حكايات عن "جدعنة" الروائي مكاوي سعيد
كتب- محمد مهدي:
في أحد مقاهى وسط البلد يجلس منشغلًا بصحيفة يقرأها باهتمام، أو طعام يتناوله ببطء بينما يتحدث إلى أحد رفاقه بحماس، أو منهمكًا في قراءة كتاب يغوص بداخله فينسى الضجيج من حوله. هيئته وابتسامته تقول إن هذا رجل مُحب للشارع والناس، لذا ما أن أُعلن وفاة الكاتب الكبير "مكاوي سعيد" زلزل الخبر أحباءه ورفاقه وأيضًا من تعرفوا عليه في مواقف إنسانية لم تُمحَ من ذاكرتهم.
"فاكر موقف معاه عمري ما أنساه أبدًا" يقولها المصور "إسلام أسامة" إذ يتذكر ما جرى العام الماضي، حينما اقترب من مقهى زهرة البستان مهرولًا، يحمل في يديه بدلة اشتراها قبل دقائق لحضور حفل توزيع جوائز مصطفى وعلي أمين، بعد أن اختيرت صورته للناشطة الراحلة "شيماء الصباغ" كأفضل صورة في العام. مر على الأديب السيتيني دون أن يراه لكن الأخير كان يتابعه.
داخل المقهى العتيق، ارتدى "أسامة" البدلة في عجالة "كنت متسربع وعايز ألحق الحفلة" نظر إلى المرآة فتذكر شيئًا هامًا "مكنتش لبست الكرافتة" لم يكن يعرف كيفية التعامل معها "ناديت عم نصر اللي ماسك القهوة، قالي مش بعملها كويس" ليفاجأ باقتراب الروائي الكبير منه.
كأب حنون، رغم عدم وجود معرفة سابقة بين "سعيد" والمصور، ساعده على إنجاز المهمة الصغيرة الهامة في هذا التوقيت "تطوع من نفسه وقام عملهالي" شعر أسامة بالامتنان، شَكر الرجل "معلش تعبتك معايا" ليرد الأخير بابتسامة ويتركه ليذهب إلى الجائزة.
يبدو الموقف عابرا وبسيطا، لكنه ترك أثرًا كبيرًا في نفس "أسامة". اليوم حين استيقظ على خبر وفاة "سعيد" أصابه الحزن، وعادت إلى مخيلته الذكرى الجميلة فدعى للروائي بالرحمة وأن يلقى مقابل مواقفه الطيبة خيرًا.
في أشد الأوقات كآبة، بحثت "ياسمين سعد" عن ملجأ من الأحزان، لم تجد سوى هذا الأديب الراقي يقف بجوارها دون مُقابل "اتعرفت عليه عن طريق صديقة، هو كان دايمًا راجل مبتسم وبيشجع الكُل" فوجئت به بعد كتابتها لموضوع صحفي عن حادث شهير بدعمها والإشادة بالقصة وطرح فكرة لم تكن في بالها.
اقترح سعيد على الصحفية الشابة أن تحول تلك القصة إلى رواية "قالي إنتي كاتبة كويسة والنص دا يصلح يتحول لعمل مهم" انتشلتها تلك الكلمات من اكتئاب كاد يعصف بها. لم يكتفِ بالكلمات الطيبة "لقيته بيساعدني باهتمام ويقولي أبدأ إزاي في الشغل على الرواية".
علمها الأديب الخبير بدروب الرواية "إزاي أعمل بحث الأول، وأيه أساسيات الرواية" ثم تابع معها يومًا بعد يوم نتائج المناقشات المطولة بينهما، يقرأ ما تكتبه "حرف حرف بدون ملل" يُملي عليها نصائحه دون وصاية "كنت بستغرب لأنه مش مستفيد بأي حاجة.. بيعمل كدا عشان أبقى كويسة وبس".
قطعت شوطًا كبيرًا في الرواية، لكن كيف ترى النور و"سعد" لا تفقه الكثير عن عالم دار النَشر ودروبه "كلملي دار نشر وأقنعهم بنشر الرواية" لم تتوقف محاولاته في المساندة عند تلك الخطوة "كان بيتابع معاهم عشان الرواية تلحق معرض الكتاب" شعرت الفتاة أن كل هذا الاهتمام أنقذها في فترة صعبة من حياتها.
منذ أسبوع كان الاتصال الأخير بين "سعد" وسعيد، اتفقا على اللقاء قريبًا لكن القَدر لم يسمح لهما بإتمام موعدهما "صحيت على اتصال من صديقة بتقولي الخبر، مكنتش مصدقة" صدمة لم تقدر على استيعابها سريعًا، غير أنها لململت أحزانها وانطلقت سريعًا للحاق بجنازته.
هكذا كان يُعامل الرجل كل من يلتقيه. بلُطف واهتمام ومودة، يشهد على ذلك الكاتب "مصطفى الأعصر" الذي تأثر بخبر الوفاة. يروي لمصراوي كيف أجرى معه حوارًا صحفيًا بانسيابية وعفوية، وأنه خلال الحديث تطرق الشاب إلى تعثره في إتمام روايته الأولى ليرد سعيد "اكتب وخلص ونتقابل نقرا اللي اتكتب ونتناقش فيه".
أبدى الأعصر تخوفه من عدم الحصول على فُرصة بعد إتمام روايته، ليطمئنه سعيد كما فعل مع "ياسمين سعد" إذ وعده بتوفير فُرصة في دار نشر جيدة "قالي خلص انت كتابة وملكش دعوة بالنشر".
الناس تبحث طوال الوقت على الاهتمام، وهو أمر صار نادرًا، لذا كانت مواقف "سعيد" مؤثرة في أرواح من يلتقيهم "افتقدنا إنسان في غاية النُبل والجمال بموته" يترحم الأعصر على أيام الأديب الكبير متمنيًا أن يُحقق له أمنيته بتحويل روايته لأفلام.
فيديو قد يعجبك: