في ذكرى الأربعين.. كيف تجلّت مذبحة الروضة في "منزل وحيد"؟
كتب- أحمد الليثي ودعاء الفولي:
تصوير- كريم أحمد:
كان منزل سلامة منصور ضيقًا على اتساع مساحته؛ يرتع فيه الخوف. له فناء مفتوح على السماء وثلاث غرف كبيرة. في ساحته يلهو الأطفال على استحياء، تحاوطهم نظرات الأمهات. تبدو الأجواء هادئة في قرية الروضة غرب العريش، لكن المذبحة التي وقعت 24 نوفمبر الماضي، تركت بصماتها في نفوس آل البيت؛ الذُعر يعشش بينهم، تكفي حركة مُريبة بالخارج، لينتفضوا من أماكنهم. ما رآه أفراد تلك العائلة عسيرًا، لم يفقدوا أحد أفرادها فقط، بل فقدوا أمانهم. باتوا يوقنون أن القتل رابض على الأبواب، وما هي إلا فترة مؤقتة حتى يأتيهم.
قبل صلاة يوم المذبحة اجتمعت عائلة الحج سلامة كعادتهم صباح كل جمعة، يباشر الرجل أسرته وكأنه يتمّم عليهم، يحث ولده الأكبر عيد للإسراع في الوضوء، ينادي أحفاده ليكفوا عن اللعب أعلى سيارته نصف النقل ويتابع أحوال بنات الأسرة في حنو، فيما كانت الدقائق ورصاص الإرهابيين كفيلة بتمزيق الشمل؛ في لحظات أضحت العائلة "نموذجا مصغرا" لما عاشته القرية برمتها؛ في بيت عم سلامة الشهيد والمصاب، أرامل وصغار مذعورون، من يبغي الهجرة ومن ينتوي مواجهة مستقبل مشئوم، من يبحث عن الجاني ومن ينعي حظه أنه لم يكن بين الشهداء يومها.
لم يزل سلامة جليس الفراش، إثر رصاصتين اخترقتا فخذه وصدره من ناحية اليسار، تعافى قليلا جراء نقله لمعهد ناصر بالقاهرة، فيما تظل أركان المجزرة متمترسة داخل فؤاده؛ كان التكفيريون يرشون الرصاص بهمجية وهم يرددون "الله أكبر"، بينما عم سلامة يرد بـ"لا إله إلا الله.. محمد رسول الله"، يصيح بعنفوان من داخل المسجد، كأنها "الحضرة" في كل اثنين وخميس كما عهدها في الروضة، يتبسم خد الرجل الخمسيني وهو يقول من أعلى فراش المرض "والله مكنتش حاسس إن الموقف صعب.. كنت عارف إننا كسبانين وهما في أسفل سافلين، صحيح بيكبروا بس من قلوب حجر، وإحنا بنردد الشهادة زي الأطفال في حلقة ذكر".
كان الله حاضرا في بيت عم سلامة. أمهل القدر بضعًا من أبنائه للتأخر على ميقات الصلاة؛ كحال ابنه الأكبر عيد، بينما تواجد ولده الأصغر منصور داخل المسجد. تحرك عيد لهناك، ثم عاد راكضا مع بدء الهجوم. اختبأ داخل بيت الأسرة، حسبما تروي صابرين زوجته "بقيناً خايفين يدخلوا علينا يقتلوه".
لكن عيد لم يكن وحده من احتمى بالمنزل "في واد قريبنا اسمه محمد عنده 17 سنة ربنا نجّاه لقيناه عم يجري يومها ودخلناه البيت"، تصمت صابرين قليلا، ثم تتجه لركن مُظلم في المنزل، تُخرج جلبابا أبيض وبنطالا غارقين في الدماء "دول بتوع قريبنا الناس طرطشت عليه بدمها"، حين بلغ محمد المنزل "غيّرنا هدومه وخبيناه تحت السرير ووقفنا على الباب مستنيينهم ييجوا يموتونا كلنا".
في بيت سلامة عاش الأبناء؛ منصور رفقة زوجته بإحدى الغرف، وعيد مع زوجته صابرين بأخرى، بالإضافة للأشقاء محمد وناصر وآمنة، أما مريم الابنة الكبرى فانتقلت لبيت زوجها، بمنطقة قريبة، إلا أنها عايشت تفاصيل المذبحة أيضا، ولولا ذهاب زوجها لمسجد آخر قريب "كان زمانه اتقتل".
أربعون يوما كفيلة لتوقن الأسرة السيناوية أن التعايش مع الوضع الجديد مستحيل؛ لا تنام مريم، ابنة سلامة، تقريبا "بضل صاحية باصّة على ولادي خايفة التكفيريين يرجعوا تاني.. بضل مفتحة عيني طول الليل"، تحكي عن ابنتيها ليالي وزهرة "اللي كل شوية يقولولي هما هييجوا إمتى تاني يامّا؟"، أما زوجها "أبو كريم" فيفكر جديًا في اصطحابها وأبنائهما بعيدا عن الروضة.
في باحة المنزل السيناوي "كراتين" تحوي عددا من الأطباق وأدوات المطبخ، جهزتها "صابرين" زوجة عيد، كي تساعدها على الفرار حين تتيح الفرصة ذلك "مابقناش عارفين القعاد هنا أحسن.. ولا نبعد وننفد بأرواحنا"، تقولها وفي الخلفية ذاك الجلباب الملطخ بالدماء والملقى أرضا من وقت المذبحة.
اغتال الحادث من أطفال الروضة بعضًا من البراءة؛ كبروا فجأة بعدما صارت كلمات الرصاص والدم تتخلل رواياتهم الطفولية، فيما يحمل "عيد" الابن الأكبر لعم سلامة صغيره ذا الشعر المنسدل وهو يحكي بمرارة "الواد قعد ييجي إسبوع مابيشوفش النوم غير دقايق، بيبصلي وعينه مليانة رعب".
في المذبحة تكمن تفاصيل عدة لم ترو؛ في المسجد ظل عم سلامة ساكنا يعلوه 5 ضحايا كما البنيان المرصوص، والرصاص يتجول في أركان البيت المعمور، بعد ربع ساعة كاملة من "الحرب" سمع طفلا يهمس في أذنه أعلى كتفه الأيسر "لقيته بيقولي أنت بخير ، فقلت له طمني إنت، سكت ورد براحة: أنا كويس".
ثبّت الصبي عزيمة الرجل الخمسيني "لحد دلوقتي ماعرفش مين الواد ده"، لكن الجحيم بدأ من جديد "لقيت واحد مسلح بيعدي على كل واحد فيه نفس يصفيه.. مفيش حد مضروب طلقة واحدة"، اتخذ أحد التكفيريين عم سلامة وبنيانه من الشهداء درجة سلم وصعد أعلى المنبر ليفرغ بقية ذخيرته، فيما نجا عم سلامة في نهاية المشهد بأعجوبة.
فقد عم سلامة شقيقه وابن شقيقه، وكذا كانت الفاجعة الكبرى برحيل فلذة كبده "منصور".
كان لـ"منصور" من اسمه نصيب، فاكهة الأسرة، يحوز رضا الكل، الدعوات تنهال على رأسه، لذا حين فقدته العائلة احتسبوه مكملاً المسيرة التي بدأها "طبيعي لما حد يموت الموتة الحلوة دي يكون منصور.. ده شهيد عند ربه".
عاش الشاب العشريني أزهى أيامه قبل أن يختطفه الموت؛ فبعدما رُزق بصغيره فادي طار فرحًا، كان ذلك قبل 25 يوما فقط من المذبحة. لم يزل سرير الطفل الجديد زاهيًا، يحتل ركنًا قصيًا بغرفة نومه. تزوج "منصور" عن حب، يشهد حائط غرفته الممهورة بعبارات العشق على ذلك، لذا ما أن أنهى خدمته العسكرية حتى دخل عش الزوجية "مكنش يرفض لحد طلب.. من كام شهر جاب لمراته مكنة خياطة عشان يكونوا كتف بكتف".
مرت الأيام وأزيز الرصاص لم يخفت ضجيجه؛ حين سمعت مريم، أكبر أبناء سلامة، أصوات الهجوم لم تعلم مصدره "جريت على جامع الرحمن اللي جوزي بيصلي فيه جبت ابني كريم وأخوه الصغير"، ما أن عادت للمنزل حتى احتضنت أطفالها الأربعة "فضلت باصرخ أقول إخواتي راحوا.. أبويا راح". أما آمنة أختها الأصغر، فطاوعتها نفسها أن تطل خارج المنزل علّها ترى شيئا.
"انا شوفتهم.. شعورهم طويلة وبشرتهم بيضا".. حين التقت عينا آمنة بأحد التكفيريين الحامل لسلاحه على مقربة من المسجد "شاور لي بإيده عشان ادخل جوه البيت"، همّت بغلق الباب، لكنه أطلق رصاصة مرت بالضبط فوق رأسها. ترفع الشابة يدها لتصف المشهد، ترتعش أوصالها وهي التي لم يمسسها الفزع من قبل، بينما تخاف الآن من الذهاب إلى المدرسة.
شوارع القرية يغلفها الحزن، وكثرة التفكير في مستقبل مبهم تثير الوساوس في العقول بعدما باتت أسر عدة بلا سند أو مصدر رزق، في المقابل مازالت الحكومة تفند حالات المكلومين "كانوا قايلين هيدوا الشهيد 200 ألف والمصاب 50، بس رجعوا عملوا كومسيون طبي عشان فلوس المصاب تكون على أد نسبة العجز"، يقولها عيد، قبل أن يردف: "أي نوايا تسند الزير.. في ناس كتير مش لاقيه اللضا".
"خلاص مابقتش ليا فيها حاجة.." يلتقط، أبو كريم، زوج مريم أنفاسه المتسارعة وهو يربت على كتف صغيره، يفكر كيف يدبّر أموره إن ترك القرية "مش عارفين نلاقيها منين ولا منين، السكن ولا الشغل.. مش عايزين حاجة غير الأمان". يسخر من تعويضات الدولة لأهالي الشهداء والمصابين "هما فاكرين الفلوس هتعمل لنا حاجة.. طيب أنا مستعد أجمع من أهل الروضة 100 مليون ونديهم للحكومة بس يرجعولنا الناس اللي ماتت".
وفيما يفكر "أبو كريم" بالفرار، صار عيد سلامة المسئول الأوحد عن عائلة قوامها والده ووالدته، أشقاؤه وشقيقاته، زوجة عمه وأولادها، وكذلك أسرته الصغيرة.
منذ خمس سنوات تزوجت صابرين من عيد، تركت منزل أهلها في مدخل شمال سيناء "هناك مكنش أمان وقلت الروضة أحسن"، لم تعلم الشابة العشرينية أن الأمور ستتغير بعد الحادث، إذ قرر عيد أيضا الانتقال للإسماعيلية، بينما تطارده غرفة أخيه الراحل منصور، صورة والده المصاب، زوجة عمه الأرملة، شقيقه الأصغر الذي انتابته حالة نفسية جراء المذبحة، الحديث عن هجوم إرهابي جديد، وحالة الحصار التي لازمت الروضة "كل ده مخليني عايز أشيل أبويا وناخد حاجتنا ونهج".. الآن صار هدفه الأوحد أن تنام أسرته ليلا باطمئنان.
فيديو قد يعجبك: