الفترة المسائية، أخذت الشابة تخرج وتعود حتى مازحها زميلها "أنت مش عايزة تمشي ولا إيه". كانت الساعة تقارب الثامنة مساءً حين دبت الحركة في المكان؛ يجلب جورج إسحاق دواء لزبون، وتتابعه المتدربة إيناس غريب لحفظ خطوات العمل، ويكتب أحمد عبد المنعم أرقام الأدوية الجديدة، فيما تترك هند الصيدلية أخيرًا. وما أن صارت خارجها حتى أتبعها صوت مفاجئ، ثم كستها عفرة. انهار العقار. أما الزملاء الثلاثة فباتوا تحت الأنقاض.
قبل عشرة أيام. تحديدًا يوم الخميس 30 نوفمبر المنصرف، انهار عقار مكون من 4 طوابق في ميدان البساتين، في مدينة الخارجة بالوادي الجديد. مرت الواقعة بإصابة 9 أشخاص ووفاة آخر، لكنها ظلت في نفوس أربعة كأنها حلم، غطوا فيه لنحو ثلاث ساعات، ظلوا بها تحت أنقاض العقار، ذائقين طعم الموت، لتوقظهم عناية إلهية بعدما كانت بينهم ونهاية الحياة خطوات.
في شارع النبوي المهندس، وطء أقدام المارة خفيف على غير العادة. "النهاردة مولد النبي إجازة" أجابت هند حين تعجب جورج مدير الصيدلية لقلة المترددين على المكان. بالطابق الثاني للصيدلية يعلو ضجيج طرق "كانوا بيوضبوا عشان بيعملوا مطعم" يقول جورج لمصراوي.
بالظهيرة اشتد الطرق؛ طالب زميل هند بأن تجلس بعيدًا عن لمبة السقف خشية وقوعها عليها، بينما يسترجع مدير المكان مشهدًا شبيهًا قرابة الخامسة مساء ذلك اليوم، مع ابنة الجيران "طفلة بتلعب وتدخل الصيدلية قلت لها حاسبي بيكسروا فوق لأحسن تقع عليكي حاجة".
لم يتوقع المتواجدون في الصيدلية أن ما ارتابوا منه سيصيبهم؛ كانت صلاة العشاء انقضت بنحو الساعة. دلف حسن إبراهيم متولي حاملاً روشتة لشراء دواء، بعدما ترك زوجته ووالدته في السيارة الأجرة "تاكسي". طلب الرجل من جورج "كالسيوم حديد" أحضر له الصيدلي علبة من داخل خزانات في ممر، فالمكان واسع له ثلاث واجهات وبابان وركن مخصص لانتظار الوافدين "يعمل صيدلية لوحدة" وفي الأوقات العادية "بيبقى المكان زحمة موت" تصف هند.
ولأن السؤال عن القدر لا يحاط به خبر إلا في ميعاده. كان ميقات حسن أن ينضم إلى الثلاثي بتلك اللحظة؛ نسى الرجل روشته الدواء، فخرج وعاد بها مرة أخرى، في الوقت الذي مرت هند إلى الخارج راحلة، وانضمت إيناس إلى زملائها، وصاروا جميعًا في ركن واحد "مع أن في الغالب كل حد فينا في الوقت ده بيبقى بيعمل حاجة في حتة مختلفة" كما يقول جورج، الذي ما إن وضع علبة الدواء على ماكينة التسعير، حتى صاحبت صوتها "قرقعة" تأتي من الحائط. ولم يكتمل ظن الصيدلي بأن "في حد بيخبط في حاجة ووقعت" حتى انقلبت الدنيا في الأرجاء.
غبار يغلف الصيدلية، توقف الزمن عند الثامنة وخمس دقائق، بات الصراخ كأنما أحدهم اختار له خاصية الصمت، لم يسمع الثلاثي شيئًا، فقط سقطوا أرضًا "زي مشهد فيلم نهاية العالم.. الحيطة وقعت كأنها اتنت علينا" يصف جورج الأجواء التي اُحتجزوا فيها تحت أنقاض العقار المنهار.
وجد الصيدلي نفسه بين مكتبٍ وعمودٍ. يده وقدمه اليسرى مثبتتان أسفلهما، وعبد المنعم مهندس الميكانيكا الذي كان يدخل أرقام الأدوية ظل في جلسته لكن الانهيار شج رأسه، أما إيناس، المتدربة في الصيدلية منذ أسبوعين، فارتطم بها حائط غير أنها كانت الوحيدة حرة الحركة، ومع ذلك خشيت أن تتحرك في البداية "لحسن حاجة تقع علينا"، فقط بأيديهم راحوا يزيحون الزجاج، فيما تسمرت أقدام هند على أعتاب الصيدلية المنهارة، قرابة الساعة في صدمة "لا بعيط ولا سامعة حاجة وكلي تراب"، وما إن أدركت؛ أخذت تصرخ "صحابي جوه".
تحت الركام، ظل أصحاب الصيدلية منتبهين للوقت عبر هواتفهم التي ظلت تعمل، فاستأنسوا بأنوارها، وأمنوا خوفهم باتصال أجراه عبد المنعم بصاحب الصيدلية "هو الوحيد اللي كان يقدر يعرف احنا فين بالظبط في المكان"، وكذلك أخبرت إيناس والدتها بما جرى قبل أن ينقطع عن هاتفها الإرسال.
في بادئ الأمر. كل تفكير هو للموت أقرب "من أول لحظة كنت بفكر أني مش هطلع" لا يعلم جورج لهذا سببًا لكن حينما كانت تنهار إيناس يُكرر على مسامعها يقينه بأنها وعبد المنعم سينجيان، بينما انفلت عن الطبيبة المتدربة تصديق ذلك بداية، لاسيما بعدما سألت جورج عن عدد طوابق العقار "قلت يعني هم هيخلوا 4 أدوار كده يبقى مش أقل من أسبوع لما يعرفوا إننا هنا".
كم لبثوا؟! ساعة أو بعض ساعة؟ كانت اللحظة تمر كأنها الدهر، الصمت يرنو بينهم لدقائق، تدق الأسئلة على الرؤوس، إلى متى يمكنهم الصمود؟ لماذا لم يسقطوا حين انهار المبنى؟ حكمة الخالق في أن يرتكن كل منهم في الحيز المتاح للحياة بين الأنقاض "المكان الوحيد اللي كنا فيه، اللي موقعش فيه السقف، فضل متعلق عشان العمود والتكييف".. تذكرها "إيناس" بوجل.
جورج غارق في تأمل مسألة تبدو لرفاق الأنقاض صغيرة. في الصباح اضطر إلى ارتداء حذاء يكرهه "الجزمة دي بتضايق رجلي" لكنها الأنسب لـ "البلوفر الأصفر اللي كنت لابسه"، خرج من منزله بمزاج غير رائق بسببه. ما علاقة الحذاء بما يدور أسفل الأنقاض؟ "لقتها هي اللي حايشة الحيطة اللي واقعة عليا!".
من أعلى تأتي أصوات رجال الحماية المدنية يبحثون عن الناجين، فيما يلجأون هم إلى الدعاء، لا يملكون غيره بعد أن غمرهم العجز "ماكنتش عندي مخاوف أكتر منه إحساس بيارب اغفر لنا" تُردد إيناس "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" يُصلي جورج "ربنا خلقتنا فتقبلنا.. يارب سامحني" بينما يلمح أحمد المُصحف أمام عينه فيتلو ويستزيد علّ الطمأنينة تسكن قلبه "تذكرت الثلاثة الذين وقعت عليهم الصخرة وقالوا لن ينجينا من هذا إلا أن يتضرع كل منا إلى الله".
محاولات الإنقاذ مستمرة "كنا سامعينهم كويس، بيتناقشوا إزاي لما يشيلوا الردم ميأثرش علينا جوه" الساعات تمر، لم يُسمع صوت لحسن -صاحب الروشتة- العقول استنزفت مشاعر الرُعب والأسئلة والدعاء، حلّ الملل، يقول جورج "واحد صاحبي اتصل بيا بيسألني إنت فين، قولتله إحنا قاعدين بنقزقز لِب".
تمكن رجال الحماية المدنية من عمل فتحة للمنطقة التي يقبع فيها الثلاثة "أول ما شوفتهم قولت الحمدلله موقّعوش الهدم علينا" التقطها أحد المُنقذين، أنفاسها تتصاعد، تخرج من رحم الأنقاض إلى الدنيا من جديد زحام شديد، رجال أمن، سيارت إسعاف، وأمها تهرول ناحيته بقلب مُتعب من القلق " كانت منهارة، كل ما أتخيل إحساسها كان صعب".
يُكمل المُنقذون عملهم، أخرجوا "أحمد" من الأنقاض، حاولوا مع "جورج" لكن وضعه أسوأ "رجلي كانت مزنوقة تحت كمر الحيطة" فشلوا في انتشاله من بين الأنقاض، التوتر يملأ الوجوه، جاءوا بحدّاد للتعامل مع الموقف، بدا قلقًا والوضع أكبر من قدرته، فقد الطبيب الأمل في النجاة "قولتهم خلاص اطلعوا أنتم، رجلي مش هتطلع غير بالقطع" رفض رجل الحماية المدنية "قالي يا نطلع احنا التلاتة يا منطلعش".
بصعوبة قطع الحداد جزءًا من "الكمر"، حاولا تخليص قدم "جورج" لكنهما فشلا، لم يعد هناك حل سوى رفع باقي الجزء من الحائط بأيديهم "ماعرفش عملوها إزاي، قمت شديت رجلي على طول" لم يقوَ على التحرك، فأمسك به رجل الإنقاذ "وراح شدني لبره".
في الخارج، كانت إيناس بين يدي أمها تبكي "لو حد حكالي اللي حصل هقول فيلم ومبالغ في القفلة" أحمد يُنقل إلى المستشفى للتعامل مع إصابته في رأسه، فيما يطالب "جورج" رجال الإنقاذ بالبحث عن آخر المتواجدين بالصيدلية "كنت متأكد إن حسن مات، بس قولت جايز يبقى عايش زينا".
مكث "أحمد" و"جورج" لمدة يوم داخل المستشفى للاطمئنان على حالتيهما، ثم خرجا في اليوم التالي للحادث، فيما قضت "إيناس" ليلة صعبة بين النوم والاستيقاظ غير مصدقة ما جرى، في الوقت الذي تستقبل فيه "هند" زيارات من أفراد أسرتها لدعمها نفسيًا.
نحو 180 دقيقة، مرت على الثلاثة داخل الأنقاض قبل أن تُكتب لهم النجاة، فيما رحل حسن "العابر". 3 ساعات تمر كل يوم في المواصلات، أو متابعة مباراة، أو مشاهدة فيلم، أو الانتظار في عيادات الأطباء دون أن يتغير شيء. لكن كان لهم وقع آخر على الناجين من الموت.
"فكرت قد إيه الحياة ممكن تخلص في ثانية، وإنها قصيرة مش زي ما الواحد متخيل" تقولها إيناس بأسى، فيما يتعجب جورج من فعل القدر "كنت ناوي أسيب الصيدلية الشهر ده.. آديني سبتها لكن في الوقت اللي اتحدد له مش اللي كنت مخطط له" بينما توقن هند أن "اليوم ده مش هنساه طول العمر".
فيديو قد يعجبك: