"سانت كاترين" تحاول التعافي.. مصراوي داخل المدينة التي هجرتها السياحة
سانت كاترين- سامي مجدي ودعاء الفولي:
تصوير- روجيه أنيس:
في قرية "مرير"، الواقعة على بُعد 20 كيلو من مدينة سانت كاترين بجنوب سيناء، كان حسين منصور جالسا يعبث بأزرار هاتفه المحمول. يتطلع إلى الجبال والصحراء المفتوحة. يتذكر أعوام ما قبل الثورة، حينما كانت قدماه لا تنقطع عن المدينة، ليصحب السياح -أجانب ومصريين-في رحلة لجبل موسى مارا بدير سانت كاترين العتيق. الآن يقبع بمنزله، بعدما فقد تقريبا فرصة العمل التي يقتات منها داخل "كاترين".
لافتة كبيرة كُتب عليها "مرحبا بكم في سانت كاترين" تستقبل القادمين للمدينة البالغ مساحتها حوالي 5000 كيلو متر مربع، تتباعد فيها البيوت، تحفّها الجبال، وكذلك كمائن الشرطة والجيش. عدد سكانها قليل لا يُجاوز 7000 نسمة، معظمهم من قبيلة الجبالية التي تحرس دير سانت كاترين منذ مئات السنين.
في 19 إبريل الماضي، تصدرت "كاترين" النشرات: هجوم مسلح قرب الدير، استهدف إطلاق نار قادم من أعلى الجبل كمين الشرطة الواقع على بُعد أقل من كيلو متر من مكان الرهبان. قُتل شرطي وأصيب أربعة آخرين. وبعدها بيومين قتلت الشرطة المشتبه فيه الذي كان يرتدي حزاما ناسفا، حسبما قال بعض الأهالي لمصراوي.
- السور الذي يحيط بدير سانت كاثرين بجنوب سيناء - مايو 2017- تصوير روجيه أنيس
هدوء لفّ المدينة بعد 41 يوما من الهجوم. بدا الحادث وكأن له الأثر الأكبر في قلة عدد السائحين الوافدين على دير سانت كاترين وجبل موسى، غير أن أهل المدينة كان لهم رأيا مخالفا. بعضهم قال إن الأزمة بدأت مع ثورة 25 يناير. آخرون لمسوا تغييرا سلبيا بعد حادث سقوط الطائرة الروسية في أكتوبر 2015، فيما يظن فصيل ثالث أن المشكلة في الأساس تتعلق بتعامل الحكومة مع منطقة كاترين.
ينقل خالد السنوسي -مرشد سياحي-السائحين الأجانب من القاهرة إلى جنوب سيناء منذ عشر سنوات. تفتيش الأفواج الذاهبة إلى سانت كاترين هو أكثر ما أزعجه عقب 2011، بالإضافة لغلق طريق "وادي فيران" حتى عام 2014، والذي يوفر حوالي ست ساعات كان يقطعها المسافرون للوصول لـ"كاترين".
يرى السنوسي أن اعتماد الجهات الأمنية على الوسائل القديمة والتقليدية في التفتيش لا تُجدي نفعا، بل تزيد الأمور تعقيدا. "أحيانا المعاملة لا تكون جيدة وهذا يجعل السياح يشعرون بالتقصير، حتى أن بعضهم يسخر من أسلوب التفتيش" حسبما يقول علي عادل، الذي يمتلك شركة للسياحة بمدينة شرم الشيخ، ويرافق بعض الأفواج لمدينة سانت كاترين.
على مدخل المدينة، ثمة كمين هو "الأصعب" ضمن أربعة متناثرين على الطريق من القاهرة، لا يتهاون فيه عناصر الأمن حتى ممن يعرفونهم من سائقي الحافلات التابعة للهيئات الحكومية، إذ يتم الاطلاع على هويات الرُكاب، ويتكرر نفس السيناريو مع كمين الدير الذي تعرض للهجوم خلال الشهر الماضي.
في نفس الوقت لا يهاب سائقو المدينة المرور بتلك الكمائن "طالما ماشيين صح خلاص.. لكن أحيانا لما المأمور يتغير أو ييجي ضابط جديد بيشدّوا علينا".. قالها سعيد، بينما يُجهز رخصته قبل المرور بكمين الدير.
- رجل يغادر دير سانت كاثرين بجنوب سيناء من طريق الرهبان - مايو 2017- تصوير روجيه أنيس
يذكر عادل بعض طرق تفتيش المركبات التي يعايشها، منها تمرير عصا تعلوها مرآة بجانب السيارة على أمل استكشاف شيء مخالف "لا أعلم ما الذي يمكن أن تفعله المرآة؟". مضيفا أن التفتيش بأجهزة الاستشعار والكلاب المُدربة سيوفر وقتا طويلا ويقلل أي احتكاك سلبي بين الأمن ومسؤولي الأفواج.
لا تتوقف أزمة عادل، الذي يعمل في السياحة منذ عام 1996، على التفتيش فقط، بل وسائل حماية الأفواج السياحية "عندما نمر على أي كمين خارج شرم الشيخ، تخرج سيارتان واحدة أمامنا وأخرى خلفنا ومعنا فرد شرطة." يعتقد أن ذلك التأمين ليس كافيا. هذا بالإضافة إلى ساعات الانتظار الطويلة عند كل كمين "لأن سيارات الشرطة لابد أن تنتظر أخرى جديدة... وهذا أمر متعب للغاية".
برر مصدر أمني في مديرية جنوب سيناء الإجراءات الأمنية المشددة بالحرص على سلامة الوافدين للمدينة. وأشار في حديث لمصراوي إلى ما يجري في الجزء الشمالي لشبه جزيرة سيناء من إرهاب واشتباكات أثرت على الجزء الجنوبي. وقال شريطة عدم كشف هويته لأنه غير مخول له الحديث للإعلام: "الأفراد بالفعل بحاجة إلى مزيد من التدريب على تقنيات حديثة في التفتيش إضافة إلى معدات، بحيث يخف العبء على المواطنين والسياح".
تبلغ المسافة من شرم الشيخ إلى سانت كاترين حوالي 235 كيلو متر. الطريق ليس ممهدا تماما بين المدينتين "هناك أكثر 30 كيلومتر غير ممهدة". يعرف عادل أن تلك الأمور قد تسبب ضيقا للسائح، لكنها هيّنة إذا ما قورنت بحادث ضخم كتحطم الطائرة الروسية.
في 31 أكتوبر من عام 2015، تحطمت طائرة ركاب من نوع إيرباص إيه321 تقل 224 مسافرا في طريقها من شرم الشيخ إلى روسيا، حيث سقطت بالقرب من مدينة الحسنة، وسط سيناء. وأعلن فرع تنظيم داعش مسؤوليته عن التفجير الذي شكل الضربة الأبرز لقطاع السياحة المصرية المتداعي بالنظر إلى أن السياح الروس هم الأكبر من بين الوافدين إلى مصر.
- أجزاء من حطام طائرة روسية تحطمت فوق وسط سيناء في أكتوبر 2015 (أرشيف مصراوي)
قبل الحادث، كان عدد السائحين الروس الذين يبدأون رحلتهم بشرم الشيخ مرورا بسانت كاترين أو دهب، يُقدّر بحوالي 35 ألف شخص أسبوعيا، حسبما يقول عادل. انعدمت تلك النسبة تقريبا بعد الحادث وحظر الطيران، فيما ظل قليل من السائحين الروس يأتون لمصر من خلال خطوط الطيران التركي "لكن هؤلاء قلة يفهمون أن أي دولة ممكن يحصل فيها حوادث إرهابية".
لا تكمن الأزمة في الحادث نفسه، في رأي عادل، بل كيفية تعامل الحكومة معه "لا شفافية من قبل الدولة.. ولا محاولة لإرضاء الأسر التي فقدت أبناءها".
في "سانت كاترين" ثلاثة مخيمات كبيرة، هي أشبه بالفنادق على الطراز البدوي، نسبة الإشغال فيها حاليا ليست كبيرة لكن ذلك أيضا له أسباب عديدة، فلا يُنكر صالح موسى، صاحب مخيم "الشيخ موسى"، وابن قبيلة الجبالية، أن حادث الطائرة الروسية ترك أثرا عميقا في السياحة بالمدينة. لكن المشكلة الأكبر تكمن في طريقة التسويق لـ"كاترين"، فالدولة تضع شرم الشيخ في الصدارة "عشان بيروح فيها مسؤولين كتير"، بالإضافة لـ"تلميع" الإعلام للسياحة "المُعلبة"، القائمة على الفنادق والبحر، حسب قوله.
- سياح داخل دير سانت كاثرين بجنوب سيناء - مايو 2017 - تصوير روجيه أنيس
يُعدد موسى مزايا مدينته، فيما يجلس بمضيفة المُخيم: "فيها سياحة رياضية خاصة بتسلق الجبال،ـ وجزء علاجي له علاقة بالأعشاب غير السياحة الدينية في الدير.. كثيرون يعتبرونه مكانا يعتمرون فيه." تلك التفاصيل لا ترد كثيرا في اهتمامات الحكومة، فوزارة الزراعة لم تعرف طريقها للمدينة منذ عام 1986 "هذا ميعاد آخر منشور وصل من الوزارة إلى كاترين".
رغم ذلك فقد كان لموسى زبائن تأتي له خصيصا، غير أن عددهم أيضا انخفض بعد الثورة، ثم في عهد الإخوان المسلمين (2012-2013)، إذ يذكر الرجل الأربعيني سيدة سويسرية قالت له إن السياحة ستظل ضعيفة طالما تحكم الجماعة مصر.
تستطيع سياحة "كاترين" أن تغطي مصاريف أبناء المدينة قليلة العدد. يقول موسى "عندما تهل الأفواج الجميع يعمل.. من يؤجر جمل ومن يطلع الجبل ومن يوصل الناس" مضيفا أن "كاترين" بدأت تسترد عافيتها بعض الشيء في الفترة الأخيرة، غير أن عائق الطريق وتفتيش السائح عدة مرات بوسائل قديمة مازال مستمرا.
- بدو ينتظرون وصول السياح على الطريق المؤدي إلى دير سانت كاثرين بجنوب سيناء - مايو 2017 - تصوير روجيه أنيس
مرافق المدينة ليست كثيرة، بضعة محلات للبقالة، واحد للخضر والفاكهة، طابونة للخبز، وبعض المطاعم البسيطة، بالإضافة لبائعي التُحف والملابس البدوية المتناثرين بجانب الدير. لا ينتمي كل أصحاب تلك المشاريع إلى أهل "كاترين". بعضهم أتى من الصعيد لكسب العيش، لهذا يعتمد رزقهم بالكامل على حركة السياحة في المدينة.
على جانب آخر قال مسؤول في وزارة السياحة في القاهرة -رفض ذكر اسمه- إن الوزارة تواجه صعوبات في الحملات التي تقوم بها بالنسبة لمنطقة سيناء عموما عدا الغردقة وشرم الشيخ، مضيفا أن طول الرحلة والإجراءات الأمنية –حوالي سبع ساعات– يجعل السائح لا يفضل الذهاب.
وقال "هناك مطارات في شرم الشيخ والغردقة على عكس كاترين التي لا يعمل المطار الموجود بها إلا لاستقبال المسؤولين". ليست هناك إحصاءات رسمية عن عدد السائحين الذين يفدون إلى سانت كاترين كل عام، بحسب المسؤول.
دير سانت كاترين هو العلامة المميزة للمدينة، لكن محاولة ضرب الكمين الأمني في محيطه لم تؤثر على السياحة هُناك "لأنه الهجوم حصل بعده بيوم حادثة إرهابية في فرنسا فالإعلام انشغل عنا" حسبما قال موسى صاحب المخيم، فيما يضيف عم جبلي، أحد حراس الدير، أن القدر والبدو ساعدا الشرطة في قتل مرتكب الواقعة.
في حوالي السادسة مساءً في إبريل الماضي، تسلل مسلح وأطلق عدة رصاصات من أعلى قمة جبلية على الكمين الشرطي الموجود قبل الدير ثم اختفى في الجبال. "لما عرفنا بالحادثة طلعنا كلنا نبحث عنه في الجبل مع الشرطة،" يحكي موسى أن الهجوم آلم البدو أكثر حتى من الشرطة "إن لم يكن لأجل أكل عيشنا فلأننا طول عمرنا هنا في أمان.. كانت هذه أول مرة يحصل لنا حادث إرهابي".
- أحد رهبان دير سانت كاثرين في بهو الدير - مايو 2017 - تصوير روجيه أنيس
استمرت عمليات البحث ليومين دون طائل، حتى تم العثور عليه وصفّته الشرطة خشية أن يفجر حزام ناسف قال إنه يرتديه، حسبما يقول خالد فرحان، أحد السائقين بالمدينة، فيما يُشير للافتة الدير المثقوبة بإحدى الرصاصات.
في تلك الأثناء، كان عم جبلي داخل الدير. الباب مُغلق، والهدوء يعم المكان، إلا من صوت طلقات تخترق الصمت "مجاش في بالي حاجة.. قلت يمكن حد بيجرب السلاح". لم يعرف الرجل الستيني عما حدث إلا في اليوم التالي صباحا بعد انتهاء مناوبته على بوابة الدير. ظن أن أعداد الوافدين على المكان سيتأثر "لكن لم يتغير شيء... العدد كان قليل من الأول بعد حادثة الطائرة الروسية". يستطرد قائلا إن أكثر من يراهم في الوقت الحالي من جنسيات ألمانية وأوكرانية وهنود.
ربما عاد الهجوم بالنفع على المكان "الآن هناك نقاط جيش منتشرة خلف الدير وفي المحيط" حسبما يقول جبلي.
وقال مصدر أمني أخر في القاهرة -شريطة عدم كشف هويته لأنه غير مخول الحديث للصحافة- أن الشرطة كثفت عمليات التأمين؛ فأصبح هناك بدو يعملون لدى قسم الشرطة منتشرين وسط الجبال المحيطة بالدير، كما زادت الكمائن المتحركة بطول الطرق المؤدية إلى الدير. وأثنى المصدر على مجهودات البدو "التي لا غنى عنها".
- أحد البدو في جبل مجاور لدير سانت كاثرين بجنوب سيناء - مايو 2017 - تصوير روجيه أنيس
تحاول "سانت كاترين" التعافي مما ألمّ بها عقب الثورة، ثم حادث الطائرة. لا ينقصها الكثير من الجهد، فقط بعض الاهتمام من الحكومة. يقول موسى صاحب المخيم: "الحكومة لا تثق بنا كبدو.. مع أننا أهل البلد." يضرب الرجل الأربعيني المثل بما حدث وقت الفراغ الأمني خلال ثورة 25 يناير، "تولينا أمر الكمائن وتفتيش السيارات حتى عادت الشرطة."
في المقابل يعتبر السنوسي -المرشد السياحي-أن تدخل الحكومة للإصلاح في "كاترين" يعود أحيانا بالضرر، مستحضرا صورة العقارات التي بنتها الحكومة على مدخل المدينة، والتي تشوه-حسب قوله -الطابع البدوي المميز، مضيفا أنه ينتظر من الحكومة الإشراف أمنيا على المدينة، أما التطوير فيمكن تركه للسكان أو الجمعيات المهتمة بالتنمية.
لم يتحمّل بعض العاملين في المدينة تراجع الأوضاع على مدار 6 سنوات "أخويا مثلا راح يشتغل مدينة الطور".. حسبما يروي موسى، فيما أصبح حسين منصور-ابن قرية مرير- يعمل يوما ويمكث عشرة "بقيت أشتغل في الفاعل والطوب لما تيجي فرصة أو أفضل قاعد هنا".
فيديو قد يعجبك: