حين فقدت عائلة الخطيب 11 شخصا.. مجزرة صبرا وشاتيلا في صورة
كتبت-دعاء الفولي:
مازالت ميساء الخطيب تخاف تلك الصورة. تخرجها بحذر في ذكرى مذبحة صابرا وشاتيلا؛ فتزكم أنفها رائحة الدم، تنفجر المأساة بقلبها مرة أخرى، ترى أمها تركض بين الجثث بحثًا عن أسرتها التي قُتلت، تشاهد نفسها شابة في الواحد وعشرين من العمر، تلملم جثث عائلتها في المخيم المنكوب، تُعاين الصراخ والموت ثم الدفن بمقبرة جماعية، تمر أمامها الأحداث كأنها الأمس. منذ 35 عاما تنكأ الصورة حزنها الرابض خلف ذاكرتها.
السادس عشر من سبتمبر 1982، دخلت قيادات حزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي المخيم الواقع على أطراف لبنان، وبمساعدة جيش الاحتلال الإسرائيلي قتلوا آلاف المدنيين لثلاثة أيام متوالية.
في اليوم الرابع تسربت أنباء عن شيء ما يحدث في مخيم شاتيلا، هرعت فاطمة الخطيب وابنتها ميساء بصحبة الأسرة تجاه المكان. قطعوا المسافة في حوالي نصف ساعة من منطقة الحمراء ببيروت وصولا للبوابات "كان إديش زحام كتير.. قوات الجيش اللبناني منعت الناس تدخل.. لكن أمي كانت كتير قوية ما رضيت تتحرك إلا لما دخلوها ومعها باقي الأهالي" حسبما تروي ميساء لمصراوي.
داخل المخيم كانت تقطن الخالة أم صابر وزوجها وأولادها العشرة والجدّة. كانت الأم فاطمة تتقدم الركب، صامتة كالحجر، تتمتم بالدعاء لئلا يُصاب أحدهم بأذى "لكن لسوء الحظ كانت جدتي هي أول جثة شاهدناها بالمخيم". لا تنسى السيدة الفلسطينية المشهد أبدا؛ كانت الجدّة مُلقاه على كومة من الحجارة، مذبوحة بسلاح أبيض، لم يحتمل جسد العجوز ذات الثمانين عاما الضربة فتوفيت على فورها "اللي قتلها ما رحم أهل البيت ياللي ستي استنجدت بيهم وقتلوهم رغم إنهم كانوا لبنانيين".
قبل مذبحة صابرا وشاتيلا، لم تكن تتوقف زيارات الأم فاطمة وميساء وبقية الأخوة لمنزل الخالة والجدة "أمي لها 7 إخوات بنات.. كانوا كتير مرتبطات ببعض"، حين كانت الأخوات تجتمعن والأبناء "ما بيقدر الغريب يفرق مين والدة مين لأنه كلنا كنا نقول لخالاتنا يا يمّا"، فاضت منازل عائلة الخطيب بالحب والحنان والضحك رغم الشتات بين بيروت ومخيم شاتيلا وتل الزعتر، غير أن ذلك انطفأ بعد المجزرة.
حين تحاملت الأم فاطمة على قدميها، استكملت مسيرتها داخل المخيم بحثا عن أختها وبقية الأسرة "وقتها ما قدرنا ندور ويّاها من كتر تعبنا وحرقة قلوبنا". قبع منزل الأخت "أم صابر الخطيب" على أطراف المخيم أيضا، لذا كان أول مكان دخلوه بعد رؤية جثة الجدّة.
منضدة قصيرة عليها بقايا طعام، قطع من البطيخ، مياه، وحقن مُلقاه في الأرض "عرفنا إنها مخدرات"، كان ذلك أول ما وقعت عليه عين فاطمة وميساء في المنزل "أمي عرفت إنه أختها وولادها ماتوا.. خرجت سريعا من البيت وبلشت تفتش عن جثثهم".
مازالت ميساء تُصاب بالنفور حين تتذكر بيت خالتها "أي إنسان هذا الذي يقتل أسرة بكاملها ثم يجلس على طاولتهم يأكل الطعام؟ حتى الحيوان ما بيفعل هيك"، لكن ذلك الشعور يتحول لغصة حين تعاودها مناظر الجثث داخل المخيم.
"ما بتذكر إني شفت جثة مقتولة متل التانية".. لم يفلت أحد السكان من الموت؛ رأت ميساء طفلة عمرها سبع سنوات رأسها متفجر، عجوز مقتول بالرصاص وبجانبه ينام عكازه، مجموعة من الشباب تم ربط أيديهم خلف ظهورهم وإعدامهم بشكل جماعي؛ منهم حسين ابن خالتها "أم صابر"، وكان هو ثاني من عثروا عليه بعد الجدّة.
على مدار اليوم ظهرت بعض جثث الأسرة واحدا تلو الآخر "أمي أُصيبت بهستيريا.. أي حدا متلها شاف إمه مذبوحة ما بيضل براسه عقل"، لكن الوالدة فاطمة ما توقفت عن استكمال التفتيش حتى غابت شمس اليوم الأول وعادت العائلة المنكوبة للمنزل بعد أن جمعوا جثامين ذويهم في مكان بعينه.
حينما استفاقت الابنة من صدمة اليوم الأول "بلشنا نسمع حكايات من المجزرة"، إلا أن أكثر ما علق بذهنها هو هؤلاء الأشخاص الذين جمعتهم قوات الجيش اللبناني، قبل أن تصحبهم في رحلة إلى المجهول "إلى الآن ما حدا بيعرف لهم طريق"، ورغم أن بعض المشاركين في خطف المواطنين اعترفوا بقتلهم فيما بعد "لكن ما بنعرف وين قتلوهم ولا وين تركوا الجثامين".
في الأيام التالية للفاجعة "أدركنا إنه جدتي وخالتي وزوجها و9 من أبنائها في عداد الأموات"، ولأن فاطمة ومن معها وجدوا جثامين 9 فقط من الاثني عشر شخصا، فقد علموا أن الثلاثة الباقين ذهبوا في شاحنات الموت بصحبة الجيش اللبناني، فيما لم ينجُ من أسرة "أم صابر" بأكملها إلا أحمد ذو الثلاثة عشر عاما، الذي هرب مع ساعات المجزرة الأولى، حين أصيبت جارته فحملها إلى المستشفى القريب من المخيم.
43 عاما فقط هو عُمر السيدة فاطمة وقت مجزرة صبرا وشاتيلا "أمي حملت الهم بكير.. ربتنا لأنو والدي كان مهاجر معظم الوقت.. هي صديقة وأخت وأم وأب.. وبالآخر استشهدت معظم عائلتها". في صمت تام بدأت أسرة الخطيب تدفن الأحبّة "في قبر جماعي متل أهالي المخيم"، لكن الحاجة فاطمة أبت أن تمر مراسم الدفن كغيرها "جمعت صورهم ووضعتها في أكثر من برواز لتزين بها القبر".
حملت السيدة المكلومة صور عائلتها، وما أن همّت بوضعها حتى انهارت في بكاء مرير؛ وقتها تم التقاط صورتها التي ضمّت بقية نساء العائلة؛ على يسارها جلست ميساء، فيما الخالات وقفن في الخلف، وابنة أخت فاطمة على اليمين.
منذ عدة أعوام وصلت الصورة لميساء عن طريق صديقة لها بلبنان "يمكن لما بشوفها بزعل.. لكنها لا تمثل إلا شيء بسيط من حجم المهزلة". لا تعرف ميساء إذا كانت والدتها البالغة من العُمر 80 عاما قد شاهدت الصورة أم لا "بس يعني الصورة ما راح تفكر إمي لأنها ما نسيت أصلا".. قبل المجزرة وبعدها ظلت فاطمة شاهدة على موت المُقربين، ففي مخيم تل الزعتر حيث ولدت ميساء، حدثت مذابح أخرى عام 1976، وبها فقدت الأم أخيها الوحيد؛ قتلته القوات اللبنانية السورية وأسرته بأكملها، وربما ما رأته الابنة الفلسطينية في تل الزعتر، جعل تفاصيل الرعب في "شاتيلا" مكررة.
بين تل الزعتر وصابرا وشاتيلا وما تبعهما من مجازر، آمنت ميساء أن الفلسطينيين يُعاقبون لجنسيتهم "ولأنهم لاجئين"، وأيقنت فاطمة أن وجعها الحقيقي مصدره خُذلان العرب وليس بطش العدو.
رغم كل شيء لم تتنازل فاطمة عن عهدها "لا قصرت في تربيتنا بمفردها ولا قصرت في القضية"، كانت السيدة التي حُرمت عليها أرض فلسطين، تطوف بصور أختها ووالدتها في لبنان في مسيرات متفاوتة. لم تترك طريقا تدعم به فلسطين إلا واتخذته "كان إيمانها بيتعزز أكتر.. صار عندها ثأر شخصي"، فيما ظلت تزور قبر الخالة "أم صابر" وبقية الأسرة حتى وقت قريب.
في سبتمبر من كل عام تُعاد الذكرى؛ فتتجنب ميساء القاطنة برام الله الاتصال بوالدتها "ما بقدر اتحمل بكائها"، تُقسم السيدة العاملة بالتمثيل ألا تنظر لصورة الدفن مرة أخرى "بس ما بقدر.. كل عام بقول هيك وبلاقي حالي عم بكتب عنها وعن المجزرة".
لم يعد بإمكان الابنة ووالدتها الهرب مما حدث "دايما فيه إشي بيجدد الجرح"، تذكر ميساء حين تُوفي أحمد، الناجي الوحيد من الأسرة مطلع 2017 في لبنان "كانت جنازته كتير ضخمة وأمي زعلت ضلت تستقبل العزاء أسبوع ببيت العائلة".
وجع المجزرة محفور في عظام ميساء، لكنها تعلم أن وجودها في الحدث كان لهدف "إنه أضل كل عام أحكي عن اللي شوفته.. حتى لو من خلال صورة أو كتابة أو فن".
فيديو قد يعجبك: