إعلان

خالتي "فرنسا".. "الأصل أحلى ولا الصورة؟"

12:55 م الإثنين 20 مارس 2017

0

كتبت- رنا الجميعي:
تصوير- جلال المسري:

ينادونها بـ"ست بـ100 راجل"، ربّاها والدها لتعيش وسط مُجتمع لا يدرك معنى رقة القلب، فالعُرف يقتضي القسوة، ولكي تعيش "خالتي فرنسا" بين التُجار والـ"معلمين"، عليها أن ترفع صوتها، ترتدي ملابس صماء على جسد لا يَبين منحنياته، وتأخذ حقها بـ"دراعها"، سنين طويلة مكنّتها من فرض سيطرتها في منطقة الجمالية، حتى شاهدت نفسها على شاشة السينما كواحدة تُرسّخ لمعنى "الحي الشعبي"، لكن وراء تلك الزخرفة حنان قلب وسواد جَثَم على الدنيا بعد وفاة أبيها، وخوف على "الضنا"، وأنثى "حبت ولا طالتش".

1

منذ صغرها عرفت "فرنسا" الشارع، كانت ظلّ لأبيها، تاجر الفاكهة "أحمد هريدي"، علّمها كيف تبيع وتشتري، وكيف تقف كـ"معلمة" تناطح الرجال، تستيقظ في الفجر معه، تذهب للسوق لتشتري الفاكهة، ثُم تتجه لتبيعها للتجار كما يفعل والدها "بقى بيتكّل عليا من وأنا عندي 10 سنين"، ونفذّت تعليمات أبيها الخاصة بـ"انتي نازلة راجل"، صنعت العباءة الرجالي، وغطّت رأسها بالحجاب.

صارت "فرنسا" تاجرة بمنطق السوق، فالصغيرة لم تستمتع بحياتها كما الفتيات "مكنتش بلعب بعروسة ولا مع البنات"، حتى أصبحت نموذج داخل السوق الرجالي، يُمازحها أحد التجار قائلًا "وسّع للمعلمة"، لدرجة أنه صنع لها "شومة" مثله، في تلك المرحلة كانت فرنسا المُزحة التي يتداولها الرجال فيما بينهم "كانوا يُنكشوني وأبويا يقولهم دي ولا الفرنساويين"، ومن هنا جاءت كلمة "فرنسا".


تركت فرنسا التعليم منذ الثالث الابتدائي، قررت مُلازمة والدها، تتحدث ويديها تتحركان بحماس؛ كانت الوحيدة ضمن أخواتها التي عملت في السوق، ولم تنهها أمها عن العمل "كانت مبسوطة إني خشنة"، ظلّت فرنسا لسنين تساعد والدها، تتذكر أجرها الأول في إحدى شهور رمضان، حيث تأخذ نصيبها من الفاكهة "وأنا عندي 12 سنة، كنت أبيع بعد ما أبويا يخلص اللي معاه، وأول مرة أخدت 4 جنيه نزلت أشتري بيهم فستان العيد من الموسكي".

2

بعدما نضجت فرنسا، قرر والدها ألا تنزل للسوق مرة أخرى، تعلّمت الخياطة واشتغلت بها، ثم تزوجت في عمر الـ16، صار اسمها يتداول بين اثنين، فرنسا أو أم محمود، ابنها البكري.

تتذكر فرنسا "الزفة البلدي" التي كانت بطول أحد شوارع الجمالية، رآها زوجها في أحد الأفراح، وقرر أن يرتبط بها "وأنا مش في دماغي جواز أصلًا، أنا مش زي اللي حبوا، كل الكلام دا محستوش"، لم تكن كالفتيات التي يضعن المكياج "مكنتش بعمل شعري، كنت ألفه بالبنس وأفرده وخلاص".


أكثر من عشرين عامًا ظلّت خلالهم فرنسا الزوجة والأب والأم، استغلّها زوجها "كان عارف إني بشتغل وبصرف على نفسي"، استمرّت في العمل بالخياطة، ربّت فرنسا وحدها ثلاثة أطفال، "مكنش بيهتم غير بنفسه ويكلم الستات".

3

لم يكن بجوار فرنسا رجلًا سوى أبيها، "كنت بعمل حسابه أوي، وأي حاجة تحصل أجري عليه، عمري ما اتكلمت مع أمي في أسرار"، فيما كان يُطلّ زوجها عليها من آن لآخر "مكنش بيشتغل، كان ييجي ياخد فلوس ويمشي"، تقول ذلك وحشرجة الصوت تدلل على أنها لم تنس "كسرة نِفسها" رغم مرور السنين، تحمّلت حتى
جاء موعد الفراق.

تمكنّت فرنسا من شراء محل تبيع فيه الفول والطعمية، أصرّ الزوج على أن تكتبه باسمه، لكنها رفضت، اشتكت لوالدها حتى وصل الأمر إلى دفعه للطلاق، حزّ في نفسها ما قاله "اتنازلي عن كل حاجة وأنا هسيبلك الولاد"، لم تكن تتصور أن يصل الأمر إلى تفريطه في أطفاله الثلاثة، والنُطفة التي كانت ببطن أم محمود.

لم تعش فرنسا حياتها معه "محستش إني ست"، تقول بُخذلان، أيقنت أن "عيالي أولى بيا"، هم عائلتها التي تُدافع عنها بكل ما تملك، تعلّم الأربعة، "محمود أخد معهد وإبراهيم درس كلية الألسن وطه لسة في ثانوي، وأحمد في إعدادي"، حتى أنها تشّجعت وذهبت لمدرسة قريبة منها تمحو أميتها، كل ثلاثة أشهر تُنهي عامًا دراسيًا، كانت السيدة الوحيدة في منطقتها، تذهب وتعود وحدها، ثُم تصطحب أطفالها معها إلى لجنة الامتحان، تحرك يدها أمام فمها مازحة معهم "ششش ماما دلوقت هتمتحن".

4

سارت فرنسا طريقها وحدها، حملت الشهادة الإعدادية "بقيت أذاكر مع العيال وللأحفاد بعد كدا"، وبعد أشهر من طلاقها رحل والدها "الدنيا مبتسودش في عين البنت إلا بعد أبوها ما يموت"، تعلّمت على يديه ألا يُناديها أحد باسمها الحقيقي "منى".

لم تعش أم محمود أية تجارب سوى أن تكون "ست راجل في شغلي"، عرفها الجميع في الجمالية، شهدت شوارع مصر القديمة على شجاعتها، وقفت أمام أحدهم "كان بياخد إتاوة من الشارع كله"، وحين حاول أخذ فول وطعمية من محلها دون دفع، دبّت مُشاجرة بينها وبينه، وصل صداها إلى النيابة، وكتب تعهد على الرجل عدم الاقتراب منها "أنا اللي اتحكم في قرشي، واللي ادهوله عيالي أولى بيه".

"أنا مبضربش غير رجالة، عمري ما اضرب واحدة ست".. تقول فرنسا ضاحكة، لا تخاف أحد طالما تُدافع عن حقها، تقف بجوار جيرانها، وتتصدّر المشهد كـ"ريسّة" لأهل المنطقة، فحينما جاءت وزارة الأوقاف والآثار ذات مرة لهدم العقار الذي يسكن فيه محل أكل عيشها، وقفت لهم بالمرصاد "جم بالبلدوزر والأمن المركزي"، تذهب للمحكمة، وتُقدّم الأوراق اللازمة لإثبات حقها في المكان، ودون أن توكل مُحامي، يذهب إليها المدافعين عن حقوق الإنسان، حتى تنتصر لها ولجيرانها، "ويبقى الحال على ماهو عليه" كما صدر حُكم المحكمة.

تزوجت فرنسا ثانية، تحكي القصة مصحوبة بطيف ابتسامة "هو استجدع وقفتي كستّ في السوق، واتجوزنا وربنا رزقنا بريتاج"، لكن الحلو "ميكملش"، فبائع النجف كان مُراده هو أن يُرزق بطفل بعد زواجه الأول، وانفصلت "فرنسا" مرة أخرى.

5

لم تشعر فرنسا بالحب سوى مرة واحدة، لا تحكي الكثير عن تفاصيله، لكنها تصف إحساسها "أنا لما أحب بحب بكل حاجة فيا"، غير أن تصاريف القدر كان له حديث آخر "أصله مات".

تعيش الآن فرنسا في منزلها بالجمالية، يتوافد على البيت زوجات أبنائها وأحفادها، تستيقظ مُبكرًا للذهاب لمحلها القريب، تصطحب معها ابنتها ذي الأربعة أعوام، تُحب تلقائية الممثلة عبلة كامل التي أدّت دورها في الفيلم الشهير، وتتابع باهتمام مسلسلها "سلسال الدم"، تتمنى هي أيضًا القيام بالتمثيل، حُلمها الباقي بجانب رغبتها في أداء العمرة.

لم تعرف فرنسا معنى الراحة، لحظات قليلة فقط هي منالها من الحياة، انضمامها لجلسات الذكر في مقاهي الحُسين، ونزهات بصحبة عائلتها إلى الحدائق أو الأهرامات، وأوقات الهدوء بعد يوم طويل برفقة فنجان قهوة "بحب أسمع الست أم كلثوم، وأقعد مع نفسي"، ورغم فراغ الدنيا بعد وفاة والدها، إلا أنها مازالت تشعر به في حُضن ابنها إبراهيم "بحس بريح أبويا فيه".

 

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان