في حادث الروضة.. فريج أنقذ ابنه من الموت رغم فقدان البصر
كتب - أحمد الليثي ودعاء الفولي:
في حادث الروضة تفاصيل دُفنت مع الشهداء، وأخرى محفورة بقلب الذين نجوا من الموت. ذاكرة بصرية ستظل حية شاهدة على المسلحين، طلقات الرصاص، الدماء، والذُعر في الوجوه، غير أن أحدهم تواجد داخل المسجد ولم يرَ شيئا، احتشدت الأصوات في أذنه لدقائق، ربما تمنّى عودة فريج وقتها ألا يكون كفيفا، أن تلتقي عيناه بوجه قاتله، لكن بحر أفكاره انقطع حين أردته رصاصة في الرأس، فيما ابنه محمد ذو الثماني سنوات بين قدميه.
داخل تلك البقعة المتواضعة، ذات الوسائد المتراصة فوق الرمال، لم يزل طيف عودة فريج هناك، رغم أنه فارقها الجمعة قبل الماضية برفقة أكثر من 300 آخرين. سيرته العطرة تطوف ألسنة الجلوس، ومواقفه محفورة في الأذهان. يحكي زيد محسن، ابن شقيقه، والأقرب إلى قلبه كيف كان الشيخ صاحب الـ65 عاما ضحوكا، حكاءً، أُخذت منه نعمة البصر فأفاض الله عليه بذاكرة تحفظ الأحداث وتفاصيلها بالهمسة "كان يحكي لنا تاريخ البلد ومشايخها ويعرف فيها دبة النملة".
كُفّ بصر "فريج" وهو ابن الواحدة والعشرين، لكنه لم ينس يوما ما اعتاده في شبابه "كانت غيته يطلع النخل ويجمع البلح من الجريد أحسن من أجدعها واحد.. ويقولنا أبويا علمني كدة وأنا مش هنسى فضله"، يقول ابن شقيقه وهو يشير إلى جذوع النخل التي شهدت على جرأته.
ظل العجوز مداوما على مسجد الروضة لا يبرحه مهما تبدلت الأحوال "وقت الثورة كانت الدنيا مقلوبة عشان الجامع على الطريق الدولي ومكنش يهمه"، في الموعد لا يفوته فرضا، كيلو كامل يسيره من منزله حتى "الروضة"، حتى حين أعياه المرض وذبل جسده قبل ثلاثة أشهر كانت دعواه الدائمة "يا رب عافيني وأقدر أقف بين أيدك في بيتك"، لذا وقتما بدأت الدموية تعاود وجهه وأعانته قدميه على السير مجددا كان بين صفوف المصلين لا يفارقهم يوما.
رُزق "فريج" بأربع بنات، فيما ظلت دعوته الأثيرة أن يجد في الدنيا سندا بالولد، ولما حضر محمد إلى الدنيا شعر أن بصره لم يُسلب "كان بياخده معاه كل حتة ويقول ده حتة مني"، لذا حين هاجم المسلحون مسجد الروضة أجلس فريج صغيره في حجره، صنع من جسده "كماشة"، همس في أذنه "متخافش أنا معاك"، دقائق مرت على الصغير كالدهر، خلا وجهه من دماء وظل متشبثا بيد والده، فيما أنهى رصاص التكفيريين تلك الوصلة بين الأب وفلذة كبده، بكى الولد كأن لم يبك من قبل وظلت عيناه ذاهلة وهو يشاهد الدماء تنسكب من جسد "فريج"، فيما كان القدر رحيما به، إذ أفلحت حيلة والده في إنقاذه.
حينما تشرع حنان-الابنة الكُبرى لفريج- في الحديث عن واقعة المسجد، تُشيح شقيقتها سلمى بوجهها بعيدا، كأنها تنفض عنها تفاصيل اليوم "سمعنا صوت ضرب.. ضل يخبط ييجي نص ساعة إحنا مفاهمينش في إيه"، همّت الفتيات الأربع ووالدتهن بالخروج "أول ما طلعنا على الشارع لقينا رجالة بتجري وبيشاوروا لينا ارجعوا"، احتمين داخل البيت وما أن مرت دقائق "لقينا أخويا محمد جايب شبشب أبويا وجاي جري وبيقول أبويا مات".
انفضت المذبحة، ومحمد صاحب التسع سنوات، يرقد الآن مصابا بطلقة في الكتف الأيسر بمستشفى الإسماعيلية الجامعي. "الضابط داس على رجلي وقاللي أمشي من هنا"، يرددها في براءة حين يسأله الأطباء عن سبب الزرقة في قدمه اليمنى، معبرا عما جرى له من أولئك المرتدين ملابس تشبه ما يرتديه جنود القوات المسلحة، ويحكي كيف أفلت من يد الإرهابي الذي قتل والده وتركه يمر في سلام.
في فناء بيت فريج الفسيح، جلست حنان إلى أبيها مرارا، تحدثه عن حلمها باستكمال التعليم، فيبادرها سريعا "بس تدخلي كلية تربية"، تبتسم الفتاة ذات التسعة عشر عاما لوالدها الكفيف، تخبره أنها ستعطيه شهادة التخرج يوما ما ليفخر بها بين أهالي قرية الروضة، لكنها لم تعلم أنه سيقضي شهيدا داخل المسجد.
حنان هي الأخت الكبرى لسلمى صاحبة الـ17 وسارة ذات الـ 15، والصغيرة هويدا. في البيت الذي طالما شهد ضحكاتهن مع الأب الراحل، ارتكنت الفتيات الثلاث للحائط، اتشحن بالسواد، بجانبهن بعض نساء العائلة، فيما غابت الأم بصحبة هويدا بمستشفى الإسماعيلية لترافق الأخ الأصغر بعد نجاته.
"أبويا كان حنين أوي وبيحب الهزار".. تطلق سلمى زفرة قبل أن تقول الجملة، ثم تتبعها حنان بقول "عمره ما عزّ عننا حاجة"، عندما طلبت الأخيرة منه الذهاب إلى بئر العبد يوميا لحضور الدروس الخصوصية وافق على الفور "كان بيقولنا لازم تتعلموا وتبقوا حاجة".
لم يستكمل فريج تعليمه "كان معاه الإعدادية" حسبما تروي حنان، لكنه كان "لافف الدنيا وعارف كل حاجة". لم يمنعه عجز البصر عن التحرك بحرية، طالما كره أن يساعده أحد حتى في المنزل، فمنذ فقدان البصر في الواحد وعشرين "وهو بيحاول يتعكز على نفسه بس"، تروي سلمى أن ذلك حدث بعدما تعثر في لغم من مخلفات الحرب.
كان فريج فقيرا، من رجال الله، لم يكن لديه عملا ثابتا، غير أن الرزق يأتيه دون حساب، لم يشغل باله يوما بمتاعب الناس وتفكيرهم المتواصل خلف مظاهر الدنيا "كان بيقول طول ما اللي فوق موجود أنا مش شايل هم" يتذكر زيد وهو يحاول تخيل مفارقة عمه للحياة.
بعد الفاجعة لم تتمكن الفتيات الثلاث من الذهاب للمسجد "الرجالة قالولنا بلاش تشوفوه"، علمن أنه دُفن بذلك الجلباب الذي طالما فضّله يوم الجمعة "كان لازم يلبسه ويتطيب ويروح بدري قبل الصلاة بساعة". ذهب الرجل وبقيت ذكراه عطره في قلوب بناته، تحتفظ حنان بعهد استكمال دراستها "مستنيين أما يفتحوا المدارس تاني"، لا تهاب الذهاب هي وأخواتها رغم ما حدث "أنا وسلمى عايزين ندخل تربية" تقول الشقيقة الكُبرى، فتقاطعهم سارة بحماس "وانا هذاكر وأدخل معهد فني صحي".
رحل فريج وهو لم يستطع الهرب ببصر مفقود، ظل مستمسكا أن يبقى ولده حيا، شاءت الأقدار أن تتحقق أمنيته، فيما لا تزال بناته بلا عائل، يبكين الأب الودود والسند الذي غاب، راجين من الدنيا أن تخفف وطأتها عليهن.
فيديو قد يعجبك: