من الركام إلى العلم.. حين عرفت قرية مصرية معنى "المدرسة"
كتب- إشراق أحمد ودعاء الفولي:
تصوير-كريم أحمد:
لم تعلم مي جازي، حين انتقلت لعزبة البحاروة، قبل 8 سنوات، أن واقع المنطقة النائية سيضطرها لترك صغارها يقطعون الطريق وحدهم إلى المدرسة "لو مفيش مواصلات بيمشوا على رجلهم أكتر من 4 كيلو". كان ذلك حال سلمى ومحمد غير المتجاوز عمرهم 9 سنوات، وجميع صغار البحاورة الراغب أهلهم في تلقيهم التعليم.
لا توجد بالقرية مدرسة واحدة، فقط في منطقة كفر شحاتة –القرية المجاورة- أو بمركز العياط التابع لها القرية "كان ولا 50 طفل يركبوا عربية ربع نقل عشان يروحوا المدرسة" تقول "جازي"، فيما يتسلل لها مشاعر الراحة، تجد أنها لم تعد مضطرة لرؤية ذلك المشهد بعد وجود مدرسة "مَن أحياها".
منذ حوالي عام نضجت فكرة إنشاء مدرسة للأطفال في عزبة البحاروة "لما الجمعية نزلت القرية عرفنا إن التعليم هو أكبر مشكلة عندهم"، حسبما تقول إيمان عبد الرحمن مُديرة المشروع. قبل الاستقرار على الشكل النهائي للمدرسة، نظم متطوعو "من أحياها" العديد من الأنشطة للأطفال، بعضها تعليمي وجزء منها ترفيهي مثل المسرح والحفلات.
قبل إنشاء المدرسة، كان هناك محاولات فردية لتعليم أهل القرية لكنها جاءت على استحياء؛ فتحت "جازي" –خريجة كلية التجارة- منزلها لمحو أمية نساء القرية، وخصصت ما يشبه كُتّاب لتعليم الصغار القرآن الكريم، رأت الشغف في أعين السيدات والصغار، لكنها توقفت "كان المسجد فيه شيخ بيحفظ ده غير أن الولاد كانوا بيعملوا قلق كبير وده كان في البيت فمعرفتش أكمل"، لذلك حين أعُلن عن مشروع المدرسة لم تتوان في بذل المجهود والوقت لنجاحه "أنا في الأزمة فتحمست لها جدا".
"في الأول سألنا في الوزارة عن إجراءات إنشاء مدرسة مجتمعية"، والتي تقوم على ضم المتسربين من التعليم، لكن علمت "عبد الرحمن" بضرورة انحسار الأعمار من 9 إلى14 عامًا، ولأن عدد الأطفال في ذلك العمر لم يكن كبيرًا في القرية "قررنا إنها تبقى مدرسة عادية من أولى ابتدائي لحد خامسة" وفي منتصف أغسطس الماضي بدأ العمل على أشده داخل المدرسة التي تضم فصلين، فيما تم افتتاحها رسميًا أول نوفمبر الماضي.
مبنى بسيطًا من الخارج، مُكون من طابق واحد، ما أن تُفتح بوابته، حتى تبسط البهجة روحها على فناء المدرسة؛ بين حوائط مُلونة، حوش مُغطى بالرمال، وأرض يكسوها الزرع، وحوض أبيض يغتسل فيه الأطفال، وفصلين يسع كل واحد مُنهما 25 طالبا من الصف الأول الابتدائي وحتى الثالث.
تولت "جازي" إدارة المدرسة، لكنها لم تعتاد وجودها بسهولة "فضل عندي حالة أشبه بشيزوفرينيا.. بحس أن المدرسة مكان منفصل عن القرية"، مبنى المدرسة لا يختلف عن تكوين منازل القرية، غير أن العناية بانتقاء محتوياتها أقرب ما يكون من المأمول في نظم التعليم المتقدمة.
فرحة عارمة فاضت على أهل القرية بعد افتتاح المدرسة "مكنوش مصدقين" كما تصف "جازي"، لا سيما أن أولياء الأمور ظلوا متشككين حتى اللحظات الأخيرة قبل الانتهاء من المشروع "عيالنا بقت تتعلم بدل ما هي بتروح وتيجي ومتعرفش حتى تقرأ وتكتب" تقول "أم عبلة" أحد أهالي البحاروة.
تتذكر هناء جمال-مدرسة اللغة العربية- اليوم الأول في مدرسة عزبة البحاروة "الولاد مكانوش مصدقين إنهم مش هيروحوا مدارس بعيدة". لم تستغرق وقتًا طويلاً حتى اعتادت الوضع "كنت بشتغل أخصائية اجتماعية في مدرسة قبل ما أجي هنا بس حبيت هنا أكتر".
عرفت مُعلمة اللغة العربية عن المدرسة من الانترنت "كانوا عاملين إعلان بس قلت دي حاجة كويسة لأننا هنساعد في بناء الأولاد". في الأيام الأولى أدركت أن مستوى التلاميذ ضعيف للغاية، لكن بعد ذلك لمست التطور "بقى عندنا حد متقدم جدًا وحد وسط"، فيما تُعطي السيدة تدريبات لغوية خارج المنهج للأطفال لتزداد درجة تحصيلهم.
6 معلمات تتولى التدريس في "مَن أحياها". تم اختيارهن بعد مقابلات مع مديرة المشروع بالقرية. فاطمة محمد بين المتخطيات للاختبار، تولت تعليم اللغة الإنجليزية، ورغم سكن خريجة كلية اللغات والترجمة بمنطقة العياط، إلا أن معرفتها بـ"البحاروة" بدأت حين رأت إعلان الجمعية عن حاجاتهم لمدرسين "أول مرة جيت هنا دخلت وطلعت ودوخت لغاية ما وصلت"، تفاجئت المُعلمة حينها بالمكان لكنها قررت ترك كل شيء من أجله.
عملت مدرسة اللغة الإنجليزية في مدارس حكومية وتجريبية، ملّت طريقة التعليم القديمة "اللي هو يلا افتح الكتاب واللي يفهم يفهم واللي ميفهمش أهو هيبقى في الدور التاني"، لمست اختلافًا في المشروع الجديد "لقيتنا هنستفاد علميًا وماديًا". تتلقى المُعلمات تدريبًا، فضلا على أسس اختيارهن من أصحاب المؤهلات العليا، والحاصلين على دبلوم التربية. المدرسة البسيطة ابهرت "فاطمة"، وجدت غايتها في تعليم أفضل لصغار قرية بعيدة عن الأنظار "وكمان المسألة ثواب لأن المدرسة تبع جمعية خيرية".
مع الوقت ارتبط طلاب "مَن أحياها" بمدرستهم الجديدة، أحبوها حتى باتت إحدى وسائل عقابهم ألا يذهبوا إليها حسب تعبير "فاطمة"، تذكر أحد الصغار المعروف "بالشقاوة" منذ انضم للمدرسة، فلم يردعه سوى تهديده بعدم المجيء مرة أخرى "ومن ساعتها مجاش منه شكوى واحدة" بحسب قولها.
تسرب التغيير كذلك إلى معلمة اللغة الإنجليزية حال التلاميذ "حسيت أني عملت حاجة عن أول ما جيت"، تتذكر أيام الدراسة الأولى، لم تفهم حينها فرحة الأهل، إلا بدلوف الفصل "قلت يا ولاد نطلع كراسة الانجليزي"، تسمرت أعين الصغار، وارتبكت المعلمة وهي أمام تلاميذ بالصف الثاني والثالث الابتدائي، لكنها عرفت السبب "الولاد كانوا ميعرفوش يعني إيه انجليزي"، ليجدوا الحل في ورقة صغيرة مدون عليها الأبجدية بالعربية والإنجليزية ليميز الطلاب بينها.
في السابعة صباحًا يدق جرس المدرسة، ويُعلَن انتهاء اليوم في الثانية ظهرًا. بشكل مُنظم يصطف الأطفال للخروج من الفصلين، بينما يلتزمون جميعا بزي مدرسي مُوحد. لمست "جازي" تغير حال الطلاب في أولادها، تحكي أنهم يبكون حينما يضطروا للذهاب إلى المدرسة القديمة، ويصبح على مُعلمتهم في الفصل كل مرة أن تُهيئهم، إذ تقول سلمى ابنتها "أنا مكنتش بروح المدرسة بتاعة كفر شحاتة.. بس دلوقتي بقيت أجي مع صحابي"، صار اليوم الدراسي أخف كثيرًا على قلب الفتاة ذات التسعة أعوام.
لم يُقيد الطلاب بعد في المدرسة الجديدة، لذلك يرتادون مدرستهم في كفر شحاتة يومًا أو اثنين في الأسبوع "عشان الغياب". لا تزال فكرة المدرسة في بدايتها، تقيم إدارة المدرسة حفلاً السبت المقبل 20 مايو الجاري لمرور أول عام دراسي على طلابها، يقدم الصغار عرض مسرحي داخل المدرسة للوافدين من أجل مشاركتهم ذلك اليوم.
تتمنى المعلمات أن يتم افتتاح فصلين آخرين لطلبة الصف الرابع والخامس الابتدائي "الدور الجديد واقف على موافقة التربية والتعليم"، حسبما تقول مديرة المشروع، وفي نفس الوقت تنتظر فتيات حال "سماح" التي لم يحالفها حظ الالتحاق بالفصلين لكونها أكبر من السن، إذ تمر الفتاة أحيانًا على المبنى التعليمي الأول في القرية، لتتشرّب جرعات قليلة من المناهج وإن كان ذلك للصفوف الأصغر منها، بينما ترجو الانضمام لهم في العام القادم.
فيديو قد يعجبك: