"الجدعنة" في تفجير الإسكندرية.. "قدسي" حمل الأشلاء و"أم سعد" سترت الجثث
كتب- رنا الجميعي وإشراق أحمد:
تغيرت أحاديث الشارع الذي تشير لافتته لاسم "كنيسة الأقباط"، كما تبدلت ملامح المنطقة رقم 19، الواقع بها "المرقسية"، بعد يوم الأحد المنصرف الشاهد على التفجير الإرهابي، مرت 4 أيام، ضجت بالحديث عن الدماء، الصدمة التي ضربت سكينة الشارع، ولم تخلُ رغم الوجع من زهو الكلمات بـ"جدعان" المنطقة، مَن احتضنوا الدقائق الأولى للحدث الفج بصدر مفتوح، وأيدي متشربة بالهمة، لتربت على الأكتاف في لحظات الألم.
في حارة صعدة، الزقاق المتفرع من شارع الكنيسة، يجلس وليد قدسي أمام مكتب صغير، داخل كشك حديدي، على باب مطبعة "عم أحمد، كما يعرفها الأهالي، يمر الجيران العابرين، يلقون عليه السلام، يرحبون بعودته سالمًا، يقف متحاملاً على قدمه اليمنى المغطاة بضمادة طبية، فيما يحتفي به صديقه طارق فيكا "وليد ده بطل.. شال جثث الناس ومخافش واتصاب".
يبتسم "قدسي" للمرحبين بقدومه، يحمد الله على النجاة، فكان لـلشاب أن يكون واحد من الضحايا، بعدما تغير مسار ذهابه من مرافقة خطيبته إلى كنيسة العذراء بحي العوايد، للاحتفال بأحد السعف، إلي وجهة عمله بمحطة الرمل "قلت هجي الشغل عشان صاحب المطبعة راجل كبير ومراته تعبانة فلازم يروح لها بدري"، لينال ابن التاسعة والثلاثين ربيعًا نصيبه من أسبوع الآلام.
كانت الساعة تخطت الواحدة إلا الثلث بدقائق، حين أبصر "قدسي" ناصية الطريق، خطوات وجد بعدها طفلة تغطي الدماء نصفها العلوي، فهو ما تبقى من جسدها "انصدمت وقتها وكملت لغاية باب الكنيسة".
نحو 20 مترًا كما يُقدر الشاب الثلاثيني، كان فيها المصريون سواء، لا فرق بين مسيحي ومسلم، ضابط ومدني، الجميع أُهدر دمه، وتناثرت أشلاء بعضهم مما دفع "قدسي" للجري متراجعًا لآخر الشارع، ليلقي نظرة طويلة على المشهد المحفوف بعويل يضج من النوافذ المحيطة، حيث لم يتواجد على أرض "المذبحة" حينها أكثر من 25 شخصًا، ممَن خرج هلعًا من محله أو تواجد بالجوار، تسمرت أرجل الجميع فيما علا صوت "هنعمل ايه يا رجالة؟".
رغم هول الموقف، سريعًا عاد "قدسي" أدراجه إلى مكان عمله، أغلق المطبعة "خوفت حد يدخل يسرقها في الهوجة"، ثم هرع ثانيةً إلى حيث رأى وجوب التواجد، أخذ يصرخ مجيبًا كل مَن يسأله عما حدث "الناس ماتت عند الكنيسة.. الناس بقت أشلاء يا جماعة"، في الوقت الذي أخذت أيدي "أم سعد" تمتد بأغطية السرير لديها "ملايات" لستر الجثث الملقاة على الأسفلت.
تقطن السيدة الستينية كذلك في حارة صعدة، يطل شباكها بالدور الأرضي على شارع الكنيسة "كنا نايمين في سكن الرحمن فجأة البيت اترج بينا"، خرجت المسن بينما يتصاعد دخان التفجير، ليشخص بصرها ما رآه الجميع، لذا حين سألها صاحب المقهى المقابل لبيتها عن شيء يغطون به الجثث لم تتردد في مشاركة "ستر" جيرانها، لأكثر من 40 سنة كما تقول.
بدأ "قدسي" من حيث كان بالمرة الأولى، وضع الفتاة الصغيرة في ملاءة، بالجوار نفس ينبض برجل، كان مصابًا، أخذ الشاب يحاول إفاقته، يغسل دمائه بالماء، فيما واصلت "أم سعد" إمداده للقابضين على المساعدة، خشي عامل المطبعة أن يحرك المصاب، لكنه نهض بنفسه، فودعه مطالبًا إياه الذهاب للمستشفى، ليلتفت الشاب لمن رأى الموت يحيط بهم.
لنحو نصف الساعة، حتى جاءت أول سيارة إسعاف، عمل "قدسي" طاقته في حمل وتغطية الجثث، وطمأنة مَن لاتزال تسري الروح بجسده، يبشرهم بقدوم النجدة، فيما لم يمحَ عنه هاجس "أن في قنبلة تانية وأني ممكن أموت وسط الناس"، غير مشهد تلك الطفلة المتوفاة "بعد ما شوفتها معدش فارق معايا حاجة".
لم يتوقف الجمع عن المساعدة، بعد قدوم الإسعاف "وأول عربية شالت يجي 7 مع بعض" بحسب "قدسي". أخذوا يحملون الجثث والأشلاء، يوجهون المسعفون لمن زال فيه الروح، فيما عكفت "أم سعد" وابنتها "هدير" على تزويد رفاق المساعدة بالماء المحلي بالسكر، لمن فقد وعيه في "المعمعة".
ربع ساعة أخرى مرت، قبل أن يدوي صوت أخر "المبنى اللي قدام الكنيسة هبط لتحت"، تهشم الزجاج، وهرع الزحام الملتف بالشارع متراجعًا "نزل إزاز على رجلي اليمين"، سقط "قدسي" على ظهره من الألم والدفع البشري "الناس بقت تجري فوقيا حسيت أن العمارة وقعت عليا"، إلى أن أدرك إمكانية الوقوف ثانيةً لكنه اتكأ على زجاج فأصاب يده.
تحامل "قدسي" حتى أدركته يد جار له يدعى "محمود"، أسنده إلى مكان المطبعة بالشارع الجانبي "قعدت على الرصيف. ووقتها بس انهرت في البكاء"، أخذت أيدي المحيطين تربت على كتفه "كان في ظابط قال لي معلش هيجي حقهم وخد بالك في ضباط ماتوا هنا".
7 غرز بالقدم، واثنان في اليد ألمت بالشاب الثلاثيني، غادر مكان الحادث، لكن لم يفارق أخباره "لما وصلت المستشفى عرفت أن في 17 ماتوا"، فيما احتضنته عين أسرته، بعدما ظنوا أن مكروه أصابه حينما انقطع بينهم الاتصال، "أنا إصابتي بسيطة يومين وهرجع أمشي تاني عادي لكن اللي ماتوا خلاص" يقول "قدسي" فيما يستعيد رؤية ذلك الشاب المقارب لعمره، مَن سقط صريعًا جراء التفجير، متخيلاً نفسه مكانه "كان نفسي أموت شهيد بس أكيد أهله محروقين عليه".
أصر "قدسي" على العودة للعمل الأربعاء المنصرف، يدمي الحزن قلب الشاب، لم يعد شارع الكنيسة كسابق عهده، أضفى الحادث عليه ثقلا؛ على ناصيته من الجهتين، تقف مدرعة جيش، وترتكز حواجز أمنية وقيادات شرطية، فيما وُضعت لافتة ورقية كُتب عليها "رجاء محبة. ترك المتعلقات الشخصية المعدن وخلافه، وللنساء تفتيش الحقائب الشخصي"، إذ لا يمر من الحواجز سوى الوافدين للصلاة بالكنيسة، وأهل المربع الساكن في زمام المكان. تنتشر "سقالات" خاصة بترميم المحال المتضررة، وتزدحم نواصي ذلك المربع بالمارة الذين يقفون قليلًا أثناء عبورهم لرؤية الكنيسة، يسأل بعضهم عن ملابسات الحادث قبل أن يهموا بالدعاء لصلاح الأحوال.
خطف "قدسي" نظرة سريعة على الشارع "لكن قلبي مطاوعنيش أروح لغاية الكنيسة تاني"، كان يخطط يوم التفجير أن يدلف للمرقسية، في غضون الساعة الثانية، ليشتري سعف لخطيبته على شكل قلب ويهديها لها الأحد المقبل بالعيد "لكن حصل اللي حصل ومجيبناش سعف. مجيبناش إلا دم".
لا يجد "قدسي" بطولة فيما فعله "لو مكنتش اتحركت مش هبقى راجل من الآخر"، فيما تغلق "أم سعد" منذ الحادث تلك "النصبة" التي تبيع فيها أمام منزلها، لا تطيق السيدة المحجبة العمل حتى الآن، لا يغيب عنها مشهد الدماء و"الناس اللي بتلم والناس اللي بتغطى وتستر"، الكشف عن هوية المتورطين أثلجت الصدور شيئًا ما، غير أن "قدسي" يتوق لمعرفة من وراء مثل هؤلاء "مين اللي أقنعهم أن قتل الناس هيدخلهم الجنة".
فيديو قد يعجبك: