"ديدي في البحاروة".. ألمانية وضعت قرية مصرية على خريطة التعليم
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
كتبت- دعاء الفولي وإشراق أحمد:
تصوير- كريم أحمد:
كما يفعل الرحالة القدماء اتخذت جوار نهر النيل مستقرًا لها. لم ترد السياحة وهي الأجنبية القادمة من ألمانيا لتزور مصر لأول مرة؛ بحثت عن البسطاء، الأبعد عن العين، لمساعدتهم مثلما فعلت في كل بلد هبطت إليها، لتجد مبتغاها خارج حدود القاهرة بنحو أكثر من 75 كيلو مترًا.
في بقعة نائية بمنطقة العياط –الجيزة- لا إحداثيات لها على الخريطة، قررت ديانا ساندور أو "ديدي -كما يناديها الأهالي- البقاء في عزبة "البحاروة" منذ ستة أعوام. بَنَت منزلاً، فتحت أبوابه للصغار خاصة والكبار، جعلته المدرسة التي يحتاجها الناس، هجرت كل شيء لترى التعليم يجري في نفوسهم مجرى الدم، فصار بيتها متنفسًا للعائشين في دائرة النسيان، حتى أن مدرسة "نهر النيل" أضحت إحداثية وجود "البحاروة" على خريطة الوصول للقرية.
بوجه صبوح، تتجول "ديدي" بين بيوت "البحاروة" البسيطة ذات الطابق الواحد، تنتظر الغرباء القادمين بالتلويح والترحاب كاستقبال الهابطين لتوهم من طائرة. تضحك بينما تصف حال انتظارها على الطريق بإنجليزية غير أصيلة "هذه ملابس العمل وشكلها ليس جيدًا" تقول لمصراوي، تفتح ابنة ألمانيا باب البيت المزين بالرسومات كأنما تفتح باب جنتها، تُشير بيديها للداخل فيما تعلو شفتيها ابتسامة وهي تقول "كل هذا للأطفال".
قبل عام 2011 بقليل استقرت "ديدي" في مصر، قررت أن تبدأ مشروع لمساعدة الناس "سألت أصدقائي عن أماكن ليست في القاهرة لكنها قريبة لأستطيع إحضار المتطوعين فيها". وقع الاختيار على "البحاروة". بصحبة بعض المصريين طافت السيدة الستينية القرية "كان أكثر ما يفتقده الأهالي هو التعليم.. لم يكن ثمة مدارس هُنا".
بينما تقترب "ديدي" من حجرة مخصصة لتعليم الصغار، حضرت سماح سعد. على استحياء تتقدم ابنة الحادية عشر ربيعًا، وما أن رأتها السيدة حتى احتضنتها وهي تقول "إنها مُدرّسة.. تعلم الأطفال أ ب"، فتبتسم ذات الجسد الضئيل خجلاً. في الصف الرابع الابتدائي تدرس الفتاة، وعندما لا تذهب لمدرستها الكائنة في قرية "كفر شحاتة" تأتي إلى "ديدي".
بيت "ديدي" ليس فسيحًا، لكن الجمال يطغى على جوانبه. في المدخل تقبع أرض صغيرة مزروعة بخُضر مختلفة الأنواع لم تطرح. الساحة الخارجية مدينة ألعاب مٌلونة؛ تنتصب شجرة مقصوصة الأوراق، يتدلى منها مُجسمات صغيرة لطيور، مصنوعة من الزجاجات البلاستيكية، أسفلها تقبع بعض اللوحات، مكتوب عليها عبارات ناعمة الأثر؛ "الله في كل مكان"، "كُن إنسانا" وغيرها.
في المنزل 3 حجرات؛ إحداها لسكن السيدة الألمانية، أخرى لتعليم التلاميذ، والأخيرة تحت الإنشاء ستُخصص للمتطوعين الراغبين في المكوث لفترة. أما الحديقة المُطلة على نهر النيل فتحتل المساحة الأكبر، نبتت فيها أزهار مختلفة، بعضها مازال ملتفًا حول نفسه في انتظار الربيع، فيما يوجد ثلاثة مقاعد بيضاء تكسر طغيان الأخضر.
تحرص السيدة على أن تبث في الصغار قيمة العطاء، عبر مَن تلمح فيهم النباهة، فكل مَن في المدرسة يحمل صفتي المعلم والتلميذ. تسكن سماح على بعد أمتار من المُعلمة الأجنبية، تجد لديها العلم واللعب، وإن كانت لا تهتم بالأخير كثيرًا "أنا بحب مذاكرة العربي أوي" حسبما تقول الصغيرة.
ما أن عزمت "ديدي" على المشروع حتى "تعرّفت على سيدة إنجليزية تعيش في القرية هنا ومتزوجة من أحد الأهالي وأعطتني مساحة صغيرة لأعيش بها" تضيف "ديدي". لم يكن لدى السيدة الألمانية وقتها سوى كوخ صغير من الخوص، تنام فيه ليلاً وتخرج منه صباحًا لتفرش الألعاب حولها، داعية الأطفال للقدوم من أجل الرسم والتلوين، حينها أحاطت نظرات الريبة بـ"ديدي"، منع الأهالي أبناءهم من الاقتراب منها.
إشاعات عدة رُميت بها الغريبة عن القرية قبل نحو 6 سنوات "اللي يقول دي يهودية واللي يقول دي جاية لغرض مش كويس أو عايزة تعمل فلوس" كما قالت فاطمة "أم عبلة"، أحد أهالي "البحاروة"، غير أن كشف "ديدي" لما تقوم به، دفع "أم عبلة" للانضمام إلى مشروع السيدة "اشتغلت معاها في الحضانة ومشوفناش منها حاجة وحشة لكن بسبب الكلام جوزي مخلنيش أكمل معاها". رأت الأم ما تقدمه الأجنبية لأولاد القرية "كان في مدرسين يجوا يعلموا الولاد وعيالي بقوا يتكلموا إنجليزي هي اللي علمتهم كل حاجة الصراحة".
كان أهل البيوت الأقرب إلى سكن "ديدي" أول مَن ذهب عنهم ريبة التعامل مع السيدة الأجنبية "في الأول كنا خايفين منها مش عارفين هي جاية ليه وبتعمل إيه للعيال، والمشايخ هنا هرونا يقولوا لنا متودوش عيالكم عندها وأنتوا كمان مترحوش لكن كانت تعتبر جارتنا فعرفناها" تقول فاطمة عن "ديدي" وبيتها الذي يعرفه أهل المكان "بالحضانة".
مع تمام الواحدة والنصف ظهرًا اتخذ الصغار مكانهم بمنزل "ديدي"، بالصباح يأتي من 15-20 طفل كما تقول السيدة.7 فتيات جلسن على المقاعد الخشبية المتوسطة للمكان، استقبلتهم "كاتيا"، إحدى المتطوعات- بأدوات الخياطة، ليكملن ما بدأنه، تشرف المعلمة المتطوعة على إمساك "مروة" للمقص وإتمام قصها للقماش، فيما تواصل "بسمة" خياطة وسادة صغيرة، تحكم ضبط الغرز كي لا تطالبها "كاتيا" بإعادة خياطتها، تتبادل الفتيات الحديث بلهجتهم القروية إلى أن يتحدثون للمعلمة، حينها يتبادلون معها ما عرفوه من كلمات إنجليزية حال "look–شوفي، This-دي، again –تاني..".
جاءت "كاتيا" إلى مصر قبل نحو أسبوعين، "كنت أطلع على الصور الفوتوغرافية للصيادين التقليدين في مصر لذلك من اللطيف أن أكون هنا وأراها على الحقيقة" تقولها بينما تأخذ شهيقًا من النسمات الباردة، وتطل عينيها على مركب صيد يمرق بمياه النيل المطلة عليها المكان.
منذ نحو 10 أعوام بدأت "كاتيا" رحلتها مع التطوع، فهي حال كثيرين من جنسيات مختلفة، يأتون القرية بين حين وآخر، يُعلمون الأولاد لفترة ويرحلون. الخياطة والكروشيه هو ما تتولى "كاتيا" مسؤولية تعليمه للصغار، ترى أن كل منهم يبذل قصارى جهده ليكون عمله بشكل شبه محترف، كي لا يتعلم فقط، بل ربما "يمكنه من كسب المال فيما بعد" حسب قولها.
لم تكن السيدة ذات الستين ربيعًا تعرف "ديدي" من قبل، قرأت عبر الإنترنت عن مشروع المدرسة وقررت المجيء. "ديدي بالفعل تتحدث إلى الأولاد بالإنجليزية، وصاروا يفهمونها، لذلك لم يكن صعبًا أن اتحدث إليهم" تقول "كاتيا" غير منكرة قلقها في البداية، لكن رفيقتها صحبتها إلى بيوت "البحاروة" لتتعرف عليهم "عرفت أهل هؤلاء الأولاد وبدأت أعرف كيف يعيشون وشيئا فشيئًا أصبحت أتواصل معهم".
في البدء كان التواصل مع أهالي القرية يسهله وجود الصديق المصري لـ"ديدي"، يترجم حديثها لهم، قبل أن يعتدوها، وتنجح في كسر الجليد رغم عدم إجادتها العربية حتى الآن، ولم تكتف السيدة بتعليم الصغار؛ فتحت منزلها للأمهات لمحو أميتهم من خلال إحدى السيدات المتعلمات "عملوا فصل عندها حوالي 5 شهور وروحنا امتحنّا ومستنيين النتيجة" تقولها أم عبلة بفرحة.
قبل قدوم "ديدي" كانت حياة الصغار لا تخرج عن الذهاب للمدرسة صباحًا ثم اللعب في الطرقات حتى النوم. التغيير الذي أحدثه ترددهم على "ديدي" جعل غيابها مصدر حزن؛ فحين انقطعت عن القرية في شهر رمضان الماضي لظروف شخصية "مكناش عارفين نعمل إيه ولا نروح فين.. كنا ننام ونقوم نصلي ونرجع ننام تاني" تقول هاجر محمود، ابنة الصف الخامس الابتدائي.
بدأت قصة "ديدي" مع التطوع وهي ابنة عشرين عامًا "وقتها كنت أدرس التعليم في الجامعة بألمانيا وبالتوازي أتطوع لتعليم الآخرين". الهند هو البلد الأول الذي زارته "هُناك عرفت معنى تسخير حياتك لخدمة الناس دون مقابل"، التقت برجل هندي غيّر حياتها، فتح لها أفاق التفكير الفلسفي، درّبها على تقبل الآخر، وزرع فيها الصبر على الأذى. بعد تلك الرحلة تركت الجامعة وطافت العالم لمساعدة البشر.
كرواتيا، الفاتيكان، إندونيسيا، الفلبين، تايلاند، ثم مصر.. على مدار أربعين عاما، تركت "ديدي" بصمة في كل دولة "بدأت مشروعًا تعليميًا مرتبطًا باحتياج أهل البلد". أخذت عهدًا على نفسها أن تُنهي الزيارة "عندما ينجح المشروع وأتأكد أن هناك من سيديره بعدي بشكل أفضل مني"، تذكر أن آخر تجربة لها قبل مصر كانت مشروعا في كرواتيا لحث الأطفال على كتابة قصص حياتهم ثم تجميعها في كتب يتم نشرها.
"اتعلمنا كل حاجة.. اتعلمنا نتكلم انجليزي ونلعب" تقولها بسمة بينما تحيك الوسادة. تدرس الفتاة في الصف الثاني الإعدادي، عرفت "ديدي" منذ قدمت إلى القرية "نزلت الأول ناحية قبلي في أول القرية وكنت بروح لكن فرحت أكتر لما بقت هنا جنبنا على طول". تفخر بسمة حال الأخريات بما يصنعن، تسرع الى المكتبة لجلب البطاقات التي صنعوها وذيّلوها بإمضائهم، وبأنها ليست الوحيدة بين أخواتها الست التي تأتي "ليا أخت كانت بتيجي من وهي عندها 15 سنة لغاية قبل ما تتجوز"، وتعدد المهارات التي اكتسبتها "كل سنة نتعلم حاجة جديدة السنة دي مثلا بنعمل مخدات وقبل كدة كنا بنرسم قصص".
مع الوقت بات إقبال الأطفال على "ديدي" أمرًا اعتياديًا. لم يُبالِ معظمهم بتحذيرات الاباء "الأطفال يصدّقون بالتجربة وهذا ما فعلته معهم" حسبما تستطرد "ديدي".
الأعمال اليدوية النسائية ليست فقط ما تُعلمه "ديدي"؛ في ركن قصيّ من المنزل، اعتكف زياد ومُسلّم على قطعة خشب مُربّعة لصنع منضدة. يبلغ عُمر الولدين 10 أعوام "أنا هطلع نجار".. يرددها زياد فيما يقبع قلم خلف أذنه يُحدد به أماكن التقطيع. لا يذهب الفتيان إلى المدرسة الكائنة بقرية "كفر شحاتة" إلا مرات قليلة في الأسبوع، قبل أن يفسّر مُسلّم "بعيدة علينا.. بنيجي عند ديدي نتعلم صنعة".
اختارت فاطمة كذلك أن تعمل في المطبخ "أكتر حاجة بحبها هي الطبيخ". كانت الفتاة عندما تأتي في البداية لمنزل "ديدي" تُحضر معها بعض الخُضر "هدية ليها عشان اللي بتعمله معانا"، مع الوقت تأكدت صاحبة المنزل من هواية الشابة، فطلبت منها أن تطبخ للأطفال أحيانًا خلال الدرس، ثم تطور الأمر حين صنعت الفتاة قائمة الطعام بالوجبات الثلاث، لتحفيز الأطفال على الاهتمام بالدروس.
لا تسير الأمور دائمًا على ما يُرام، إذ يكذب الصغار أحيانًا على معلمتهم الأجنبية، بينما يحتفظ بعضهم بأفكار الأهل السيئة عنها، ورغم الصعوبة التي تلاقيها السيدة الستينية في التعامل معهم، لكن استجابتهم تعني لها كل شيء "تلك البراءة التي أبدأ بها يومي، وأصوات ضحكهم ولعبهم وحتى المشادات بينهم".
تعمل "ديدي" بمفردها إلا من متطوعين قليلين "في مصر لم أجد شخص محلي يستطيع أن يُدير معي التجربة". لذلك تَعّين على السيدة أن تكون مُتاحة طول الوقت للصغار، صارت ملاذهم بين تعليم متداعٍ ووسائل نادرة للعب والترفيه "هم يعتقدون أنهم يلعبون لكنهم يتعلمون ويطورون مهاراتهم ويرون عوالم جديدة ويستخدمون خيالهم".
بعد ست سنوات، أصبحت "ديدي" أكثر إنهاكًا. تركت التجربة فيها أثرًا عميقا "جئت أبحث عن الجمال والتغيير ووجدتهم في قلوب هؤلاء الأطفال.. لا يهم أي شيء بعد ذلك". رغم ذلك فهي تريد الانسحاب، على أن تضمن وجود خليفة يستكمل ما بدأت. ربما تكون مصر الدولة الأخيرة التي ستنشئ فيها مشروعًا "أفكر في الاستقرار بالهند والعمل كمدرسة"، وحتى يحين موعد الرحيل، تملك السيدة الألمانية كل الوقت حتى ينضج ما زرعته بأرواح من حولها، يكفيها أنها دشّنت نموذج التعليم الذي يجب أن يُحتذى به، إذ صار التعليم جليسًا لأطفال "البحاروة".
فيديو قد يعجبك: