5 أيام بلا نوم.. حكايات الخوف في جزيرة الوراق
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
-
عرض 7 صورة
كتب- دعاء الفولي وإشراق أحمد وشروق غنيم:
على البر الغربي لجزيرة الوراق، وقفت الرافعات الضخمة تطل بثبات على ما حولها. أمارات العمل لبناء الكوبري الذي يقطع الجزيرة واضحة، إذ تراصّت الكُتل الخرسانية غير المكتملة، ودُفنت الأرض الحجرية تحت اللون الأبيض المُميز لمواد البناء، فيما بيوت السكان لها شأن آخر؛ تحول بعضها لأحجار متناثرة، بعد هدمت الأحد الماضي، أما التي لم يمسسها سوء، فقد بُهتت وجوه أصحابها؛ صارت أعناقهم مشرئبة جهة الشاطئ، خوفا من حملة أمنية أخرى، تقضي على ما يملكون.
الأحد الماضي؛ كان يستقر جمال علي عبد المؤمن داخل منزله الواقع وسط جزيرة الوراق، ينعم بالنوم، إلا أنه استيقظ فزعًا في الثامنة صباحًا مع صراخ جيرانه وبدء سقوط جدران المكان وهو داخله برفقة أبنائه الأربعة وزوجته.
هرول عبد المؤمن خارج منزله، ومن ورائه زوجته وأطفاله. وجد الرجل الأربعيني عدد من آلات "البلدوزر" مع معدات أخرى للإزالة. حاول الاستفهام من المسئول لكن الأخير تجاهل حديثه واستمر في الهدم "سألته إنت تعرف حتى البيت ده ملك مين؟ قالي مش مهم". دافع الرجل بأقصى استطاعته عن المكان، طلب من العُمال أن يسمحوا له بالدخول وجلب عقد ملكية المنزل، فيما أطفاله يراقبون المشهد بذعر "كان أصعب يوم في حياتي".
في تلك الأثناء استيقظت خلود محمد على ضجيج يهز الأرجاء. فركت الفتاة عينيها، خرجت للشارع "لقيت دخان أبيض كتير"، اجتاح الغبار رئتيها، لم تستطع التنفس، فسقطت مغشًيا عليها. حين استفاقت الشابة ذات الأربعة عشر عاما "لقيت ستات بتصوت كتير وأمي منهم". كانت رضا حمدي، والدة خلود، قد خرجت على وقع هدم منزل جارها عبد المؤمن، ظلت تصرخ على العُمال "قولتلهم الناس نايمة جوة البيوت والعيال هتموت.. ده غير إن جارنا كان بيلطم ومش دريان بحاجة" حسبما تروي لمصراوي.
منذ 19 عاما تعيش رضا في جزيرة الوراق "عمرنا ما سمعنا إنهم هييجوا يمشّونا" تقولها باستغراب، قبل أن تنكسر نبرة صوتها "وهنروح فين أصلا؟". ثلاثة أيام لم تذق فيها أسرة رضا النوم إلا قليلًا "مش عارفة أطبخ عشان أأكل الست عيال"، أما زوجها فظل مرابضًا في المنزل "منزلش غير انهاردة أول يوم.. كان هيترفد من الشغل"، لا سيما وأنه يعمل في بناء الكوبري الجديد الذي يتم إنشائه بقربهم.
عشر سنوات مرت على شراء عبد المؤمن لأرضه من صاحبها بـالقسط بمبلغ 600 جنيهًا مقابل المتر، إذ تبلغ مساحتها حوالي 75 مترًا، فيما كلفه بناء المنزل 70 ألف جنيها "كله راح على الأرض في ثواني" يقولها الرجل الذي يعمل جزارًا "بالأرزقية".
بعد ما حدث اصطحب عبد المؤمن أبنائه وزوجته للمبيت عند صديق له، أما هو فقرر عدم ترك المكان، ينتظر لعل أحد المسئولين يخبره بالخطوات المقبلة. يحمل في جيبه بشكل دائم عقد ملكية الأرض، وفي المساء يفترش بطانية فوق حجارة منزله المتهدم وينام "لحد ما أعرف الأيام الجاية هيحصل إيه".
لم يطل الهدم بيت عبد المؤمن فقط، بل وصل إلى منزل آخر ملاصق للسيدة رضا "الناس اللي كانوا فيه مشيوا بحسرتهم"، ترددها الوالدة، فيما تطلب من خلود إطعام أختها الأصغر "أمي بقالها يومين مش عارفة تتلم على أعصابها فأنا اللي بعمل شغل البيت كله" تقول الفتاة. حياة أسرة خلود كانت تسير بالكاد، لكنها رغم ذلك تتمنى استكمال تعليمها "عشان أبقى حاجة كويسة"، بينما يبقى حلمها القريب هو "إنهم مياخدوش البيت بتاعنا".
على حصير انتزعته من المنزل بعد الهدم، تفترش شكرية محمود الأرض نهارًا تحت مشروع الكوبري الجاري تنفيذه اتقاءً للشمس، فيما تعود ليلاً لتبيت أمام ركام بيتها، هكذا تمضي السيدة السبعينية أيامها منذ باغتت قوات الإزالة منطقة الجزيرة، حسب قولها، تسكن شكرية مع ابنها شعبان فوزي وزوجته وأطفالهما الأربعة.
منذ 8 سنوات بدأ حلم نجلها "كان كل مناه يبقى له بيت فحط كل شقى عمره هنا". يعمل الابن سباكًا، بينما تساعده الأم ببيع الذرة المشوي، قضت شكرية حياتها تربي أبنائها الأربعة في منطقة الوراق، بعدما مات عنهم والدهم صغارًا.
سعادة بالغة اعترت أسرة شعبان، بعدما وجد قطعة أرض بالقسط ليبنوا عليها منزلا "بندفع 500 جنيه شهري ده غير أجرة المونة". بالكاد استطاع الابن ووالدته بناء أساس المنزل وسقف يضمهم، على أمل استكماله كلما جاءهم الرزق، الذي خرجوا سعيًا له يوم الواقعة، فأتاهم نبأ الهدم "روحت أجيب شوية درة الصبح لقيت الجيران بيتصلوا عليا الحقوا بيتكوا بيتهد".
عبرت شكرية إلى الجزيرة، لتجد البيت محطمًا على ما فيه، حتى أن ما احتكموا عليه من أغطية لازال تحت الركام، فزعت الجدة على أحفادها الذين كانوا نائمين "أهل الجزيرة خرجوا العيال وأنقذوهم" حسب قولها. لا علم لشعبان ووالدته بالقادم، تأسى السيدة المسن على ما فات حينًا "لو مخرجناش اليوم ده يمكن كنا فضلنا في البيت أو حتى خلولنا عمودين ندارى فيهم"، فيما تتمنى حينًا أخر "مش طالبين غير أنهم يعملوا لنا حتة البيت حتى بالطوب عشان ننام فيه بدل الشارع".
بجانب منزل شكرية المهدم، تحلّق 13 شخصًا خارج بيتهم الذي مازال قائمًا. انشغل صاحبه رمضان فرج بتنسيق شبكة الصيد، زوجته تتسامر مع أختها، أبنائه يتابعون الأخبار على شاشات هواتفهم. كان الجميع يحاول الابتعاد عن "مصيبة" الهدم، لكن ما تلبث أحاديثهم أن تعود لنفس الدائرة.
لم تختلف حالة الذعر التي عانت منها عائلة رمضان عن سكان المنطقة، غير أن القدر أبعد الكارثة عن منزلهم في اللحظة الأخيرة "أنا سمعت صوت الكراكات ولما خرجت لقيتهم بيهدوا البيت اللي جنبي وجايين عليا". توسل الصياد الأربعيني للعُمال، مؤكدًا أن منزله يحوي 13 شخصًا بين سيدات وأطفال "الراجل قاللي هنهد البيتين دول عشر دقايق على ما تخلي"، استشاط الأب غضبًا، رفض الانصياع للأمر "حتى معهمش أمر إخلاء وإحنا معانا عقود"، ومع انفعال بقية المواطنين "رموا العمال بالطوب ووقفّوا الشغل".
جاء رمضان من مدينة الفيوم ليعمل في الجزيرة "جبت الأرض من 12 سنة"، تقول زوجته إنهم انتهوا من إتمام المنزل خلال سنوات "بنيناه بدم وتعب وذل"، تقاطعها أختها مُضيفة "إحنا كنا بننزل نبيع سمك في السوق.. نقف مع جوازنا وعيالنا عشان يبقى لينا مأوى".
يتفاوت استقبال الثلاثة عشر شخصًا لما حدث "ياخدوا الجزيرة كلها بس يعوضونا".. تقول أخت زوجة الصياد، فيما تزيد عليها جارتها "يدونا شقق بعدد الأسر اللي قاعدة في البيت"، ثم يحسم رمضان الجدل "لا شقق ولا غيره.. مش هخرج من البيت ده إلا في حتة ينفع اصطاد منها وأكل عيالي".
لم يصب الضرر منزل "أم ياسر" أيضَا، لكن الفزع سيطر على قرارات أسرتها "ابني كان هيتجوز في العيد الكبير أجلنا كل حاجة". منزل العائلة ذو الثلاثة طوابق من المفترض أن يشهد إقامة الابن، وخلال هذه الأيام خططوا لتجهيز شقته، لكن الخوف يتملك منهم رغم البعد الزمني للمناسبة.
ثلاثة أفدنة، هي ما تملك أسرة السيدة "بيتنا وزرعنا هنا أبا عن جد"، تُعدد محاصيلهم من بطاطس، موز، وذرة، لا تُخفي سخطها على معيشتهم "الماية متتشربش وعيالنا أرزقية يوم شغل وعشرة لأ"، لكنها تفصح بمبرر تمسكها بالمكان "الناس بتخاف على بعض لو واحد شاف واحدة بليل بيوصلها للمعدية.. تمشي ويمشي وراها يحرسها".
أمام شاطئ الجزيرة يقبع منزل صابر بيومي، هذا ما جعله يتلقى الصدمة باكرًا "دي أول مرة أشوف عدد كبير من قوات الأمن كده" يقولها الرجل الذي يعيش هنا منذ 17 عامًا "دي أرضي ومعايا عقد مُسجل كمان"، لكن ذلك البرهان لم يشفع له أمام البلدوزر الذي التهم الدور الثاني من بيته "من غير حتى إنذار".
مر اليوم بصعوبة على أسرة بيومي بعد إلقاء قوات الأمن لقنابل الغاز المسيلة للدموع فتسببت في نزول سوائل من فم ابنه الصغير "بقى يصرخ ويقولي أنا بموت يا بابا"، أما زوجته فكان نصيبها "رش خرطوش في رجلها".
تغيرت أحوال الرجل الأربعيني منذ ذلك اليوم؛ حصل على إجازة من عمله الحكومي كموظف في شركة المياه "وبعد ما كنا بين أربع حيطان بنقعد طول النهار في الشارع"، فيما يستقبلهم أحد الجيران في المساء للنوم.
يتابع الموظف الحكومي باستمرار ما يُنشَر عن المكان "بشوف اللي بيتقال عن تطوير الجزيرة وإحنا مش ضد ده، قولي إزاي ابني بيتي بنظام صح وأنا هعمل كدة". يرفض بيومي أن يترك منزله "دي بلدي ولو هعيش في خيمة مش هسيبها" فيما ينتظر أي رد فعل من المسئولين "يقولولنا إذا كانت الجزيرة اتباعت فعلًا ولا لأ".
فيديو قد يعجبك: