ثلاث حكايات من سجن "بوسليم".. ثورة ليبيا من الشرارة للانطفاء
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
كتبت- دعاء الفولي:
لم تبدأ تظاهرات السابع عشر من فبراير في ليبيا من فراغ. كانت نتيجة حتمية لما عاناه الكثيرون. إلا أن ما رآه أهالي معتقلي سجن "بوسليم" ظل الأسوأ، ففي عام 1996 تم تصفية ما يزيد عن ألف مسجون داخله. ورغم خطر مُحدق خيم على من اختاروا النزول عام 2011، لكن الثورة أعطتهم أملا في محاسبة المسئولين عن قتل أبنائهم. وبعد ست سنوات، تظل ذكرى الهتافات حاضرة في أذهان ذوي الضحايا، فيما لم يتزعزع أملهم بالثورة، رغم سوء الأوضاع بوطنهم.
أول الحكاية
يذكر إدريس إدريمك شهر يونيو من عام 1994 كأنه أمس. حين داهمت قوّات الأمن منزلهم بإجدابيا للقبض على أخيه "محمد" دون إذن قانوني. وقتها كان الشاب ذو الـ25 عاما يؤدي الخدمة الوطنية التي تؤهله للعمل "كان باقي له أسبوعين ويخلصها ويبدأ حياته"، ولأن الأسرة لم تعرف للسياسة طريقا من قبل، فقد أفزعهم ما حدث، لكن الضباط قالوا لهم: "هنحقق معاه ونرجعه".
بدأت رحلة البحث عن الأخ من اليوم التالي "تم ترحيله على سجن الشرطة العسكرية في بنغازي"، حتى تلك اللحظة لم يكن ثمة معلومات عن سبب الاعتقال سوى "إنه كان بيصلي مع الناس في المسجد"، قبل ان توجه له اتهامات فيما بعد؛ هي التآمر على الحاكم وتكفيره، وقلب نظام الحكم.
"اتنقلوا سجن بوسليم فجأة، ما نعرف ليش".. يُعرف السجن الموجود في العاصمة طرابلس، والمُنشأ عام 84 كمقر للشرطة العسكرية، غير أنه اسُتخدم فيما بعد لاحتجاز سجناء سياسيين. لم يكن إدريمك متيقنا من نقل أخيه، ذهب للسجن مرارا ليسأل فأتاه تهديد واضح "إذا ما تروّح نموّتك"، غير أن الأخ المكلوم اعتاد قطع مسافة 1000 كيلو متر من إجدابيا إلى طرابلس ليحظى بنظرة على أخيه.
خلال الأعوام التالية باءت كل محاولات إدريمك لرؤية شقيقه بالفشل "إلى أن وردتنا أخبار عن مذبحة تم تصفية معتقلين سياسيين فيها داخل السجن". جن جنون العائلة. صار أي خبر بمثابة طوق نجاة. ومع الضغط المتزايد من قبل أهالي المعتقلين، فتحت إدارة سجن بوسليم الزيارات لتؤكد كذب ما يُقال "مكانتش زيارة باش نشوفهم ولكن فقط نعطي أكل وبطاطين للحراس عشان يوصلوها لإخواتنا.. كأنهم عايشين بالضبط".
عشش الأمل في نفس إدريمك كالآخرين "كنا نقول ليش النظام يقتل المعتقلين؟ كنا نقول مهما كان القذافي ولي أمر ليش يعمل كدة في المواطنين؟"، لكن خروج أحد زملاء أخيه في السجن غيّر مجرى الأمور، إذ احتضن إدريمك مُخبرا إياه بوفاة أخيه ومن كانوا معه في القطاع الرابع بالسجن.
بعد أيام من رواية السجين السابق، أُبلغ إدريمك من قبل الأمن الداخلي بموت أخيه، وحينما ذهب للسجل المدني لاستلام شهادة الوفاة "وجدنا مكتوب فيها إنها مات بمستشفى طرابلس وإني أنا اللي دخلته المستشفى، كأنه مات بحوش منزلنا". حل الغضب مكان الحزن في قلب الأخ والعائلة؛ بدأت علاقتهم بأسر الضحايا الآخرين تتسع، كوّنوا رابطة لأهالي ضحايا "بوسليم" وظلّوا يخرجون في وقفات احتجاجية شبه أسبوعية حتى دقت ساعة الثورة.
كان الأمن يُتيح مساحة ضيقة من حرية الرأي أمام أهالي قتلى "بوسليم" كمُتنفَس للغضب، إلا أن ما حدث في خميس السابع عشر من فبراير 2011 كان مغايرا "أهل إجدابيا شاركونا المظاهرات، معادش الأمر يخصنا وحدنا". اشتعلت الأحداث بعد القبض على محامي الرابطة، فتحي تربل، في 15 فبراير. الهتافات ترن في أذن إدريمك حتى الآن "ما نبغوش فلوس.. نبغوا محاسبة السنوسي.. ما نبغو إعانة.. نبغوا حق ضنانا"، فيما صورة أخيه وهو مُكبل على باب منزلهم تراقصت أمام عينه "كانت تلك المرة الأخيرة التي رأيته فيها".
الأمل صاحب إدريمك وباقي الأهالي "اعتقدنا إنه هيتم محاسبة المسئولين عن المجزرة.. بعد ما شوفنا جمال الثورة كنا نبغوا العدل". أيقن الرجل الأربعيني فجأة أن الثورة أنقذتهم من حبال اليأس الملتفة حولهم.
خطابات ومقابلة أخيرة
مرّت سنوات الثورة دون إجابات شافية. لم تتوقف خلالها محاولات ذوي الضحايا؛ بين مؤتمرات، وقفات احتجاجية أمام مكاتب المسئولين، وتظاهرات، وقضايا مرفوعة مازالت في عنق القضاء الليبي إلى الآن.
خوف النظام الحاكم من أهالي الضحايا ظهر جليّا منذ لحظات الثورة الأولى. حسبما يقول جمعة قادربوه، الذي قُتل أخيه محمد في "بو سليم". يذكر حين اتصل به أحد مسئولي الحكومة، يطلب منه والآخرين إرجاء التظاهرات وتهدئة الناس في 18 فبراير، مقابل تنفيذ جميع مطالبهم "قاللي أي شيء تبغوه.. مناصب، ملايين، أي شيء بس ما تزيدوا في الاحتجاج". كان التفاوض مع الدولة لن يفضي لشيء في رأي الأهالي، لاسيما وأن الشرطة قتلت عدة متظاهرين في اليوم السابق "صار بينّا وبينهم مش دم إخواتنا فقط، لكن الناس اللي خرجوا أيضا".
تتشابه قصة القبض على محمد قادربوه-24 عاما حينها- مع قصة محمد إدريمك، حتى أن الاثنين من محافظة إجدابيا، غير أن جمعة تسنّى له رؤية أخيه عدة مرات قبل نقله لـ"بوسليم". آخرهم في سجن الشرطة العسكرية في بنغازي "كان شكله مبسوط عكس المرة اللي قبلها اللي كان مضروب فيها ومتعذّب".
طمأن الشاب الراحل أخيه وأبيه في تلك الزيارة "قاللي بس حُط أبوك في عينك وحكى إنه حفظ القرآن وبيحفظ أحاديث". ودّع الرجلان السجين على أمل بتجدد اللقاء، قبل أن يتم نقله للسجن سيء السمعة في طرابلس.
عندما أعلنت الدولة أن مساجين القطاع الرابع في "بو سليم" أحياء، جهّز الأخ قادربوه مؤونة تكفي شقيقه مترددا على السجن لعدة أشهر "كنا نعطيلهم شاي وسكر وبطاطين ورز وكنّا نجيب السحلب اللي أخوي يحبه عشان يشربه مع صحابه لأنه كان يطلب منّا هاي الأشياء وهو في بنغازي. محدش فينا كان يبغي يصدق إن ولادنا ماتوا".
لم تتيقن العائلة من الوفاة التامّة حتى أبلغهم الأمن أيضا عام 2009، إلا أن شهادة الوفاة لم يُكتب فيها سبب الموت. بعد الثورة علم قادربوه التفاصيل "سجين سابق بالعنبر المقابل لأخي حكى إن العساكر رموا الرصاص عشوائيا، وفيه ناس اتصابوا لكنهم ماسابوهمش فضربوهم عشان يموت الكل". حصل الأخ وغيره على محاضر التحقيق مع ذويهم "وكيف كانت هزليه باش يلبسوهم تهم وخلاص"، رفعوها في وجه مؤسسات الدولة بعد رحيل معمر القذافي لكن لا حياة لمن تنادي.
"نحنا عارفين اللي قتل ولادنا بالسجن.. عارفينهم بالاسم وبعضهم يعيش وسطنا".. يقول إدريمك وقادربوه، لكنهما كآخرين، أبوا اتخاذ طريق الثأر المسلح. مازالوا في انتظار قصاص القضاء الذي لم يُفعّل "فيه مماطلة من الإدارات في المحاسبة رغم أن بعض رؤوس النظام محبوسين بالفعل".
عبد الله السنوسي هو أحد رموز النظام الليبي السابق ويواجه حكما بالإعدام في ليبيا، وكان رئيس المخابرات العسكرية في عهد القذافي. وهو أحد المسئولين عن مجزرة سجن "بوسليم" التي راح ضحيتها زهاء 1200 شخص، بعد عصيان مدني قام به المساجين للمطالبة بظروف أكثر آدمية من طعام، وتريّض، وتوقف عن التعذيب.
لم يخرج قادربوه في الثورة لإسقاط نظام القذافي. كان مبلغ أمله محاسبة القاتلين، ووقف آلة القمع المستشري في السجون على أقصى تقدير. أراد معرفة مكان جثمان أخيه، لربما يستطيع دفن رفاته مع الوالدة ووالده الذي توُفي عام 2003 بعد جلطات متكررة حزنا على ضياع ابنه الأكبر.
انتشار الميليشيات وسوء الأوضاع الأمنية بليبيا أخّر مطالب أهالي ضحايا "بوسليم" حتى الوقت لحالي، رغم ذلك فنشاط الرابطة مستمر؛ بين لقاءات، احتجاجات، أنشطة إلكترونية للتذكير بالراحلين "يوم من الأيام هناخد حق المظلومين.. حتى لو الأمل ضعيف".. هكذا يظن قادربوه وإدريمك.
"الثورة مازالت حيّة"
لم يعترف نظام القذافي بشكل مباشر بقتل المحبوسين، إلا بعد عام 2008، حينما تهافتت الاتصالات الأمنية على الأهالي لاستلام شهادات وفاة أبنائهم، وبالتوازي تم عرض ديّة مقابل التنازل عن مقاضاة الدولة أو الوقوف ضدها، ووصلت المبالغ المعروضة حينها إلى 200 ألف دينار ليبي.
عائلة نجيّة عمر كانت ضمن من رفضوا الحصول على أموال "يعطونا أموال باش نسكت على مقتل أخوي؟ اتجننوا باين في عقولهم". تتذكر السيدة الأربعينية تلك الفترة جيدا، فقد تابعت نشاطات الرابطة في إجدابيا، وانضمت للتظاهرات من مدينة طرابلس في فبراير.
الصادق عمر القشطي هو اسم الأخ الأكبر لنجيّة. اُعتقل في أغسطس 1994 وعمره 28 عاما. مرّت عائلته بكل الشكوك والحزن الذي ألمّ بالآخرين حتى التأكد من وفاته عام 2003 "شهادة الوفاة زُيفت وكتب فيها أنه مات بتاريخ مارس 1996". ثورة الأخت بدأت من أمام سجن "بوسليم"، إذ تعرّفت على باقي الأهالي "احنا حماية بعضنا، بدأنا الثورة سوا ولسة بنكمل".
يوم القبض على شقيق نجية، أخذت قوّات الأمن ثلاثين آخرين من رجال المنطقة. صارت بيوت الجيران ملأى بمرثيات متباينة يشترك فيها اسم "بو سليم"، حيث لم يخرج أي شاب منهم حيا بعد تلك الليلة.
"لا أندم أبدا على المشاركة في الثورة.. ربما هي أفضل ما فعلناه منذ اسُتشهد أخي"، تقول نجية عمر إن الانتقادات التي تُوجه لأهالي شهداء بوسليم، لأنهم بدأوا شرارة الأحداث، ليس لها محل في الحسبان "الثورة كانت جاية جاية.. احنا فقط عجّلنا بها".
ست سنوات ولا تكشف أحداث ليبيا عن مستقبل أفضل لأهالي الضحايا. ورغم اقتحام سجن "بوسليم" في أغسطس 2011، وإخراج المساجين السياسيين، إلا أن الظلم الواقع على ذوي المقتولين لم ينقشع، وفي المقابل تستمر أحاديثهم عن ذويهم "هي مسألة مبدأ ووفاء لأهالينا"، حسبما يؤمن إدريمك، فيما يدرك قادربوه أن الثورة في حد ذاتها مكسب، وإن حققت جزء بسيط مما تمنّوه.
فيديو قد يعجبك: