بروفايل- في ذكرى غيابه.. على هذه الأرض عاش محمود درويش
كتبت-رنا الجميعي:
في التاسع من أغسطس عام 2008 رحل الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، بعد معاناته مع أمراض القلب، كان اختياره بإجراء عملية القلب المفتوح في تكساس ليس عشوائيًا، أراد بلدًا تؤيد الموت الرحيم، وهذا ما حدث، توفي الشاعر بعد دخوله غيبوبة عقب العملية، حيث تم نزع أجهزة الإنعاش عنه، وغادر الشاعر الذي قال عن فلسطين "سيدة الأرض".
بعدما وارى درويش الثرى بثلاثة أيام، ركب الشاعر الفلسطيني، مُريد البرغوثي، تاكسي، قال للسائق وجهته "خذني إلى محمود"، لم يُعقّب السائق عليه، فالوجهة معروفة للكل، وعند الضريح قرأ السائق الفاتحة لدرويش، كانت فلسطين كُلها ترتدي السواد على رحيل الشاعر، كما أعلن رئيس السلطة الفلسطينية "محمود عباس" الحداد لثلاثة أيام.
كانت فلسطين هي قضيته الأولى والأخيرة، بينما تلوّنت علاقته بالسلطة، وتكاثرت وجهات النظر حولها، لكن لا يستطيع أحد إنكار طابع درويش فوق خَتم القضية، فيُعرّف نفسه "أنا شاعر طروادي"، أي من مدينة طروادة بملحمة الإلياذة لهوميروس، فيقول في حوار مع صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية: "أنا لم أختر أن أكون ضحية، الشروط التاريخية هي التي جعلت الفلسطينيين ضحايا، لذا فأنا أجهد نفسي على التعبير عن وعي الخاسر، إننا لم نسمع صوت الطرواديين أبدًا، تبدد صوتهم، وأنا أبحث عن هذا الصوت".
لم يكن لدرويش منزل واحد، لكنه حمل فلسطين داخله أينما كان، فبعدما خرج من قريته البروة عام 1948 كلاجئ، لم يسكن مكانًا واحدًا، تنقّل بين القاهرة وبيروت وباريس، واستقر في أعوامه الأخيرة بعُمان، ليكون قريبًا من أم البدايات والنهايات.
لم يُعرَف درويش على أنه شاعر فقط، بل سياسي أيضًا، ففي حواره لجريدة أخبار الأدب، عام 2002، قال إن الاثنين يمتزجان طالما كان الوطن في حالة مقاومة للاحتلال، لذا شغر الشاعر عدة مناصب منها مدير مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، كما كان على علاقة قوية بالرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات.
كانت السُلطة أيضًا موضوع لقصائده، حيث كتب مديح الظل العالي عام 1983، قال فيها "ما أصغر الدولة"، وكذلك نشر خطب الديكتاتور الموزونة عام 1986، التي هاجم فيها الحاكم الديكتاتور، هجومه وسخريته من السلطة لم تقتصر على ذلك، لدرويش عدة مواقف أمام ياسر عرفات ومحمود عباس، حين اعترض الشاعر على الخلاف بين الروائي إلياس خوري وعرفات، فاستقال درويش من رئاسة تحرير مجلة شئون فلسطينية، وقال للرئيس الراحل "أنت شاعرنا العام".
تلك السُخرية التي بقيت، ومارسها درويش أمام الرئيس الحالي أيضًا، ففي الأمسية الشعرية الأخيرة له برام الله حضر عباس في منتصف إلقاء درويش لإحدى القصائد، فسكت حتى جلس وقال "أنا مضطر لإعادة القصيدة فإذا ضجر أحد فليتهم الرئيس"، وقبل إلقاء القصيدة مُجددًا علّق ثانية "السلطة في كل شيء، حتى القصيدة".
حينما تُثار قضية فلسطين يظهر درويش إلى الآن، يقتبس الكثيرون من أشعاره، يذّكرون بعضهم ببقاء فلسطين، الحماس الذي يستوطن نفوس المتلقين لشاعر فلسطين، يُقابله غضب من الإسرائيليين حتى الآن، حيث أثارت قصيدة "سجل أنا عربي" حنق وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميري ريغيف، ففي حفلة توزيع جوائز للإنتاج السينمائي، صعد مغني الراب العربي، تامر نفار، وأدى قصيدة "سجل أنا عربي"، التي كتبها درويش عام 1964، واحتجت بمغادرة القاعة.
ورغم ارتباط الشعر بالحُلم، إلا أن درويش لم يكن حالمًا صِرفًا، بل امتزج فيه الحُلم بقوة الواقع، حيث قال حينما سُأل ذات مرة "التاريخ لم يصنعه لا الثقافة ولا الشعر، فالطائرات أقوى من القصائد، لكن الشاعر يحتاج إلى وهم قوة القصيدة ليبرر وجوده، كما أن الشعر يبقى أكثر في الذاكرة لأنه ليس له عنوان محدد"، لذا لم يكن كيان درويش مُحدد أيضًا بنسل، بل بالقصيدة، فلم يتزوج أو يُنجب أطفال، كان رأيه أنه لا يرغب في جلب المزيد من اللاجئين الفلسطينيين إلى العالم.
فيديو قد يعجبك: